مقالات

جرائم الامتناع عن الفعل في القانون الجنائي: إشكالات الإثبات

تعد جرائم الامتناع عن الفعل من أكثر المواضيع تعقيداً في القانون الجنائي، حيث تختلف طبيعتها عن الجرائم التقليدية؛ التي تقوم على فعل إيجابي ملموس، وفي هذا السياق فإن الامتناع عن الفعل هو امتناع الشخص عن القيام بفعل يفرضه عليه القانون أو الواجب، كلما تسبب هذا الامتناع في ضرر أو تعريض مصلحة محمية للخطر، وتظهر هذه الجرائم بوضوح في حالات متعددة، مثل “امتناع الطبيب عن تقديم الإسعافات الأولية لمريض في حالة حرجة”، أو “امتناع الشاهد عن الإدلاء بشهادته أمام المحكمة”، مما يجعلها محل اهتمام الفقه الجنائي والقضاء على حد سواء.
إن المسؤولية الجنائية في جرائم الامتناع عن الفعل تقوم على توافر واجب قانوني أو عقدي يلزم الشخص بالقيام بفعل معين، فمجرد الامتناع لا يكفِ لحدوث الج#ريم*ة، بل يشترط أن يكون الممتنع قادراً على القيام بهذا الفعل واعياً بالتزامه، على سبيل المثال، فإن “رجل الأمن الذي يهمل في التدخل لحل شجار يتطلب تدخله يكون موضع مساءلة قانونية”، بينما لا تثار مسؤوليته إذا كان غير قادر على التدخل لسبب خارج عن إرادته، هذا التعريف يسلط الضوء على أهمية العلاقة بين الواجب القانوني والقدرة الفعلية على التنفيذ في حالات الامتناع.
إن مسألة الإثبات في جرائم الامتناع تشكل تحدياً أساسياً، نظراً لعدم وجود فعل إيجابي يمكن ملاحظته وتوثيقه بسهولة، وعلى عكس الجرائم الإيجابية التي يمكن إثباتها من خلال الأدلة المادية والشهادات، فإن إثبات الامتناع يعتمد على إثبات الواجب على الفعل والقدرة على القيام بذلك، بالإضافة إلى وجود القصد الجنائي، وكثيراً ما يواجه القضاء صعوبة في تحديد ما إذا كان الامتناع نتيجة للإهمال أو القصد، مما يتطلب استخدام الأدلة والظروف المحيطة.
تزداد هذه الصعوبة تعقيدًا عندما يكون هناك أكثر من شخص يمكنه القيام بالفعل الممتنعن وفي حالات الطوارئ العامة، مثل حادث الغرق في مكان عام، يثار التساؤل حول ما إذا كان جميع الشهود مسؤولين عن عدم التدخل، أم أن المسؤولية تقع فقط على أولئك الذين لديهم القدرة والمهارة اللازمة لإنقاذ الضحي،. ويسلط هذا التساؤل الضوء على إشكالية تحديد الشخص الملزم قانوناً بالفعل، خاصة في غياب نصوص قانونية صريحة تحدد هذا الالتزام.
ورغم التعقيدات المرتبطة بجرائم الامتناع، فإن معالجتها القانونية ضرورية لضمان عدم استغلال السلبية كوسيلة للتهرب من المسؤولية؛ لذلك، من الضروري وضع تشريعات واضحة تحدد واجبات الأفراد في المواقف الحرجة، وتضع معايير دقيقة لقياس وجود القصد الجنائي في حالات الامتناع، بالإضافة إلى ذلك، فإن تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية التدخل الإيجابي يمكن أن يساهم في الحد من حدوث هذه الجرائم، وتعزيز دور الأفراد في حماية الحقوق والمصالح العامة.
وفي نهاية المطاف، تظل جرائم الامتناع اختباراً دقيقاً لمفهوم العدالة الجنائية، حيث يلتقي القانون بالواجبات الأخلاقية والاجتماعية، ومن ثم فإن مواجهة هذه الجرائم تتطلب التوازن بين احترام الحريات الفردية وضمان أداء الواجبات القانونية، مما يستدعي جهوداً قضائية وفقهية متواصلة للتعامل مع هذه القضايا بالعدل والإنصاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!