مقالات عامة

الابتسامة المزيَّفة: قناعٌ من ذهب وحقدٌ من نار

النفسُ الإنسانيةُ بحرٌ من المشاعر المتلاطمة والمتناقضة ؛ تارةً تفيضُ دفئًا كأشعةِ شمسٍ ربيعيةٍ تُذيبُ جليدَ الوحدة وتضيء ظلام العزلة  ، وتارةً أخرى تختزنُ في أعماقها عواصفَ صامتةً لا تُفصحُ إلَّا بلغةِ النظرات.

فالابتسامةُ الحقيقيةُ وديعةٌ كندى الفجر، تنبثقُ من شغافِ القلبِ لتَعْبُرَ ببراءتها حُجبَ الأقنعة، فتَخْطفُ الألبابَ بلمسةِ نورٍ تُحيي الأرواحَ العطشى إلى الصدق… ؛  إنها رسالةٌ روحيةٌ صادقةٌ، تُحوِّلُ القلوبَ القاسيةَ إلى كِيانٍ نابضٍ بالحياة، وكأنما تُنْبتُ زهرةً في صحراءِ المشاعرِ اليابسة.

والابتسامةُ الحقيقيةُ شُرفةُ الروحِ إلى العالم، تُطلُّ منها المشاعرُ الصادقةُ كأزهارِ الربيعِ تُنثرُ عطرَ الألفةِ بين القلوب… ؛  إنها لغةٌ لا تحتاجُ إلى ترجمة، تُذيبُ جليدَ الغربةِ بنورِها الدافئ، وتَحملُ في طياتِها رسائلَ وَدٍّ تُحوِّلُ اللقاءَ العابرَ إلى ذكرى تَعبقُ بالإنسانية… ؛  فهي كالنهرِ الصافي، يَجري بِلا تكلُّفٍ لِيُروي ظمأَ التواصُلِ بين البشر. 

لكنْ في المقابل، ثَمَّةَ قلوبٌ ملوثةٌ بِسُمومِ النفاق والكراهية والحسد ، تختزلُ إبداعاتِها في فنونِ التمثيلِ البشع والرياء السمج … ؛ و تُخفي خلفَ قناعِ البشاشةِ ضغائنَ تُشبهُ جمرًا تحتَ الرماد، وتُلبسُ وجوهَها أقنعةً ذهبيةً لِتُغطِّيَ عفونةَ ما في الصدور… ؛  هؤلاء لا تَخْفى عنهم حِيَلُ المسرح؛ فحينَ تَلْتقيهم صدفةً، وتُبادلهم تحيةً صادقةً، تَرَاهم يَجمحونَ بِمشاعرَهم المريضةِ كفرسٍ جامحٍ، فيُعيدونَ “برمجة” تعابيرِ وجوهِهم بِسرعةِ ساحرٍ مبتدئ!

تُلاحظُ كيفَ تَتشوَّهُ ملامحُهم لِحظةً، ثم تَطفو على أساريرِهم ابتسامةٌ مُصطنعةٌ كـ”سمٍّ يُرَشُّ على قِطعةِ حلوى”، أو كـ”وردةٍ مِن بلاستيكٍ تُخفي إبرةً مسمومة”… ؛  إنها ابتسامةٌ تَشْعُرُ معها أنَّ الهواءَ حولَكَ يَثْقُل، وكأنما تُجَاهِدُ لِتَنْفسَ في غرفةٍ مُغلقة!

هنا تَسقطُ الأقنعةُ، وتَظهرُ حقيقةُ النفوسِ القبيحة… ؛ فالبَشَاشةُ المُزيَّفةُ ليست إلَّا ج#ريم*ةً أخلاقيةً تُمارسُها ذواتٌ فاقدةٌ للذوقِ والإنسانية والجمال … ؛  إنَّها خيانةٌ للجمالِ الذي مِنَحَهُ اللهُ للوجوهِ لِتُعَبِّرَ عن نقاءِ الضمائر، لا لِتُخفيَ خلفَها وحوشًا تَتَربَّصُ بِأرواحِ الآخرين… ؛  فَيا لَهُ مِن مَشهدٍ مُهينٍ أن تَرى الإنسانَ يَخْتفِي وراءَ قِناعٍ مِن ذهبٍ، بينما يَحملُ في قلبهِ نارًا لا تَشتعلُ إلَّا بِحَرقِ مَن حولَه!

نعم فهنالك و في زاويةٍ مظلمةٍ من مسرحِ الحياة، تَختفي وجوهٌ تَتقنُ لعبةَ الأقنعة… ؛  تُلْبسُ كلَّ يومٍ رداءً جديدًا من التصنُّع، وتَنسجُ خيوطَ ابتساماتٍ مَشوهةٍ كـ”ورقٍ ذهبيٍّ يُغَلِّفُ سُمًّا ناقعًا”… ؛  هؤلاء يَتقنونَ رقصةَ التناقضِ ببراعةٍ مَرَضية : قلوبُهم تَئِنُّ بالحقدِ والحسد ، وألسنتُهم تَقطرُ عسلاً وشهدا ، ووجوهُهم تَتَقلبُ كالسحابِ قبل المطر!

حين تَلتقيهم، تَلمحُ فجأةً كيفَ تَتشنجُ عضلاتُ وجوهِهم، وكيفَ تَتَدافعُ أنفاسُهم لِتُخفيَ شرودَ النظراتِ المليئةِ بالريبة… ؛  ثمَّ تَطفو على السطحِ ابتسامةٌ مُثقلةٌ بالتَكلُّف، كأنها “غيمةٌ سوداءُ تَحملُ بَرْقًا بلا مطر”، تُخبركَ أنَّ ما تراهُ ليس إلَّا وَهْمًا يُخفي خلفَه غابةً من الأشواك. 

هذه الابتسامةُ المَسمومةُ ليست مجردَ تعبيرٍ زائف، بل هي جُرحٌ في جسدِ الإنسانية… ؛  إنها خنجرٌ مَكسوٌّ بالحرير، يَطعنُ في ظهرِ الثقةِ ويَسرقُ براءةَ التواصُل… ؛  فَيا لَلَمأساةِ أن تَرى الإنسانَ يُحوِّلُ وجهَه — ذلك المُعجزةَ الإلهيةَ — إلى دميةٍ مُتحركةٍ تَعبثُ بها أيدي النفاق! وكأنما يقولُ لكَ بلسانِ حالِه: “هذا وجهي المُزيَّف، فخُذْه قناعًا لِألاعيبي، وانسَ أنَّ تحتَه قلبًا يَنبضُ بالضغينة!”. 

الابتسامة الصفراء هي قناع النفاق، وهي ابتسامة باهتة لا تعبر عن المشاعر الحقيقية… ؛  عندما نرى هذه الابتسامة … ؛ أحذر واهرب من صاحبها هروبك من الاسد , واياك والثقة بكل من يبتسم لك  ؛  فتلك الابتساماتِ الصفراء تَتشكلُ كالغيومِ المظلمة  قُبيلَ العاصفة  : رُبما تَحملُ في ثناياها صاعقةً تَق*ت*لُ برودةُ قلبِها كلَّ ما هو جميل فينا … ؛  ولا سبيل  للخلاص منها سوى الاعتصام  بِصدقِ المشاعر وصفاء النية والسريرة ؛ فهي وحدَها البوصلةُ التي تَهدينا إلى شواطئِ الإنسانيةِ الآمنة.

فَهل نَستغربُ بعدَ هذا أن تَتحولَ الابتسامةُ — رمزُ البراءةِ — إلى كابوسٍ يَزرعُ الشكَّ في النفوس؟!

الحقيقةُ أنَّ الجمالَ الحقيقيَّ لا يَحتاجُ إلى ألغازٍ أو أقنعة؛ فهو كالشمسِ تُشرقُ من غيرِ استئذان. أما الوجهُ المُزيَّف، فهو كـ”مرآةٍ مُشوَّهة”، تَكسوها طبقةٌ من الذهبِ لِتخفيَ تحتَها صدأَ الأخلاق. 

وَهلْ نَلومُ الابتسامةَ أم نَلومُ أخلاقَ مَن يُسيئونَ استخدامَها؟! ا

الجوابُ يَكمنُ في أنَّ الجمالَ الحقيقيَّ لا يَحتاجُ إلى أقنعة؛ فهو يَصْدُرُ عن نقاءٍ داخليٍّ يُشبهُ الضياءَ الذي يَخرُجُ مِن بينَ شَفَتَيْ وردةٍ تَتَفتحُ للوجودِ بِلا خُططٍ مبيتة… ؛  أما الابتسامةُ الصفراءُ، فستَظلُّ دليلًا على أنَّ بعضَ النفوسِ تُشبهُ “ساعاتٍ تالفة”، تَظهرُ فيها العقاربُ مُشرقةً، لكنَّها لا تَتحرَّكُ إلَّا إلى الخلف!

 

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!