تموز الحارق والكهرباء الغائبة: العراقي بين لهيب الصيف وغياب
مقدمة:
الحديث عن أزمة الكهرباء في العراق أشبه بنبش جرح نازف لا يندمل، وفتح ملف من ملفات العار الوطني المزمن… ؛ فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1920، لم يكن ملف الكهرباء في يوم من الأيام مطمئناً أو مستقراً، لا من حيث البنية التحتية ولا من حيث العدالة في التوزيع، رغم أن الدولة مرت بعهود ملكية وجمهورية واشتراكية وصدامية وديمقراطية، ولكن “الضوء” ظل بعيد المنال، كأنما هو حلم مؤجل أو أمنية لا تتحقق إلا بمولد أهلي صاخب… ؛ وظلت أزمة الكهرباء شوكة في خاصرة العراقي منذ عقود، اذ تحوّلت من إهمالٍ مزمِن إلى عقابٍ جماعي فشلَت الحكومات المتعاقبة في إنهائه… ؛ إنها قصة معاناة يومية تتفاقم مع كل صيف لاهب، تاركةً آثاراً مدمرة على الصحة الجسدية والنفسية للمواطن، ومُثبِّطةً أي أمل في حياة كريمة.
جذور الأزمة: تاريخ من الإهمال والعقاب:
ورغم أن العقود الأولى من عمر الدولة العراقية شهدت بداية متعثرة كحال معظم الدول النامية، إلا أن الريف والمناطق النائية ظلت لسنوات طويلة خارج حسابات “الضوء”، تعيش على الفوانيس و”اللالات” النفطية، وكأنها ليست جزءاً من جسد الدولة… ؛ اذ لم يكن وضع الكهرباء في العراق مثالياً حتى قبل عام 1990… ؛ فمناطق ريفية واسعة وبيوت معزولة ظلت محرومة من “النور” ليلاً كما اسلفنا ، وهو إرثٌ طويل من سوء التخطيط والإدارة بل وتنفيذا لأوامر المستعمر وقوى الاستكبار .
لكن الكارثة الكبرى ونقطة التحول الرهيبة والانهيار التام ؛ بدأ فعلياً بعد استرجاع نظام صدام للكويت عام 1990، حين شنّت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة حرباً ضروساً على العراق، دمرت فيها البنية التحتية العراقية بشكل ممنهج وشامل ، واستهدفت تحديداً قطاعي الماء والكهرباء والمصانع والطرق والبنايات الحكومية والدوائر الخدمية … ؛ في سياسة وصفت صراحةً بـ “إعادة العراق إلى العصر الحجري” … ؛ وكأن الغاية كانت تعذيب الشعب لا إسقاط النظام… ؛ على الرغم من اعلان التحالف والامريكان : بأن الهدف المعلن معاقبة النظام، لكن الثمن الفادح دفعه الشعب العراقي بكامله، حيث غرق في ظلام دامس وحرمانٍ من أبسط مقومات الحياة، مع ما رافق ذلك من حصارٍ دولي طويل زاد الطين بلة، وترك المواطن يدور في حلقة مفرغة من البؤس واليأس.
وبالفعل، تم تدمير محطات الطاقة والمحولات الرئيسية والمصانع والمعامل والخطوط الناقلة، في ضربات وصفت بأنها “إعادة العراق إلى العصر الحجري”، كما صرح بعض الجنرالات الأمريكيين آنذاك. ومنذ ذلك الحين، دخل العراقي في دوامة مظلمة، بين الحصار والتجويع والعوز، وبين حرارة الصيف اللاهبة ونقص الخدمات… ؛ إذ لا كهرباء، ولا ماء صالح للشرب، ولا غذاء كافٍ، ولا دواء شافٍ، ولا عمل كريم، ولا وطن يُطمأن إليه… ؛ كما اسلفنا .
عصر صدام: التهميش والفساد بدلاً من الحلول:
حتى بعد انتهاء الحرب وفي ظل هذا الجحيم ، لم يُبدِ النظام البائد جهداً حقيقياً لإصلاح ما دمرته الحرب… ؛ اذ لم يسعَ النظام الصدامي إلى إعادة بناء القطاع الكهربائي أو حتى التخفيف من معاناة المواطنين عبر السماح باستيراد المولدات الأهلية… ؛ بل زاد الطين بلة بسياسات فاسدة ومتخبطة وحاقدة ومنكوسة ؛ فبينما كان العراقيون يعانون من انقطاع الكهرباء وشدة الحر فضلا عن العوز والجوع ، انشغل النظام بتوزيع امتيازات النفط (الكوبونات) على داعميه من الإعلاميين والفنانين من شذاذ البلدان الناطقة بالعربية ، وإرسال مساعدات مالية إلى الخارج وتوزيع العطايا على الأنظمة والجهات العربية كالأردن وفلسطين وغيرهما … ؛ بينما ترك العراقيين يصطرخون تحت شمس تموز وآب، في بيوت من الصفيح، دون تبريد، دون ماء بارد، ودون أدنى مقومات الحياة الكريمة … ؛ كل هذا البذخ الصدامي يستمر في وقت كان يحتاج فيه مواطنوه لأبسط الخدمات… ؛ كما أعاق النظام عمداً حلولاً بديلة مثل استيراد المولدات الكهربائية من القطاع الخاص كما اسلفنا ، ليبقي الشعب رهيناً لسيطرة النظام وفساده.
ما بعد 2003: مليارات مهدرة وأزمة مستفحلة:
ثم جاء عام 2003، وسقط معه النظام الاجرامي ، وانهارت معه مؤسسات الدولة التي كانت هشة أصلاً , وتفاءل العراقيون خيراً وهم يشهدون وعوداً أمريكية بإعادة إعمار العراق وتحسين الخدمات الأساسية، وكان ملف الكهرباء من أبرز الملفات المطروحة… ؛ ولكن، وبعد أكثر من عقدين، ومليارات الدولارات التي أنفقت وتبخرت، ما زال العراقي ينام ويصحو على أزيز المولدات، ويعيش أسيراً لجدول “القطوعات”، وكأن الكهرباء نعمة مستحيلة.
وبينما ارتفعت أعداد السكان وتوسعت المدن وتغير نمط الحياة وزاد استهلاك الأجهزة الكهربائية، لم تواكب البنية التحتية هذه التحولات… ؛ بل بقيت أغلب المناطق تعتمد على خطوط متهالكة، ومحولات قديمة، ومحطات شبه مشلولة… .
ورغم التحسن النسبي في بعض المناطق (مثل البصرة التي شهدت تطوراً ملحوظاً)، إلا أن الصورة العامة قاتمة… ؛ فقد تضخم الطلب بشكل هائل بسبب:
1. الزيادة السكانية الكبيرة.
2. اتساع رقعة العمران وانتشار التجاوزات السكنية (التي غالباً لا تدفع فواتير الكهرباء ) مما يزيد الضغط على الشبكة الوطنية، ويجعل من العدالة الطاقية شعاراً بلا تطبيق.
3. تضاعف اقتناء الأجهزة الكهربائية المنزلية (تبريد، تدفئة، إلكترونيات) في كل بيت.
الكارثة الموازية: طو*فا*ن المولدات الأهلية وتداعياتها الصحية والبيئية:
فشل التيار الوطني دفع المواطنين إلى الاعتماد شبه الكلي على المولدات الأهلية المنتشرة في كل زقاق وساحة، والتي خلقت كوارث ثانوية:
* التلوث البيئي: انبعاثات سوداء خانقة من عوادم الآلاف من المولدات، محملة بثاني أكسيد الكربون والجسيمات الدقيقة وأكاسيد النيتروجين والكبريت الضارة.
* التشوه البصري والضجيج: شبكة أسلاك عشوائية تشوه المدن، وضجيج محركات مستمر يسمم الحياة اليومية ويسلب الراحة.
* التأثير الصحي المباشر والقاتل:
* أمراض الجهاز التنفسي: تفاقم حالات الربو والتهابات الشعب الهوائية وأمراض الرئة المزمنة، خاصة بين الأطفال وكبار السن.
* أمراض القلب والأوعية الدموية: ارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون والجهد الناتج عن الحر الشديد يزيدان خطر النوبات القلبية وارتفاع ضغط الدم.
* السرطان: تصنف بعض ملوثات المولدات كمسببات محتملة للسرطان مع التعرض الطويل الأمد.
* تأثيرات نفسية عميقة: الضجيج المستمر، الحر اللاهب دون ملاذ، القلق الدائم على توفر الكهرباء للأجهزة الطبية (أجهزة التنفس، حفظ الأدوية الحساسة للحرارة)، الشعور بالعجز والإهمال، كلها عوامل تغذي الإجهاد المزمن والاكتئاب والغضب المجتمعي.
الصيف العراقي: جحيم لا يطاق يتطلب حلولاً طارئة وإنسانية:
إن شهري تموز وآب لم يعودا شهري صيف فحسب، بل أصبحا رمزين للفشل الإداري، والفساد المالي، والعقاب الجماعي… ؛ اذ يصل العذاب ذروته في شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) حيث تتجاوز درجات الحرارة 50 درجة مئوية… ؛ ووسط ارتفاع درجات الحرارة، تختنق البيوت، وتغلي الأجساد، وتتسارع نبضات قلوب المرضى، وينهار كثيرون أمام هذا اللهيب القاتل، بينما يخرج علينا المسؤولون بتصريحات جوفاء: “التحسن قريب”.
ولم يعد مقبولاً أن تستمر وزارة الكهرباء في تلقي الموازنات والانفاق دون مساءلة أو نتائج… ؛ ولم يعد من المنطق أن تبقى العقوبات الأمريكية او الفيتو الامريكي أو المواقف السياسية عذراً دائماً… ؛ إننا أمام أزمة وجودية تمس كرامة الإنسان العراقي وحقه في الحياة.
وفي هذا السياق، يطالب المواطنون اليائسون الحكومة باتخاذ إجراءات طارئة وإن كانت جزئية، مثل:
* توفير الكهرباء الوطنية المستدامة خلال هذين الشهرين فقط، ولو بفرض جباية استثنائية معقولة (كـ 200 دولار للبيت) أو بقطعها ساعة محددة خلال النهار خارج شهري الصيف القائظين خلال اشهر وايام السنة الاخرى , وتعويض المواطن بتلك الساعات بهذين الشهرين وذلك خلال توفير كهرباء بلا انقطاع فيهما .
* إعطاء الأولوية المطلقة للمستشفيات والمرضى المصابين بأمراض حرجة تتأثر بالحرارة وتوقف الأجهزة الطبية (أمراض القلب، السرطان، الجهاز التنفسي).
الخاتمة والنداء:
أزمة الكهرباء في العراق ليست مجرد انقطاع للتيار؛ إنها أزمة إنسانية متعددة الأبعاد تنخر في صحة الشعب الجسدية والنفسية، وتقوض استقرار المجتمع… ؛ ونحن إذ نطالب الدولة بتوفير الكهرباء المستقرة في شهري تموز وآب على أقل تقدير، فإننا نطالب كذلك بوضع خطة وطنية شاملة للنهوض بقطاع الطاقة، وبالضغط الجدي على الأطراف الخارجية لاسيما الامريكية التي تعرقل المشاريع الطاقية، وبتفعيل مشاريع الطاقة الشمسية والبديلة، وبمحاسبة الفاسدين الذين حولوا الكهرباء إلى تجارة ومولدات إلى مصدر نفوذ وابتزاز.
حان الوقت لتحمل المسؤولية:
* محاربة الفساد المستشري في وزارة الكهرباء ومشاريعها بلا هوادة.
* الاستثمار الحقيقي والمستدام في البنية التحتية، وتنويع مصادر الطاقة (خاصة الشمسية).
* الضغط الدولي لرفع أي قيود تعيق إعادة الإعمار وتطوير القطاع.
* وضع خطط طوارئ إنسانية فاعلة لحماية المواطنين، خاصة الضعفاء، خلال أشهر الصيف القاسية.
كفى تلاعباً بأرواح الناس… ؛ كفى بيعاً للوهم… ؛ إن استمرار هذه الأزمة يعني المزيد من الموت البطيء، والانهيار النفسي، والانفجار الاجتماعي، وهو ما لا يُحمد عقباه… ؛ إن تجاهل هذه الأزمة المتفاقمة ليس خياراً… حياة العراقيين وصحتهم وكرامتهم على المحك… فهل من مُجيب … ؛ أنيروا هذا الوطن، فقد طال ظلامه…؟!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.