آراء متنوعة

أرضُ المِرِّيخ

علي الجنابي

قدِ امتعضتُ في سرِّي لمَّا سمعتُ جليسي يقول:

“حثماً سوف يهبط الإنسان على أرض المريخ”.

ومدعاة الامتعاضِ أنه جاء في معجم لسان العرب: الأَرْض الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ، أُنثى وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ، وَكَانَ حَقُّ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَن يُقَالَ أَرْضة وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا. وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ . والْجَمْعُ : آراضٌ وأُرُوض وأَرَضُون. وقول جليسي؛ ” أرض المريخ” هو قول خائب لا صائب وقبيح غير فصيح ، والصحيح أن يقول “سيهبط الإنسان على سطح أو تربة أو صخور المريخ ان شاء الله”، وإنما مثل قول الجليس كمثل قول قائل مريخيٍّ مستوطنٍ كوكب المريخ؛ “سوف نهبط على أرض الأرض”. ثم إن ربنا الله ﷻ لو شاء لآدم عليه السلام أن يهبط على المريخ لكانتِ آية 24 من سورة الأعراف: “اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي [المريخ] مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ”، وكذا مثلها أختها آية 10 من السورة كانت ستكون: “وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي [المريخ] وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِیه مَعَـٰیِشَ”. وإذاً، فليس من الفصاحة اطلاق لفظ “الأرض” على كل مساحةٍ مسطحةٍ أو باحةٍ ممدودة أو مدورةٍ ، لأنها مفردة اختصت بكوكبنا الَّتِي عَلَيْهَا نعيش.

ثم إن القرآن الكريم قد أفردَ لَفْظِ لأرْضِ ولم يأت بِها قطُّ بصيغة الجَمْع، وما ذلك إلا لأنها أرض واحدة معلومة بالبداهة، وحتى لمَّا استوجب ذكر لفظ “الأرض” بصيغة الجمع في الآي الكريم رأينا القرآنَ يعدل عن لفظة الجمع ويُثبتُ المفرد، فقال الحق ﷻ في سورة الرعد آية ٤: “قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰ⁠تࣱ”، ولم يقل ﷻ: “آراضٌ متجاوراتٌ”، لأنها أرض واحدة تغلَّفت بغلافٍ من قِطَعٍ مُخْتَلِفَةٍ يُجاوِرُ بَعْضُها بعضاً، فالسَبَخَةُ جَنبَ الخصبَة والرِّخْوَةً خَلفَ الصُلْبَة، والمُنْبِتَةً حذو المَيتَة، وكذا أختها آية 29 من سورة العنكبوت: ” يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ”، وما قال ﷻ: ” إن أرضيني واسعات”، وكذا في سورة الطلاق آية 12: “خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰ⁠تࣲ وَمِنَ ٱلۡأَرۡضِ مِثۡلَهُنَّ”، وما قال “وسبَع أرَضين”، ذاك أن كل سماء من السبع هي خلق في بنائهِ مستقل عن بنيان السماء الأخرى، بينما الأرضون السبع هن أرض واحدة ذات طبقاتٍ بعضها فوق بعض تماماً كَظُلُمَـٰتِ البَحۡرࣲ اللُّجِّیࣲّ (یَغۡشَىٰهُ مَوۡجࣱ مِّن فَوۡقِهِ مَوۡجࣱ مِّن فَوۡقِهِ سَحَابࣱۚ ظُلُمَـٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ).

وهكذا فإن الأرضَ مختلفة التكوين بالكلية عن السموات لكنها مِثۡلَهُنَّ من حيث التناظر والتكوير وعدد السبع والطباق (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، وحرف (من) هنا هو حرف جر يفيد البيان. و [قالَ الضَّحّاكُ: إنَّها مُطْبِقَةٌ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ مِن غَيْرِ فُتُوقٍ بِخِلافِ السَّماواتِ] – تفسير القرطبي. ومَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: “مَنْ ظَلَمَ قيدَ شِبر مِنَ الْأَرْضِ طُوِّقه مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ “، وكذا َفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: “خُسِف بِهِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ “، فكلمٌ نبويٌّ حقٌّ آمنا به، ولا أناقض به ما أسلفتُ لأنهنَّ سبعُ أرضين طباقاً، وقد ذكرَ ابْنُ جَرِيرٍ في تفسيره جامع البيان: [قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ﴾ الْآيَةَ. فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ مَا يُؤَمِّنُكَ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِهَا فَتَكْفُرُ]، ولا أعرف ماذا كان يدور ساعتئذٍ في فكر حبر الأمة من تفسير أو تأويل.

ثم إن الأمر قد يتجلى واضحاً في الآية 67 من سورة الزمر “وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِ”، فقد أفردَ ﷻ لفظ الأرض وجمعَ لفظ السموات، وفي ذلك إيذانٌ بِالِاخْتِلافِ بَيْنَ حالَيْهِما. ثم إنه سبحانه وتعالى أتى بكلمة”جميعا” فقال: “وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا” إشارة على أن الأرضين السبع هي واحدة مجتمعة في قبضته، فكلمة”جميع تعني: مجتمعين دفعة واحدة قي وقت واحد: “أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا”، سورة البقرة الآية 148، بخلاف كلمة “أجمعين” فتعني كلهم بالتدريج الواحد تلو الآخر وليس بالضرورة في وقت واحد؛ ” إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ” سورة البقرة الآية 161، فاللعنة تكون اولا من الله تعالى للذين كفروا ثم يتبعها لعنة الملائكة ثمّ لعنة الناس. ثم ان إعراب جميعًا هنا هو حال منصوبة من الأرض وليس توكيداً.

وأخيراً فإن الخطب كله يبدو وكأننا نحن بنوآدم قد طفنا في السموات السبع وشفنا كل سماء منها، ولم يتبق لفضولنا الا أن نغوص بحثاً في استكشاف الأرضين السبع كي يؤمن بقول الحق سبحانه وتعالى أنهن سبع أرضين. فتأمَّل.
وثمة لفتةُ إعجازٍ غاية في اللطافة تكمن في آية 33 من سورة الرحمن: “يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ”، فكما أننا اليوم نعلم بيقين تام بعد التقدم التقني الرهيب في علوم الفلك والفضاء، أن التحدي بالنفاذ (من) أقطار السموات محالٌ ويستغرق ألوفاً من سنين ضوئية، فاننا نعلم كذلك ولذات السبب أن تحدي النفاذ (من) اقطار الأرض السبعة هو تحدٍ محال رُغم ان الأرض تحتنا وبين أيدينا ولا حاجة لرحلة سفر تستغرق ألوفاً من سنين ضوئية، ذاك أن الشواظ من النار ستكون لنا بالمرصاد في طبقات الأرض كما في طبقات السموات، فأتى الفرآنُ أولاً بالتحدي الأكبر(نفاذ من أقطار السموات السبع) ثم أتبعه بالتحدي الأيسر(نفاذ من اقطار الأرض السبع).

وهذا الأمر يكاد يكون مطابقاً لتحدي الإتيان بقرآن معجز بمعانيه ومبانيه، وأحكامه وإحكامه، وبكمال حرفه وجمال ذرفه الذي يسلبُ اللب ويخلب القلب، حتى قال عنه سادة الفصاحة العرب بعدما أسرهم ريقُ بيانه وسحرهم بريقُ عنانه: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾، سورة المدثر آية 24، فقد كان البدء بالتحدي الأكبر وهو الاتيان بمثل هذا القرآن: ” قُل لَّىِٕنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِمِثۡلِ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا یَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضࣲ ظَهِیرࣰا”، سورة الإسراء آية 88. ثم كان التحدي بعشر سور: “أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِعَشۡرِ سُوَرࣲ مِّثۡلِه مُفۡتَرَیَـٰتࣲ وَٱدۡعُوا۟ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ”، سورة هود آية ١٣، ثم أنتهى الى التحدي الأيسر: “وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ”، سورة البقرة آية 22. وإذاً، فكما كان خسران التحدي في الأفعال والفشل من النفاذ من أقطار السموات السبع ومن الأقطار السبع للأرض، كان الخسران في الأقوال والفشل في النفاذ في ثلاثةُ أقطار من تحدي البيان في “سُورَةُ ٱلۡكَوۡثَرِ” التي لا يتجاوز عدد آياتها ثلاث آياتٍ بعشر كلماتٍ وباثنين وأربعين حرفاً، لكنهم قطُّ ما استطاعوا، وأبداً لن يستطيعوا اختراق قطرٍ من أقطار السموات والأرض بصواريخهم، ولا اختراق أقطار سورالقرآن الكريم بصراخهم. والله أعلم.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!