الحوار الهاديء

إكرام الوالدين فضيلة ونعمة

لويس إقليمس            

 

 

إكرام الوالدين فضيلة ونعمة

بغداد، في 25 أيلول 2018

في أحد لقاءاته الأسبوعية مع الجماهير الغفيرة المعتادة أن تزور ساحة القديس بطرس في روما، تطرّق بابا الفاتيكان مؤخرًا، إلى العلاقة الواجبة بين الوالدين والأبناء. في هذا اللقاء المتجدّد كلّ يوم أربعاء من كل أسبوع، حثّ البابا، وهو أعلى مرجعية كنسية كاثوليكية ودينية في العالم، حثَّ الأبناء الذين جرفتهم عوادي الزمن ونَحوا سلوك الشطط والتمرّد اللاّمبرّر بخروجهم عن واجبات إحدى وصايا الله العشر، للعودة إلى حضن الآباء والأمهات، أي إلى البيت الأسري الذي تكفل بوجودهم وتربيتهم ونموهم. وقد عدّ ذلك من باب فضيلة الاحترام والإكرام للوالدين اللذَين ينبغي أن يكونا مصدر نعمة ورحمة للأبناء.  

إنّ مثل هذه الدعوة من قبل مرجع دينيّ رفيع، تدلّ على أسمى اهتمام من قبل مؤسسة دينية ترى أنّ من صلب واجباتها واهتماماتها إعارة البشرية وخليقة الله في الأرض ما تستحقه من تقدير واهتمام ورعاية، لا لشيء بل لكونها صنيعة الله الخالق الجبّار الذي يسوس الكون العظيم وما فيه من عناصر وأجرام وحياةٍ بكل أنواعها وأشكالها. فالآباء والأمهات يشاركون الله في خلق البشرية من خلال اتحاد جسديّ مقدس وعبر فعلٍ جنسيّ يحتفظ بقدسية كبيرة، ما يتطلب أن يوليه البشر ومَن يسوسون الأمم والشعوب ما يستحقه من احترام ورعاية من جانب أفراد الأسرة أولاً قبل غيرهم في صفوف المجتمع.

نقرأ في سفر الخروج ما في هذا المعنى من قيمة عليا لعلاقة الإكرام الواجبة من الأبناء تجاه الآباء: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ (سفر الخروج 20: 12). إنّ هذه العلاقة المفترضة بين الطرفين لها من عمق الفضيلة والنعمة ما يستوجب قيمًا عليا من التبجيل والاحترام تجاه كلّ من الأب والأم. من هنا يبرز فعل الخلق المشترك الذي يقوم به الوالدان باتحاد جسديهما معًا ليتشاركا بخلق نسمة روح سامية منحها الربُّ الخالق قيمة إنسانية عليا ورفعها عن سواها من سائر المخلوقات حين حباها بالعاطفة والفكر والعقل والجمال وما سواها من صفات البشر الحسنة.

ليس من شكّ أنّ علاقة الله الخالق بخليقته هي علاقة أبوية بين الأب المحبّ الحاني والرؤوف الذي هو الرب الخالق تجاه خليقته من أبناء وبنات جنس آدم وحواء. فقد أكرم الله الإنسان حينما خلقه على صورته ومثاله، كما زاد من كرمه حين آنسَهُ بحواء كي تسكن الجنّة معه، فيأكلا ويشربا ويستمتعا بخيراتها وينميا ويكثرا قبل أن يزيغا عن أمره ويعصيا وصيته. لكن، في الوقت الذي أقرّ الله أنَّ ما فعله كان حسنًا، نرى جحودًا من خليقته المتمثلة بأبوينا الأولين، آدم وحواء، حين نقضِهما للوصية وخرقِهما للعهد. ولعلّ هذه الهفوة الكبيرة “الخطيئة الأصلية”، كانت بداية مشاكل الانقسام في العائلة وشرود الأبناء عن البيت العائلي وابتعادهم عن الوالدين، وما يفرضه مثل هذا الابتعاد من سوء العلاقة بين الطرفين ومن جفاء ومشاكل وفقدان واجب الاحترام والتقدير الذي أوصى به الله الخالق خليقته.

في الأديان المساوية عمومًا، وفي المسيحية بصورة خاصة، نقرأ ونتعلم الكثير عن مفردات وأمثلة وتوصيات، وهي تتحدّث عن الإكرام الواجب للوالدَين من دون نسيان ما ينبغي على الوالدين من واجب التربية والتوجيه للأبناء بحسب مخافة الله ومحبته للبشر. يقول القديس بولس في إحدى رسائله العظيمة: “وأنتم أيها الآباء، لا تغيظوا أبنائكم، بل ربّوهم بتأديب الرب ونصحه” (أفـسـس 6/4). من هنا تأتي التربية المنزلية في أولويات الحياة الأسرية التي تقتضي من الوالدين إظهار المثال الصالح أمام الأبناء في سلوكهم اليومي وفي تصرفاتهم مع القريب وفي وسط المجتمع الذي يقيمون فيه. فالحركة والفعل والسلوك التي تبدر وتصدر من عند الوالدين تبقى في ذاكرة الأبناء بمثابة الحفر في الحجر. ومن هذه البذرة تكون أولى السلوكيات في الأخلاق مع البيت الأسري الذي يعيشون فيه، ومنه تنتقل في جزئيات كثيرة منه إلى المحيط الذي يختلطون ويقيمون فيه. فما يتعلمه الطفل في الصغر، يبقى الكثير منه محفورًا في ذاكرته ويظل يتحدث عنه حينما يكبر ويواجه المجتمع. من هنا يكون فضل الآباء على الأبناء كبيرًا وجوهريًا وليس من المفترض تجاهله أو التغاضي عنه. فيما المدرسة وأشكال التعليم من شأنها صقل هذه السلوكيات وتوجيهها في ضوء مستجدّات الحياة المعقدة التي تتطور وتتغيّر في الفعل والإجراء وحسب الزمان والمكان. لكنّ النبتة الجيدة تبقى تعطي ثمرًا جيدًا، وتلك السيئة تكون ثمارُها مرّة وحصرمًا.

 

أختلال في الرؤية والمفاهيم

من أجل أن تسير سفينة الحياة بانسيابية وبخطى واثقة بحسب ما رسمها الله الخالق حين خلق العالم وما فيه وما فوقه وما تحته في ستة أيام بحسب سفر التكوين، لا بدّ حينئذٍ من قيام التزامات بين الآباء والبنين. فالحياة التي يمنحها الوالدان للأبناء هي مقدسة في نظر الله، وينبغي أن تكون كذلك في تصوّر وفي فكر وعقل الأبناء أيضًا. وبمعنى أشمل، يفترض وجود نوع من الالتزام الأدبي والأخلاقي بين الطرفين. فالطرف الأول “الخالق للحياة”، يتولى كل الرعاية الإنسانية والجسدية للأبناء حتى ينموا ويكبروا ويعتمدوا على النفس وعلى تسيير شؤون حياتهم حتى استقلالهم الذاتي والشخصيّ والمنزلي. وهذا التطور في الكبر وفي النمو الجسمي والعقلي والفكري لا يعني انقطاع صلة الرحم بين الأبناء ووالديهم. بل هنا تبدأ صلة من نوع آخر أكثر تميّزًا تحدّدها التزامات جديدة أدبية وأخلاقية تفرضها المجتمعات، كلّ وفق مفاهيمها رؤيتها للأحداث والأمور الحياتية بحسب الزمان والمكان. ولعلّ أهمّ ما في هذه المرحلة المتقدمة من حياة الطرفين، تنامي الاحترام والتبجيل والإكرام تجاه الوالدين الّلذَين يستمران بالسهر على مصلحة الأبناء والتفكير بهم حتى لو فارقتهم المسافات وأبعدتهم البلدان. فالوالدان يبقيان في دارة الاهتمام والتقدير والاحترام لدى الخلَف الصالح مهما طال البعد والزمن. وهذا ما نفهمه من قول بابا الفاتيكان فرنسيس بصدد الإكرام الواجب من الأبناء تجاه الآباء:” إنّ إكرام الأب والأم يعني الاعتراف بأهمّيتهما حتى من خلال أعمال ملموسة، تعبّر عن الاهتمام والمودّة والعناية”.

بالنظر لتغيّر سلوك الحياة والرؤية إلى الأشياء والأحداث في المجتمعات لأسباب عديدة، منها التنوع الثقافي والنزعة الدينية والتربية المنزلية وسلوك المجتمع نفسه، لذا فإنّ قوانين الحياة معرّضة هي الأخرى للخرق والكسر بفعل التقصير والإهمال وعدم القدرة على تحمّل المسؤولية من طرف على حساب الطرف الآخر. وهذا من شأنه أن يخلق مشاكل وصعوبات، ويقيم حساسيات بين الآباء والأبناء، قد تصل لحدّ القطيعة والانتقام في حالات من اليأس وعدم الرضا والشعور بالقنوط بسبب هذا النوع من الإهمال. لكنّ مثل هذه الحالات الشاذة لا ينبغي أن تكون مدعاة لقطع العلاقة وصلة الرحم بين الطرفين ولا سببًا مبرّرًا للانتقام. وإذا كان الغضب في ظلّ هذه الأحداث والوقائع محتملاً، إلاّ أنه ينبغي أن يبقى في حدود عدم الرضا والاختلاف في الرؤى إلى الأشياء القابلة للتقدير والتقويم من دون الانزلاق وراء القطيعة مهما كانت الظروف. فالأبناء ليس من حقهم ولا من سلطانهم محاسبة آبائهم على تقصير حاصل في التربية الأسرية بسبب ظروف ٍ قد تكون أملتها عليهم أوضاعُهم الاستثنائية أو المعاكسة لمشيئتهم.  

نستخلص من كلّ هذا أنّ إكرام الوالدين واجبٌ استوجبته إرادة الخالق من الأبناء تجاه الآباء، مهما كانت الظروف والوقائع، ذلك لأنّ هذا الفعل بإكرام الوالدين يدخل ضمن وصايا الله العشر في المسيحية التي استخلصتها من وصايا النبي موسى والتي أُنزلت على شعب إس*رائي*ل في العهد القديم. ويتضح ذات التأثير الذي طغى على تعاليم الإسلام فيما بعد، والذي يوصي ببرّ الوالدين وتحاشي نهرهما ومعصيتهما وتقديم واجب الاحترام والإجلال لهما مهما كانت الظروف والأسباب: “وبالوالدين إحسانًا” (النساء 36 والأنعام 151). والأكثر من هذا ما أوردته الآية التالية بلمزيد من الإكرام للوالدين: “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” (لقمان: 14). وفي اعتقادي أنّ هذا النوع من الاحترام والتبجيل ليس من شأنه إذلال الأبناء أو التقليل من شأنهم ومن وضعهم، بقدر ما يشدّ من أزرهم ويدفعهم للمزيد من أعمال الرحمة والمحبة والصبر التي جزاؤُها جميعًا رضا الله ورضا الوالدين في الدنيا وفي الآخرة. وهذا أمرٌ لا يقبل التأويل والاجتهاد والاعتراض، لأنه وصية الرب الخالق، وقد اتفقت عليه الأنبياء والرسل والأئمة، تمامًا كما حسبه واعتمدُه الناشطون والمنادون بحقوق الإنسان والداعمون لإنشاء أسرة متماسكة مبنية على المحبة والخدمة والرحمة والاحترام والمصالحة مع الذات ومع الآخر.

أخيرًا، مهما كانت وجهات الاختلاف والخلاف بين الآباء والبنين، تبقى المودة والرحمة والاحترام من ضرورات العيش اليومي ومن الفضائل والنعم التي يسعى إليها البشر السويّ. إذ بهم صارت حياة الأبناء، ومنهم جاءت التربية، مهما كانت هذه ناقصة أم كاملة أم متزعزعة. لذا يبقى إكرام الوالدين من الوصايا الكبرى التي أمر بها الله، رب الأكوان ومالك السماء والأرض وما فيهما من عناصر. فحياتُنا وحياتُهم بين أيديه. ومَن يرضي الوالدين في الأرض يلقى رضا الله في الأرض والسماء على السواء!

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!