مقالات عامة

حَفْريَّاتُ الوَهْمِ في صَحْراءِ الوَعْي المُعَلَّب: سُرياليَّةُ التَّضليلِ وانكسارُ المِرآةِ الرُّوحِيَّة

في مملكةٍ تُدارُ بأيدي “أبالسة الظل”، حيثُ تتحوَّلُ الحقائقُ إلى كائناتٍ هلاميَّةٍ تسبحُ في فضاءٍ من الضباب المُعطَّر بأوهام اليقين، يصيرُ العقلُ غريبًا في وطنه… ؛ و هنا، تُحاكُ الخدعُ بلغةٍ أشبهَ بطلاسم ساحرٍ مُراوغ ؛ تُقلبُ المفاهيمَ رأسًا على عقب، فتَذوبُ “الحقيقة” كالملحِ في ماء الأوهام، بينما يطفو “الباطل” كزيتٍ لامعٍ يُزيّنُ صحونَ العقول الجائعة… ؛ اذ السعادةُ تُلبسُ ثيابَ الشقاء والشقاء يعرض على انه سعادة ، والجنونُ يرتدي تاجَ الحكمة، وكأنَّ الكونَ تحوَّلَ إلى لوحةٍ لـ”سلفادور دالي”؛ تتهاوى فيها الساعاتُ فوقَ أشلاءِ الوعي المُنهار. 

نعم في عَالَمٍ تُديرهُ أَرْجُلٌ بلا رُؤوس، حَيثُ تَتلبَّسُ الأكاذيبُ أَجسادَ الحَقائِقِ فَتَمْشي عَلَى الأَرْضِ كَالسَّحَرَةِ المُتَشَحِّينَ بِلُغَةِ الضَّوءِ، يَصيرُ الوَاقِعُ مَسْرَحًا لِـ “بُوشكينْ” المَجْنُون. هُنا، تَبْني “أَرُواحُ التَّضليلِ” قُصُورًا مِن رَمْلِ الجَهْلِ، وتَنْسُجُ خُيوطَ الوَهْمِ بِإِبرَةٍ تَخْتَلِطُ فِيهَا دَمُ الْعُقُولِ بِحِبْرِ الْأسَاطِير. الحَقِيقَةُ تَتَحَوَّلُ إِلى طُيُورٍ مَشْوُوهَةٍ تَحْمِلُ أَجْنِحَةَ الوَسَاوِس، والبَاطِلُ يُطِلُّ مِنْ شُبَّاكِ الْعُيُونِ كَعَرُوسٍ تَحْمِلُ قِناعَ المَوْتِ. السَّعَادَةُ تَصْدَأُ كَسِكَّةِ حَدِيدٍ فِي مَطَرِ الْغُبْنِ، والشَّقاءُ يُغَنِّي بِصَوْتٍ أَجْشَّ كَأَنَّهُ صَدا مُبْهَمٌ لِسَاعَةٍ وُلدَتْ مَيِّتَة. 

الكَلِمَاتُ المُشَفَّرَةُ: لُعْبَةُ الأبالِسَةِ فِي مَصْنَعِ الأَوْهَامِ 

لَيْسَتِ الحَقَائِقُ هُنا سِوَى أَحْجِيَّةٍ مَقْرُوءَةٍ بِعَيْنٍ وَاحِدَة، حَيثُ يُصَنِّعُ “شَيَاطِينُ التَّرَابُطِ الْجَمْعِيّ” وَاقِعًا مَزِيفًا بِآلَةٍ تَسْحبُ الألْوَانَ مِنْ قُزَحِيَّةِ الْعَيْنِ لِتَرْسُمَ بِهَا سَماءً رَمَادِيَّة… ؛ و الجَهْلُ يُصَدَّرُ كَسِلْعَةٍ فَاخِرَةٍ، وَالْعُقُولُ تُغْسَلُ بِمَاءٍ مَسْمُومٍ يُسَمَّى “تَزييف الْوَعْي”… ؛ و فِي هَذَا الْمَشْهَدِ، يَتَحَوَّلُ الْفَرْدُ إِلى دُميَةٍ تَرْقُصُ عَلَى خُيوطِ الْغَمْزِ واللَّمْزِ، تَحْمِلُ فِي يَدِهَا مِفْتَاحًا وَهْمِيًّا لِقَفَصٍ لَا قُضْبَانَ لَهُ. 

 مَائَةُ مِرْآةٍ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ : اغْتِيَالُ الذَّاتِ فِي زَمَنِ التَّشَظِّي 

الْمَرْآةُ الرُّوحِيَّةُ فِي هَذَا الْكَوْنِ تَكْسِرُ نَفْسَهَا بِإِرَادَتِهَا، فَتَخْرُجُ مِنْهَا وَجُوهٌ لَا تُشْبِهُ أَحَدًا… ؛ و الْوَاعِي يَسْعَى لِتَرْقِيعِهَا بِقِطَعٍ مِنْ أَحْلَامِهِ الْبَائِسَة … ؛ غَيْرَ أَنَّ كُلَّ لَصْقَةٍ تَزِيدُ الشَّقَّ عُمْقًا… ؛  حَتَّى الْكَلامُ يَخُونَ صَاحِبَهُ ؛ فَالْحُرُوفُ تَنْزَفُ حِبْرًا أَسْوَدَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلى الْأُذُن، وَالْمَعْنَى يَتَسَربَلُ بِثَوْبٍ مُقَلَّمٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحِقْدِ وَالْخِدَاع… ؛ و فَضَاءُ الْوَعْيِ الْحَقِيقِيِّ هُوَ الْغَرِيبُ الْأَبَدِيّ فِي مَدِينَةٍ تَبْكِي عَلَى جُثَثِ الْأَفْكَارِ الْمَقْتُولَة. 

 الْوَعْيُ الْمَسْحُورُ: هَلْ يُولَدُ الْإِدْرَاكُ مَرَّتَيْنِ؟ 

لِكَيْ تَخْرُجَ الْحَقِيقَةُ مِنْ بَطْنِ الْأُسْطُورَةِ، يَجِبُ أَنْ تَمُوتَ أَوَّلًا كَمَلِكَةٍ تُقَدِّمُ نَفْسَهَا قُرْبَانًا عَلَى مَذْبَحِ الشَّكِّ… ؛ و لَكِنْ كَيْفَ لِلْمَوْتِ أَنْ يَحْيَا فِي بَيْتٍ تُحْرِقُ فِيهِ الْأَسْئِلَةُ قَبْلَ أَنْ تُولَد؟!

الْوَعْيُ يَحْتَاجُ إِلى جُرْعَةٍ مِنْ “الْجُنُونِ الْحَكيم”: أَنْ تَرَى الْعُكَّازَ حَيَوَانًا يَمْشِي، أَنْ تَسْمَعَ صَمْتَ الْحَجَرِ وَهُوَ يَحْكِي عَنِ الْجَريمةِ الْكَامِنَةِ فِي جُذُورِ الشَّجَر… ؛  لَكِنَّ الْمَشْكِلَةَ أَنَّ الْأَسُسَ – مَعْرِفِيًّا، نَفْسِيًّا – قَدْ صَارَتْ أَحْجِيَّةً فِي مُتْحَفِ الْأَسْئِلَةِ الْمَنْسِيَّة.  

 الْخَلاصُ: هَلْ نَحْفُرُ فِي قُبُورِ الْأَوْهَامِ أَمْ نَبْني قَصْرًا مِنْ ضَبَاب؟ 

رُبَّمَا يَكْمُنُ الْجَوَابُ فِي أَنْ نَكُونَ سُرياليِّينَ إِلى حَدِّ الْإِفْلاسِ!

أَنْ نَرْسُمَ الْحَقِيقَةَ بِأَلْوَانٍ لَا تُوجَدُ، أَوْ نَخْتَرِعَ لُغَةً جَدِيدَةً تَنْطِقُ بِالْأَسَاطِيرِ كَمَا تَنْطِقُ بِالْحَجَر… ؛  أَوْ أَنْ نَلْعَبَ مَعَ الْأَبَالِسَةِ لُعْبَةَ الْوُجُودِ: نَتَظَاهَرُ بِالْمَوْتِ كَيْ نَعْثُرَ عَلَى نَفْسِنَا فِي شَقِّ الْجِدَار… ؛  لَكِنَّ الْيَقِينَ الْوَحِيدَ هُوَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ – كَطِفْلٍ يَخْشَى الظَّلامَ – تَخْتَبِئُ خَلْفَ سُتُورِ الْأَكْاذِيبِ، تَنْتَظِرُ مَنْ يَدْفَعُ الثَّمَن: أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا بِقَدْرٍ كَافٍ لِيُوقِظَ الْعَالَمَ مِنْ سُبَاتِهِ الْهَلامِيّ.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!