مقالات دينية

الحياة الجديدة في الدهر الآتي ( الجزء الأول )

الحياة الجديدة في الدهر الآتي ( الجزء الأول )

بقلم / وردا إسحاق قلّو

( وأقامنا معه ، وأجلسنا في السماوات ، ليظهر في الأجيال الآتية غنى نعمته الفائقة في الرأفة التي أبداها لنا في المسيح ) ” أف 2: 6-7 “

كتب لنا الرسول بولس عما رآه وسمعه عندما خُطِفَ إلى السماء الثالثة ( الفردوس ) ، نقرأ ( حيث سمع أموراً مدهشة تفوق الوصف ولا يحق لإنسان أن ينطق بها ) ” 2قور 4:12 ” .

   الكتاب المقدس تم تدوينه على مدى خمسة عشر قرناً ، والوحي الإلهي هو الذي ألهم كتبة الأسفار لنقل الأحداث ، وكل تلك الأسفار التي بدأت تتحدث عن فترة الخلق إلى يوم مجىء الرب الثاني لكي تنتهي الحياة على هذه الأرض فيخلق الله أرض جديدة وسماوات جديدة ويكون للمؤمنين بالمسيح المصلوب رجاء في عالم الأرواح . إذاً ما هو مضمون رجاء المؤمن  في حياته بعد موت الجسد وفراق الروح ؟ قانون الأيمان النيقي نختمه بعبارة ( الحياة في الدهر الآتي ) فكيف نكشف النقاب عن سر تلك الحياة ؟ علينا أولاً أن نتبع مراحل تطور الوحي الإلهي على مدى العصور . ففي العهد القديم عندما نقرأ الأسفار التي كتبت قبل فترة الأنبياء ، أي في فترة الشريعة ، فلا نجد فيها الرجاء للإنسان بعد الموت . بعد السبي البابلي تأثر اليهود المسبيين بالإعتقادات البابلية بأن نفس الإنسان تنفصل عن جسده وتنزل إلى عالم الأموات ( الجحيم ) مهما كانت صالحة أو شريرة . وهناك حياة تعيسة لا سعادة لأحد ، بل الجميع سيكونون في عالم الأموات . قال الله عن الأموات في ” مز 87 : 11-13 ” ( لا يصنع المعجزات للأموات ، ولا يحدَّث برحمته في القبر ، ولا بحقه في الجحيم ، حيث الظلمة وأرض النسيان ) لهذا كان رجاء شعب العهد القديم يقتصر على هذه الأرض فقط ، لكن الله قطع مع الإنسان عهداً وأغدقه بوعود إذا التزم بوصاياه ( تث 8 ) فسعادة الإنسان ربطت بأمانته في تطبيق الوصايا ، وقضية جنة عدن وفقدان الأبوين لسعادتهما بعد الطرد ، كانت تعبيراً حياً للإنسان على مدى التاريخ ، أما في فترة الأنبياء فظهرت إعلانات جديدة أعلِنَت من قبل الأنبياء بأن الله سيدين العالم بسبب خطايا الإنسان ، وكشفوا للشعب بوجود يوم الدينونة ( يوم الرب المخيف ) الذي سيكون غضب ، وظلمة ، كما كتب النبي صفنيا ، قال ( قريب يوم الرب العظيم ، قريب وسريع جداً . صوت يوم الرب مُرّ . هناك يصرخ البطل ، يوم حنق ذلك اليوم . يوم ضيق وشدة ، يوم خراب ودمار، يوم ظلمة وديجور. يوم غيمٍ وغمام مظلم ، يوم بوق وهتاف على المدن الحصينة ، وعلى بروز الزوايا الشامخة . . . ) ” 1: 14-18 ” .

هكذا أكدوا الأنبياء بأن الأرض ستترك خراباً ، ويبيد الخطاة . والكواكب لا تبعث نوراً . والشمس تظلم في خروجها . والقمر لا يضيء نوره . تلك الصورة انتقلت عبر الأجيال من فترة الأنبياء إلى سفر الرؤيا حاملة المعنى ذاته وهو أن دينونة الله آتية لا محال ، فعلى الإنسان التوبة عن خطاياه ، والتوبة إلى الله من القلب والمحافظة على عهده ووصاياه.

  أما الحياة بعد الموت في منظور الأنبياء فيشير إلى الرجاء ويتخطى الفردوس الأرضي والحياة في هذه الأرض إلى حياة جديدة في الآخرة ، فيصف إشعياء النبي الحياة بعد الموت قائلاً ( فيسكن الذئب مع الحمل ، ويربض النمر مع الجدي ، ويكون العجل والشبل وكل حيوان معلوف معاً … ) ” أش 11: 1-9 ” ، والكون كله سيستنير ( ويصير نور القمر كنور الشمس ، ونور الشمس يصير سبعة أضعاف ، كنور سبعة أيام ، يوم يجبر الرب كسر شعبه ، ويشفي جرح ضربته ) ” ” أش 26:30 ” ( ويخلق الله سماوات جديدة وأرض جديدة ، ويخلق في أورشليم أبتهاجاً ، وفي شعبها سروراً ، ويبتهج بأورشليم ويسر بشعبه ، ولا يسمع فيها من صوت بكاءٍ ولا صوت صراخٍ … ) ” أش 65 : 17 -25 ” ويبيد الرب الموت على الدوام ، ويمسح الدموع الفردي بعد الموت بعد أن بقي الأنبياء لفترة طويلة يعتبرون الجزاء أمراً جماعياً . لكن بعد سقوط أورشليم كتب حزقيال عن الجزاء الفردي ، فقال ( النفس التي تخطأ هي تموت ) ” 4:18 ” وهكذا تطورت الفكرة في فترة المزامير لكي يكتب عن الرجاء بالحياة مع الله بعد الموت ، فنجده بوضوح في ” مز 16: 8-11 ” يقول ( جعلت الرب أمامي في كل حين ، فإنه عن يميني لكي لا أتزعزع ، لذلك فرح قلبي وابتهج نفسي حتى جسدي أستقر في أمان . لأنك تترك في مثوى الأموات نفسي ، ولن تدع صفيك يرى الهوة . ستبين لي سبيل الحياة . أمام وجهك فرح تام ، وعن يمينك نعيم على الدوام ) .

  نشأ الإيمان بالحياة مع الله بعد الموت من خبرة روحية أختبرها الصديقيون في حياتهم الأرضية مع الله ، كما آمنوا بوجود حياة دائمة مع الله ليس فيها الموت ، بل الخلود الأبدي لأن إله الخير لا يمكن أن يترك الشر يسيطر على الإنسان إلى الأبد وهكذا نشأت فكرة الحياة في الدهر الآتي بوضوح في سفر المزامير وأسفار الحكمة . أما عن الجحيم فيعنى به مكان الهالكين . أما الحياة للصديقين في الدهر الآتي فتقوم مع الله ، وهكذا تطورت الفكرة من مصير الإنسان بعد الموت والتي ستحدد وفقاً لما عمله في حياته فيجازيه الرب بحسب إيمانه وأعماله النابعة من محبته . يسوع في العهد الجديد وضع حداً لتلك التصورات المعهودة لدى مستمعيه فيتحدث إليهم عن موضوع قيامة الأموات ، وهلاك الفاجرين في جهنم النار ، وأنتقال الصديقين من الهاوية إلى النعيم الأبدي . فنفوس الصديقون من أبناء العهد القديم  قال عنهم بأنهم عاشوا في الهاوية في حضن أبراهيم . كما تنبأ الأنبياء عن زمن جديد يملك فيه الله على البشر ويضع لهم عهداً جديداً ويغفر خطاياهم ويفيض في قلوبهم الروح القدس ، وهذا الزمن تم بمجيء المسيح الإله وتبشيره بالملكوت ، فقال عنه يسوع ( لقد تم الزمان ، واقترب ملكوت الله ، فتوبوا وآمنوا بالأنجيل ) ” مر 1: 14-15 ” . فالملكوت لايظهر بعلامات خارجية باهرة على الصعيد الكوني في الشمس والقمر والنجوم ، بل في داخل الإنسان عندما يملك الله في قلبه ، وهكذا تبدأ الملكوت في قلب الإنسان ليعيشه من هذه الأرض . وبالإيمان وحده يستطيع الإنسان أن يشاهد الملكوت قبل الموت أيضاً كما شاهدوها الرسل الثلاثة وحسب وعد الرب لهم ( الحق أقول لكم : أن في القائمين ههنا من لا يذوقون الموت حتى يعانون ملكوت الله آتياً في قدرة ) ” مر 1:9″ ورأوه فعلاً الرسل الثلاثة على جبل التجلي ، ورأوه قديسين كثيرين في حياتهم الأرضية . إذاً الدهر الحالي والآتي كلاهما موضوع رجاء الإنسان ، فالمسيح يشمل الدهرين لأنه رجاء للفرد والجماعة في تحقيق الملكوت ، فكنيسة المسيح هي موضوع تحقيق الرجاء الجماعي ، وهي الشكل الحاضر لملكوت الله . فردوسنا يبدأ من هنا ، أما العقاب فهو بعد الموت مباشرةً وبحسب قول الرب في مثل لعازر والغني ( طالع لو 16: 19-31 ) وكذلك قوله لمصلوب اليمين ( اليوم تكون معي في الفردوس ) ” لو 34:23 ” لهذه الأسباب يجب أن لا نفهم موضوع مجىء المسيح الثاني وقيامة الأموات ونهاية العالم على الصعيد الزمني بقدر ما يجب النظر إليه على صعيد القرب النفسي والأستعداد لملاقاة العريس بعد الموت مباشرةً ، وذلك بالتوبة والمصالحة والإيمان بكلمات الإنجيل ( طالع مت 24 ومر 13 ) لذلك على المؤمن أن لا يفكر كالخاطئين بيوم الدينونة ، لأن لا دينونة للمؤمنين الصالحين ، بل عليهم فقط ان يثقوا بأقوال مخلصهم الفادي الذي قال عن نفسه عندما يرتفع على الصليب يجذب إليه الجميع ليخلصهم . أما الذين يرفضونه فيدانون . يسوع أعلن وهو على الصليب أن كل شىء قد تم  بموته ( يو 30:19 ) وأنه بدأ للعالم زمن الدينونة وزمن الخلاص وتلك هي الأزمنة الأخيرة للإنسان . فالخلاص على الصعيد الشخصي هو الدخول في علاقة شخصية حميمية مع الله ( رو 5:5 ) هكذا ننتقل من الآن من الموت إلى الحياة ( 1يو 14:3 ) لذلك لا يقتصر الرجاء المسيحي على إنتظار عالم آخر يتحقق بعد الموت وحسب ، بل على تغيير وجه هذا العالم ليصيرعالماً آخر يسوده الحب الطاهر والمساوات . والدهر الآتي الذي نرجوه ونسعى لكي يأتي ليطهر كل شىء .

إلى اللقاء في الجزء الثاني والأخير .

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!