الحوار الهاديء

المطران مار أبراهيم أبراهيم ومسألة قبول الاخر

الكاتب: الدكتور عبدالله مرقس رابي
المطران مار أبراهيم ابراهيم
ومسالة قبول الآخر
 
د . عبدالله مرقس رابي
باحث أكاديمي
 
                  في ندوة عُقدت في فرنسا بتاريخ 30 من أيلول 2015  عن التعريف باهداف الرابطة الكلدانية، أثارت أنتباهي ثلاث مسائل مهمة واساسية من خلال سماعي الى التسجيل ، وهي مواضيع الساعة المتداولة في الحوار والنقاش بين المهتمين من كتاب شعبنا الكلداني والاشوري والسرياني ورجال الدين والسياسيين  ،مسالة اللغة ، وما يخص الكنيسة الكلدانية في أستحداث الابرشيات في بلدان الانتشار، وثم موضوع مقالنا هذا مسالة قبول الاخر وأحترامه بين المكونات الثلاث الاثنية  .وساتناول كل من هذه الموضوعات في مقال مستقل .

قبول الاخر
             جاء في سياق حديث سيادة المطران مار ابراهيم عن موضوع قبول الاخر من خلال عرضه وتوضيحه لاهداف الرابطة الكلدانية التي أصبحت محل الاثارة بين القبول والرفض لأهدافها – فقد كتب العديد من كتابنا عن الموضوع من الطرفين فلا حاجة للتكرار – لكي لا اخرج عن الموضوع.
مسالة قبول الاخر هي ظاهرة التكيف والانسجام مع الاخر المختلف في الراي والموقف تجاه ظاهرة معينة لغرض تحقيق اهداف العيش المشترك ،والانطلاق والسعي من أجل خدمة الجهات المختلفة حول الظاهرة بوضع آليات مُشتركة تُحرك سُبل التعاون والتعاضد والتماسك .
كانت ردود الفعل متباينة من توضيحات المطران مار أبراهيم بين القبول والرفض التام من البعض كأنما ما جاء في حديثه سيهدم المشاريع والمصالح القومية لهم . في الوقت الذي يتوجب السماع بتأني الى الحديث الذي لا يتضمن عبارات أو كلمات تستحق الاثارة والانفعال غير الطبيعي من بعض الاخوة في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية .فهو مجرد تعبير عن رايه جاء في سياق الحديث عن أهداف الرابطة الكلدانية .
أشار سيادته الى أهمية تأسيس الرابطة الكلدانية في الظرف الراهن وبالتعاون مع الكنيسة ،وبسبب الاعتراض المكرر والالحاحي من بعض المهتمين بشان شعبنا من المكونين الاشوري والكلداني ،أكد على ضرورة التعاون وقبول الاخر بأظهار الاحترام المتبادل بين المكونات الاثنية بدلا من الاعتراض على كل ما تقدم  اليه أحدى الجماعات الاثنية من نشاط .ولما كان تساؤل مار ابراهم بوضوح عن القبول القومي،عليه ترك أثره على بعض السادة السياسيين والمهتمين بهذا الشأن ،وكان الموقف يحتاج الى نوع من التفصيل وتوضيح المبررات ، الا أن من غير الصحيح التفصيل بفترة محددة مثل وقت الندوة ، علما أن المطران مار ابراهيم معروفٌ جدا بمواقفه المعتدلة ،وليس كما فُسرت متعصبة ،بدليل أنه يؤكد على قبول الاخر دائما ،فالمتعصب لايمكن أن يقبل الاخر . – وقد وضحت رأي في مسألة المفاهيم وعلاقتها ببعضها البعض مثل القومية والشعب والاثنية والامة في مقال سابق ،وفي مقال آخر بينت كيف أن الرجوع الى التاريخ لا يساعدنا في حل معضلتنا العويصة ،يمكن الرجوع اليها  أذا أقتضت الضرورة لتجاوز التكرار- .
 
الجميع يناشد من أجل الوحدة
                               كثُرت الدعوات من أجل الوحدة دينيا وسياسيا وثقافيا وأجتماعيا ،واستبعدُ قوميا ،لان الوحدة على المستويات المذكورة ستحققها تلقائيا ، وموضوع القومية شائك ومعقد وهلاميُ الاستعمال وغالبا ما يُستخدم لاغراض سياسية بحتة ،فلم أجده كمفهوم علمي يتداوله المفكرون في العلوم الاجتماعية ، وأنما يتداوله السياسيون لاغراض مصلحية تكتيكية لكسب عواطف العامة من الناس لغرض التأييد ،وأنما المتداولة علميا هي مفاهيم الشعب والاثنية والمجتمع والمجتمع المحلي والعنصر والسلالة .

كيف تتحقق الوحدة
                      أن مسألة قبول الاخر هي مرحلة مهمة وأساسية جدا لتحقيق الوحدة ،ببساطة أذا لم يكن قبول بين جماعتين متخاصمتين على موضوع ما ،فكيف ستتم المعالجة أو الوحدة بينهما . فأذن ما تناوله مار أبراهيم عن ظاهرة قبول الاخر في حديثه  هو أشارة واضحة لاهميتها ، ولكن كما أشرت أعلاه كانت بحاجة الى التفصيل  .
أن عملية تحقيق الوحدة ليست عملية سهلة وكما يتصور البعض ،وبقرار شخصي ،وفي ليلة وضُحاها،طالما هناك عوامل تاريخية وأجتماعية ودينية وسياسية وادارية موغلة في الاعماق ومترسخة في أذهان الافراد المختلفين منذ قرون عن طريق التنشئة الاجتماعية ، فلابد ان تمر عملية تحقيق الوحدة بمراحل متعددة وروح متأنية وصابرة لأزالة كل الشوائب العالقة في الاذهان والمواقف لغرض التسهيل والسعي اليها.
في مناسبة زيارة غبطة البطريرك مار ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية وبرفقته مجموعة من المطارنة الكلدان ومن بينهم سيادة المطران مار أبراهيم  لقداسة مثلث الرحمات مار دنخا الرابع بطريرك الكنيسة المشرقية الاشورية في قلاية اقامته في مدينة شيكاغو الامريكية ،عرض الوفد الكلداني موضوع الوحدة حُبا وألحاحا من غبطة البطريرك مار ساكو في السعي اليها .
كانت الاستجابة للطرح من قبل الطرفين مختلفة في آليات المستخدمة للوحدة ونقطة الانطلاق لها ، فكان رد مثلث الرحمات قداسة مار دنخا لنبدء الوحدة انطلاقا من الوحدة القومية ،أما غبطة مار ساكو أكد لتحقيق الوحدة أنطلاقا من الوحدة الكنسية،وقلت في مقال سابق بهذا الشأن ،الحق معهما كلاهما ،فنموذج التفكير المتأثرة بالتنشئة الاجتماعية والمجتمعية وطبيعة النظرة الى المفاهيم عند الطرفين مختلفة . وعليه  لا أتفق مع الرأيين للانطلاق نحو الوحدة دون المرور بمراحل تسبق أي منهما ، وأنما ارى شخصيا ،الوحدة تحتاج الى مراحل متعددة ولا يمكن تحقيقها بدفعة واحدة وقرار مُتسرع وقد يُحبط الامال فتتبدد فيما بعد .
 
كيف تُعالج المشكلات الاجتماعية ؟
                                      يتفق المفكرون والباحثون في العلوم الاجتماعية  وتشير الى ذلك الدراسات الميدانية في علم الاجتماع الى أن حل أية مشكلة يجب أن يكون بخطوات مرحلية متعددة يتم التحضير لها ،لانه لو تم معالجة المشكلة بخطوة واحدة متسرعة ،قد تكون تداعياتها وخيمة وتخلق مشاكل أكثر تعقيدا ، علما أن لكل مشكلة طبيعتها وأبعادها ،ألا أن الاليات المتبعة في المعالجة هي واحدة الى حد كبير . وهناك أمثلة متعددة عن معالجة المشكلات ألا أنه سأكتفي بهذا المثال لتقريب الفكرة.
معالجة ظاهرة الادمان على المخ*د*رات أو الكح-و*ل او التدخين أو ممارسة الجنس اللاشرعي لاتتم بخطوة واحدة ،كأن تكون حقن المهدئات أو تقديم النصائح أو العقوبة بالسجن أو الغرامة ، أنما أهم خطوة يخطوها المعالجون هي الثقة بانفسهم ، بأنهم لا يكنون أية ضعينة أو مواقف سلبية مثل الكره والحقد تجاه المدمنين ،فالخطوة الاولى هي أختيار المُعالج المعتدل والمناسب ،والخطوة ثانية تهيئة مكان ملائم ، والخطوة اللاحقة عدم المنع الكامل والفجائي للمدمن للتوقف عن تناول المخدر أو ما أدمن عليه ، بل يسمح له بتناولها وثم تبدأ عملية التقليل تدريجيا وهكذا .

وماذا عن وحدتنا ؟
                     بالطبع كما أشرت أعلاه لكل مشكلة طبيعتها وابعادها ،ولكن آليات المعالجة واحدة لحد كبير . فلو أعتبرنا ( عدم الوحدة ) مشكلة بين الكلدان والاشوريين والسريان ولها تداعياتها السلبية على الجماعات الاثنية الثلاث . فهل سيكون السعي لتحقيق الوحدة بخطوة واحدة بالرغم من العوامل المسببة لها المذكورة آنفا ؟ بالطبع كلا . فلم تتحقق الوحدة بمجرد زيارة متبادلة بين البطريركين  مثلا ، أو اتحاد قومي ،أو مذهبي وتحسم المسالة . ليس الامر هيناً .بل يتطلب خطوات مدروسة ومنسقة والالتزام بالتاني والصبر.
أن أول خطوة في معالجة مشكلة عدم وحدتنا في رايّ هي : أن يقدم رجال الدين والسياسة والمثقفين المهتمين من الكتاب والاختصاصيين كما أشار أليها سيادة المطران مار أبراهيم ( قبول الاخر ). قبول الاخر كما هو ، لا كما يريد الطرف الاخر ،أي لا يقبل الكلدان للاشوريين والسريان على مزاجهم وعواطفهم وأنفعالاتهم ، ولا الاشوريون يقبلون الكلدان والسريان على نفس المنوال ،وهذا ينطبق على السريان أيضا .
لان قبول الاخر هو تماما نقيض التعصب الاعمى الذي هو التفكير السيء عن الاخرين دون وجود دلائل كافية ، فهو أتجاه سلبي نحو جماعة أثنية أو دينية أو مذهبية أو طبقية أو مهنية أو قبلية ،فيكوّن الفرد موقفا متصلبا نحو جماعة من الاشخاص .والمتعصبون هم أكثر تصلبا في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية والدينية ،فهم يرون الاخرين بأطار سلبي ولهم حكم مُسبق نحو الجماعة بدون سند منطقي ،ومن صفات المتعصب ،التسلط  والاضطراب النفسي والتمسك بالقيم تمسكا صارما ، ويمتاز بسلوك نمطي غير قابل للتغيير ويحمل الكراهية والحقد والانتقام ، وهو يتقلب مع من يؤيد أفكاره ومهما كان الذي يؤيده ملحدا أو مؤمنا أو بركماتيا نفعيا .فالتعصب مرض يفتك بالمجتمعات ويدمر فيه روابط الالفة والمحبة والتماسك ويدفع المجتمع الى الضياع والتمزق ،فلا نريد متعصبين كلدان وآشوريين وسريان يحصرون تفكيرهم في حدود تاريخية ضيقة لا تفي بالغرض ولا تخدم مصالحنا في المرحلة الراهنة ،وبالعكس فأصحاب التفكير الغني والواسع والمنفتح يقربوا أفراد المجتمع الى بعضهم البعض .
فعلينا قبل الاقدام لاية خطوة أن نهيء الاجواء المناسبة وتهيئة العقول والمواقف والاتجاهات نحو البعض لنحقق التهيئة النفسية التي تكمن في قبول الاخر واحترامه ،وأزالة آثار مرض التعصب  الذي يعاني منه البعض من أبناء شعبنا .وثم يتم في الخطوة اللاحقة دراسة المسألة والاليات من قبل فريق عمل يُشكل من الاطراف المعنية لكي يتم تشخيص الخطوات اللاحقة .

وربما يسال المرء ،كيف يتم نبذ التعصب وقبول الاخر ؟
   وفي رأيّ أول خطوة لنبذ التعصب وتحقيق قبول الاخر هي الاتفاق على :
توجيه  أعلام شعبنا لنبذ الاصوات المتعصبة سواء كلدانية أو آشورية أو سريانية ،تلك التي تؤكد على ألغاء الاخر في كتاباتهم ومنهم أصدروا كتبا فيها ما يكفي لترسيخ التعصب ،وهم كتبة هواة لا غير ،وعدم تشجيع الترويج لمثل هذه الكتابات ونبذها بالوعي الاعلامي.ويتم ذلك عن طريق أتفاق المواقع الالكترونية لشعبنا والمصادر الاعلامية الاخرى على خريطة موفقة للعمل الاعلامي الرصين .
جلوس الاحزاب السياسية للمكونات الثلاث على الطاولة ومناقشة  وبحث وحدة قرارهم وتحركاتهم السياسية والأهمال  مرحليا وتأكيدا( مرحليا ) أية أمور تتعلق بالمفاهيم القومية  والبقاء على التسميات المتداولة .
أقامة الندوات الثقافية المشتركة بين منظمات المجتمع المدني لكل المكونات لترسيخ مفاهيم التعاون والالفة والتماسك وتوحيد خطوات تحقيق حقوقنا في الوطن ، فهل هناك مثلا ضرر من أقامة  الندوات المشتركة بين الاتحاد الاشوري العالمي واتحاد نساء الاشوري والرابطة الكلدانية والرابطة السريانية؟
أقامة الندوات الدينية المشتركة بين المذاهب الدينية للمكونات الثلاث لتساعد في تقريب وجهات النظر .
توحيد الاعياد والمناسبات الدينية بين الكنائس المعنية .
أقامة الكرازات المتبادلة في المناسبات الدينية  والاعياد من قبل الكهنة والاساقفة .
أقامة الانشطة الاجتماعية المشتركة بين الاندية الاجتماعية للمكونات الثلاث في المدن التي يسكنها  أبناء شعبنا  في المهجر أو في الوطن لترسيخ الاندماج الاجتماعي .
تشجيع الزواج المختلط بين الشباب والشابات من الاثنيات الثلاث .
التعاون بين الكنائس والعلمانيين لوضع برامج تخدم شعبنا أينما وُجد .
وثم تبدأ الخطوة اللاحقة من قبل فريق عمل مهني ، فأذا وجدوا القائمون بالمهمة أن الاجواء مهيئة للانتقال الى الخطوة اللاحقة ، لتبدأ خطوة الاتحاد الكنسي المذهبي ، لانها الخطوة الاكثر يُسرا من الامور الاخرى وبالاخص بين الكنيسة الكلدانية والكنيسة المشرقية الاشورية،فهي محلولة الى حد ما لان الاختلافات اللاهوتية قد حُسمت في لقاءات سابقة ، ولا تحتاج الا مناقشة المسائل الادارية والقانونية التي تُنظم العلاقة بين الكنائس غير الرومانية والفاتيكان ،وهذه يمكن دراستها من الطرفين لانه فعلا القوانين التي تنظم العلاقة بين الفاتيكان والكنائس التي تشاركها الايمان من غير الرومانية بحاجة الى أعادة النظر .
فالخطوة في توحيد الكنائس ومن ضمنها السريانيتين الكاثوليكية والارثودكسية ستساهم كثيرا وتهيء الاجواء لتحقيق الوحدة الكبرى المنشودة ، طالما تراثنا واحد ، لغتنا واحدة ، تاريخنا واحد .ارضنا واحدة ،وشعورنا للانتماء الجغرافي لبلاد النهرين واحد ،وثم تليها الخطوات الاخرى وهكذا .

وبهذه المناسبة  أناشد :
 كافة رجال الدين الافاضل من البطاركة والاساقفة والكهنة  التركيز في خطاباتهم وكلماتهم في المناسبات الدينية وغيرها لنبذ التعصب والتطرق الى العناصر التي ترسخ قبول الاخر .
رجال السياسة من المكونات الاثنية الثلاث التحلي بالحكمة والركون الى طاولة الالفة والمحبة لمناقشة أمورهم ووضع المفهوم القومي جانبا ويركزون على مستقبل شعبنا وأيجاد السبل الكفيلة لتحقيق حقوقنا المشروعة في الوطن .
كافة الاخوة الكتاب والاعلاميين من ابناء شعبنا الاشوري والكلداني والسرياني والذين هم عصب الاعلام في كافة وسائله المرئية والسمعية والمقروءة ،فهم السلطة الرابعة المؤثرة في هذا العصر للتأثير على الرأي الرسمي والراي العام لنبذ مفاهيم التعصب ووضع موضوع التسمية جانبا والتركيز على مسألة قبول الاخر وأجراء اللقاءات بينهم .
ملاحظة : ارجو من الاخوة الاعلاميين والكتاب المعقبين أن لا ينطلقوا من: قال فلان من رجال الدين وفلان من المؤرخين في مناقشتهم للموضوع حيث انه تحليل سوسيولوجي لا علاقة له بالتاريخ وشكرا .

د . رابي / كندا..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!