الدولة – الأمة والتنوع الثقافي – هاشم نعمة
ستند مفهوم الدولة-الأمة على ثقافة عامة تطورت منذ الثورة الفرنسية، وعلى عمل المنظرين الألمان مثل هيغل. وهو يفترض تماثل باللغة والمعتقدات، وليس بالضرورة بالدين. في أوروبا وآسيا، تدعم الأساطير التاريخية فكرة أن الأمة تطورت على مدى قرون عديدة، وانتصرت على كثير من الأعداء، وطورت طرقا فريدة لعمل أشياء معينة، قد تكون هذه بسيطة أو معقدة مثل امتلاك لغة فريدة من نوعها.
دخلت الأساطير والتقاليد واللغة التي يُزعم أنها أعطت شكلاً للدولة القومية (تُترجم الدولة-الأمة إلى الدولة القومية في اللغة العربية، المترجم) في صراع مع التنوع الثقافي كونه طريقة لدمج المهاجرين الوافدين أو الأقليات الإثنية الأخرى، وهو ما يثير بالتالي الاستياء. إذ يُفضل الاستيعاب أو الذوبان على المستوى الرسمي وعلى مستوى غالبية الجمهور. قد يجد أولئك الذين هاجروا من دول قومية أخرى، من الصعب عليهم تقبل ذلك. لذلك فإن التنوع الثقافي لديه الكثير ليقدمه لهم. وينطبق الشيء نفسه على الأقليات الأصلية التي قد يكون لديها وطن إثني في المجتمع الأكبر. يمكن أن يكون لدى هاتين المجموعتين الاجتماعيتين استراتيجيات مختلفة للتعامل مع الاغتراب عن الثقافة المهيمنة. قد يسعون إلى تفويض السلطة داخل الوطن إذا كانوا من السكان الأصليين أو يمكن أن يفضلوا التواصل الاجتماعي مع أبناء البلد إذا كانوا من المهاجرين الوافدين. توجد على نطاق واسع كلا الاستجابتين في أوروبا، وتُدعم أحيانا من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، في الماضي، غالبا ما تم رفض كلتا المجموعتين الاجتماعيتين، واعتبارهما مثيرتين للانقسام وانتقاد رعاياهما، وعزلهم أو في الحالات القصوى طردهم تماماً. وكان الشكل الأكثر تطرفا للإصرار على الثقافة المشتركة الموحدة تمثّل في ألمانيا النازية. يعكس الكثير من الدعم الأوروبي للتنوع الثقافي الرغبة في رفض هذا التاريخ. لكنه غالبا ما يعكس القيم الديمقراطية الليبرالية التي تؤمن بأن الأشخاص يجب عليهم أن يختاروا قيمهم وأسلوب حياتهم بأنفسهم. يتوفر التنوع الثقافي على تأثير كبير كأسلوب إداري لدمج المهاجرين الوافدين في الدول الإسكندنافية. أما الاستيعاب أو الذوبان في الدولة-الأمة فقد كان له تأثير أكبر في اليونان والنمسا وبولندا وهنغاريا. حديثا، بدأ منهج الاستيعاب في الإتحاد الأوروبي يثير تحديا للتوافق بشأن التنوع الثقافي. فقد قلل انتخاب الحكومات المحافظة من دعم التنوع الثقافي في دول مثل السويد، كما حدث في كندا وأستراليا في وقت سابق.
إدارة التنوع الثقافي
معظم بلدان الدولة-الأمة متنوعة ثقافيا ودينيا، وأصبحت بشكل متزايد على هذا النحو بسبب سهولة السفر وحجم الهجرة. لم يأخذ حق تقرير مصير الأمم القائم على افتراض الوحدة الإثنية بنظر الاعتبار وجود أقليات ضمن الأمة أو الجدوى الاقتصادية لحق تقرير المصير. وقد واجهت أيضا كثير من الدول نزاعات إثنية وحركات قسرية للسكان في داخل حدودها، مما أدى إلى ظهور فئة اللاجئين لدى الأمم المتحدة للأشخاص النازحين داخليا. أطلق تحرك الفقراء نحو المجتمعات الغنية والمضطهدون نحو ملاذات أكثر أمنا العنان لتغييرات كبيرة في البلدان التي استقبلت هؤلاء الأشخاص. كان الهدف بشكل أساسي هو إدارة تأثير هذه التغييرات التي اطلقت عليها السياسات بصورة عامة مصطلح “التنوع الثقافي” والتي جرى اعتمادها في العديد من الديمقراطيات المتطورة منذ سبعينيات القرن العشرين.
تستند معظم الدول-الأمم على أساطير الثقافات المشتركة والمعتقدات والمُثُل والإرث. ومن المثير للاهتمام، لا يجري اعتبار الدين دائما عاملا مهما للتوحيد. مع ذلك، شهد في الواقع معظم الدول-الأمم في الآونة الأخيرة درجة من التفتت الثقافي بعد قيام العديد من الدول الجديدة ما بعد الاستعمار التي لديها تراث متنوع، وكذلك نتيجة زيادة تنوع البنية الإثنية للسكان والتي نشأت من الهجرات الكبيرة. وقد واجهت الحكومات مهمة إدارة هذا التنوع، باعتبارها حارسة المُثل الوطنية وتحافظ على التماسك الاجتماعي.
تتباين إدارة التنوع على نحو كبير باختلاف قوانين السلطات الإدارية. ففي ألمانيا والولايات المتحدة وأستراليا وجنوب أفريقيا وكندا ونيوزلندا ربما كان العرق عاملاً رئيسا في تحديد الحقوق المدنية، ولكن لم يكن هذا الحال في المملكة المتحدة أو فرنسا. فاللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في فرنسا ولا توجد لغة أخرى تتمتع بهذا الوضع، بينما في جنوب أفريقيا والتي حجم سكانها مشابه لفرنسا توجد أحدى عشرة لغة رسمية. فقط العامل المشترك في السياسات اللغوية في الديمقراطيات هو تمتع اللغات “الأصلية” بوضع رسمي (الويلزية، الإيرلندية، الفريزية، الباسكية)، لكن لغات “المهاجرين” (البنجابية، البنغالية، التاميلية، الغوجاراتية، الصينية) لا تتمتع بهذا الوضع على الرغم من أنه يجري غالبا التكلم بها من قبل عدد كبير من الأشخاص. وقد يُجرى امتحان المهاجرين باللغة الرسمية قبل حصولهم على الجنسية. ولا تشكل عادة امتحانات الدين قاعدة لـلحصول على الجنسية، وقد حُضرت دستوريا في الولايات المتحدة وفرنسا وأستراليا.
بغض النظر عن العامل الإثني واللغة، تشمل العوامل الأخرى التي يمكن التعامل معها في الديمقراطيات المتنوعة ثقافيا في أوروبا، وفي أماكن أخرى، الولاءات الخارجية والتقاليد والممارسات والمبادئ القانونية. يُدار التنوع غالبا من خلال سياسات الجنسية والتي تختلف في الدرجة التي يحافظ بها المواطنون على هويتهم الثقافية. وقد سُمح بالجنسية المزدوجة للمواطنين في الولايات المتحدة وأستراليا فقط في بداية القرن الحادي والعشرين، وكان مسموحا بها دائما بالنسبة إلى البريطانيين. واستنادا إلى تشريع يعود تاريخه إلى عام 1911، تستند الجنسية الألمانية على الأصل الألماني، وفقط حديثا أصبحت متاحة بسهولة للأخرين.
التنوع الثقافي، الاندماج، الاستيعاب أو الانصهار
يتمثل الملمح الأساسي للتنوع الثقافي الذي يتميّز عن الأساليب الأخرى لإدارة التنوع الإثني باعترافه باستمرار تأثير التنوع الإثني ورعاية ذلك في تقديم الخدمات وحماية الحقوق، وعادة ما يتم ذلك بالتشاور مع المتضررين. هذا المنهج يرفض مفهوم استيعاب أو انصهار المهاجرين الوافدين بثقافة الأغلبية في مجرى الحياة. فهو يتوافق بشكل مريح مع مفهوم المساواة الإثنية، ولكن ليس مع النسبية الثقافية، لأنه منهج ليبرالي في الأساس. يذهب هذا المنهج أبعد من الليبرالية الكلاسيكية في الحفاظ على لغات وأديان وثقافات الأقليات، شريطة أن تعتبر الدولة أن هذه الأمور متوافقة مع التماسك والانسجام الاجتماعيين. وتتمثل النسخة المتطرفة من التنوع الثقافي في قيام اللامركزية أو الفيدرالية على أساس ثقافي، كما في الهند. وكان النموذج الأصلي قد طُبق في الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وانهار مع نهاية الأنظمة الشيوعية .ونادرا ما يكون الجانب الديني أساسا لمثل هكذا لامركزية. ولا يزال مثال واحد باقيا في إيرلندا الشمالية، والذي أنشأ عام 1921 لحماية الأقلية البروتستانتية من سيطرة إيرلندا الكاثوليكية.
يستخدم المعارضون للتنوع الثقافي على نحو متكرر شبح الفدرالية الإثنية أو الانفصال، وبأنه يهدد تماسك الدول-الأمم الموجودة. لكن الفدرالية الإثنية أو الانفصال تحتاج عادة إلى أساس جغرافي قابل للتطبيق، في حين يتوزع المهاجرون الوافدون على مدن مختلفة. وقد اعتمد انفصال كيوبك (لم تستقل كيوبك بعد، المترجم) في كندا والفدرالية السويسرية على مبدأ “الوافدون الأوائل” وليس على الهجرة الوافدة الحديثة.
تبنت الديمقراطيات التنوع الثقافي منذ سبعينيات القرن العشرين عندما كانت أغلبية السكان من المسيحيين، رغم كون هذا التبني إسميا فقط. وجرى تعريف الإثنية عادة على أساس علماني، وخاصة المصطلحات اللغوية. وحتى هذا الوضع قد يكون مزعجا سياسيا، كما في بلجيكا، ولكن في الغالب جرى حل ذلك عبر تبني ثنائية اللغة (كما في كندا وإسبانيا وويلز ونيوزيلاندا وفنلندا وسويسرا). لم تكن توجد قبل سبعينيات القرن العشرين، أي ديمقراطية غربية تتوفر على عدد مهم من السكان غير المسيحيين قائم على أساس جغرافي، حيث جرى تعريف قضايا الأقليات في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهولندا بمصلحات عنصرية أو إثنية. لكن هذا الوضع تغير بسرعة وأحيانا على نحو دراماتيكي في الفترة بين 1970 و2000.
الترجمة عن كتاب:
Juliet Pietsch and Marshall Clar, (eds.), Migration and Integration in Europe, Southeast Asia, and Australia, Amsterdam University Press, 2015, pp. 57-60.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.