أميركا وسيناريوهات السقوط
أميركا وسيناريوهات السقوط
أميركا أولا.. لا تنسوا ذلك
أثار ستيف ويتكوف المبعوث الأميركي الخاص لمنطقة الشرق الأوسط استياء المصريين خلال الفترة الأخيرة بعد تصريحاته التي أثار فيها احتمال “حدوث شيء سيء” في مصر بسبب حالة الاحتقان في البلاد الناتجة عن الحرب في غ*ز*ة، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة وتفاقم الأزمة المالية في البلاد.
كان تلميحه لاحتمال حدوث انهيار في مصر مفاجئا وغريبا نوعا مّا لعدة أسباب من بينها الاستقرار النسبي للأوضاع فيها والدور الإستراتيجي الذي لعبه نظام عبدالفتاح السيسي منذ سنوات في مساندته لأهداف أميركا في المنطقة وكذلك جهود الوساطة التي بذلتها وما زالت تبذلها القاهرة منذ اندلاع الحرب في غ*ز*ة.
البعض من المعلقين في مصر رأى في تصريحات ويتكوف “تهديدا مبطنا” لمصر. قد يكون ذلك صحيحا. كما رأى العديد من المحللين خارج مصر بمن فيهم كتاب إس*رائي*ليون أن هذه التصريحات محاولة للضغط على مصر من أجل تطويعها بعد رفضها لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداعية لتهجير سكان غ*ز*ة. وهذا أيضا ممكن جدا.
مهما كانت التفسيرات فإن تصريحات ويتكوف لم تكن تستحق سيل العواطف الجياشة الذي أثارته. فنظرة واشنطن التقليدية إلى الأنظمة في بلدان الجنوب لا تحددها معايير الوفاء والإخلاص والمحبة. علاقتها بهذه الأنظمة ليست زواجا كاثوليكيا، وللإدارات الجمهورية والديمقراطية في واشنطن تقاليد راسخة في القبول بسهولة عجيبة باحتمالات “سقوط” الأنظمة و”خسارتها” لها، حتى وإن كانت هذه الأنظمة حليفة أو صديقة للولايات المتحدة أو على الأقل تعتبر نفسها كذلك.
◄ المعسكر الشيوعي انتهى إلى زوال ولم تعد روسيا تشكّل بديلا واقعيا عن أميركا لدول الشرق الأوسط. والأهم اليوم في حسابات واشنطن في المنطقة هو الخارطة التي يمكن أن ترسمها التحالفات والتوازنات الجديدة
“متلازمة السقوط” ترافق السياسة الخارجية الأميركية من أيام شاه إيران إلى حقبة فرديناند ماركوس في الفيليبين وغيرهما. الكلام عن “السقوط” هنا يعني الخشية من انهيار الأنظمة الحليفة والصديقة.
وهذه الخشية لا تعكس بالضرورة رغبة خفية في حدوث “السقوط” بقدر ما تترجم ميل المؤسسة الرسمية الأميركية، بما فيها البيت الأبيض والدبلوماسية وأجهزة المخابرات، إلى استشراف مستقبل الأنظمة التي تعنيها من قريب أو بعيد. ومن الهام الإشارة إلى أن توقعات هذه الأجهزة كانت في الكثير من الحالات مجانبة للصواب.
رغم ذلك لا تتوقف المؤسسة الرسمية عن محاولة الاستشراف دون مشاعر أو مجاملة، مهما كان وثوق روابطها بالأنظمة الصديقة والحليفة. وهي تقدم استنتاجاتها وتوصياتها لأصحاب القرار تبعا للتطورات المرتقبة والمتغيرات التي تسجلها على الساحة الدولية.
لا يهم، حسب ويتكوف، مثلا، ماضي الرئيس الانتقالي السوري، إذ أن النظام الجديد في دمشق يبدو حسب قوله مستعدا للتقارب مع إس*رائي*ل وأحمد الشرع قد يكون تغير مع الأعوام.
تنظر واشنطن عادة إلى مسرح الأحداث في العالم كرقعة شطرنج تتصارع فيها – خارج الديمقراطيات الغربية طبعا- البيادق الصديقة والمعادية لأميركا. لكن الإدارات الأميركية مستعدة للقبول باحتمال مغادرتها للحكم إذا ما أضحت غير قابلة للبقاء. وهمّ واشنطن عندها ألاّ يكون نظام الحكم اللاحق أسوأ.
من السذاجة الاعتقاد بأن “للصداقات” الشخصية وزن يفوق المصالح والحسابات الإستراتيجية. فعندما اتضح لأصحاب القرار في واشنطن أيام “الربيع العربي” أن القيادات القديمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد انتهت مدة صلوحيتها لم يشفع لحسني مبارك أن يكون له مناصرون يدافعون عنه في البيت الأبيض والبنتاغون ولا مهاتفته لباراك أوباما من أجل طمأنته على أن زين العابدين بن علي لن يعود إلى تونس بعد سفره إلى السعودية.
فرضيات “السقوط” تثير مخاوف المؤسسة الرسمية الأميركية خاصة عندما تتحول إلى كرة ثلج تعرّض مصالح واشنطن إلى الخطر.
وطبقا “لنظرية الدومينو” هذه، كان هاجس واشنطن في جنوب شرقي آسيا خلال سبعينات القرن الماضي ألاّ يؤدي “سقوط” جنوب فيتنام في “الخندق الشيوعي” إلى “سقوط” كمبوديا وتايلندا ولاوس وبرمانيا أيضا.
◄ مهما كانت التفسيرات فإن تصريحات ويتكوف لم تكن تستحق سيل العواطف الجياشة الذي أثارته نظرة واشنطن التقليدية إلى الأنظمة في بلدان الجنوب والتي لا تحددها معايير الوفاء والإخلاص والمحبة
انتهى المعسكر الشيوعي إلى زوال ولم تعد روسيا تشكّل بديلا واقعيا عن أميركا لدول الشرق الأوسط. والأهم اليوم في حسابات واشنطن في المنطقة هو الخارطة التي يمكن أن ترسمها التحالفات والتوازنات الجديدة وما يعنيه ذلك بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة وأهدافها الإستراتيجية.
والخارطة التي تسعى واشنطن لرسمها بعد حرب غ*ز*ة ليست سرا على أحد. فهي خارطة الاندماج الإقليمي الكامل لإس*رائي*ل وتحجيم قدرات إيران ووكلائها في المنطقة.
ليس هناك احتمال في الوقت الحالي كي تتداعى قطع “الدومينو” الموالية لواشنطن في الشرق الأوسط، مثلما تداعت خلال الأعوام الماضية القطع الموالية لفرنسا في غرب أفريقيا .
في هذا الإطار يعني “السقوط” فقط احتمال خروج الأنظمة أو بعضها عن الخارطة التي تسعى إدارة ترامب لرسمها.
والحقيقة الوحيدة التي تتجلى من وقائع السنوات والعقود الماضية هي أن المسؤولية الأساسية في البقاء و”السقوط” هي مسؤولية الأنظمة نفسها قبل أن تكون مسؤولية واشنطن أو موسكو أو روما أو باريس.
على عاتق هذه الأنظمة تقع مسؤولية استقرار بلدانها وضمان وفاء أجهزتها وشعوبها لها. أما القوى العظمى فوفاؤها لمصالحها فقط.
أسامة رمضاني
رئيس تحرير العرب ويكلي
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.