هل فكرة الله منتوج عقلي؟ الجزء السابع الأخير
يوحنا بيداويد
هل فكرة الله منتوج عقلي؟ الجزء السابع الأخير
بقلم يوحنا بيداويد
10 تشرين الثاني 2019
نشر هذا المقال في العدد 26 من نشرة “نسمة الروح القدس” التي تنشرها ارسالية الروح القدس للسريان الكاثوليك في ملبورن بمناسبة الميلاد وراس السنة الميلادية 2019
في هذا العدد سنتناول المحاولة الأخنشر هذا المقال في العدد 24 من نشرة “نسمة الروح القدس” التي تنشرها ارسالية الروح القدس للسريان الكاثوليك في ملبورن بمناسبة عيد الصليب 14 ايلول 2019يرة للإجابة عن السؤال هل فكرة الله هي من اختراع العقل؟ التي قام بها الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانط (1724-1804)(1)، الذي يعد أعظم فلاسفة العصر الحديث في اثبات فكرة وجود الله ضرورية والتأكيد على أهميتها رغم عدم مقدرة عقلنا للتأكد منها، لأسباب بعيدة عن الفكر الفلسفي النظري، كالضرورة الأخلاقية او الخوف من الفراغ الفكري الذي قد يؤدي الى سقوط المجتمع بمجمله في الرذائل، بسبب تضارب الآراء في الأولويات، او بسبب الفوضى التي قد تحصل لعدم وجود مرجعيات او قوانين او تعاليم دينية رادعة، بعد ان وجد هناك عجز للعقل البشري للإجابة على الأسئلة المتعلقة بوجود الكون والحياة وعلته والغاية من وجوده عن طريق الفلسفى العقلية او التجريبية.
كانت السؤال الذي يريد كانط الإجابة عليه لا يختلف من حيث الجوهر عن الأسئلة التي طرحها معظم الفلاسفة الكبار من ديكارت وتوما الاكويني والقديس اوغسطينوس وارسطو وافلاطون، حيث كان السؤال الرئيسي الذي تدور حوله فلسفته(2): ” كيف تتركب المعلومة، ماهي مصادر المعرفة عند الانسان، كيف تنتقل اليه او منه لغيره؟ كيف يمكن ان يكون لنا معرفة يقينية لقضية ما في عالم صنعته اذهاننا؟ (3).
كانط بدا فلسفته على مثال العالم الملكي المشهور كوبرنيقوس، حينما اثبت للعالم ان تغير مواقع النجوم الثابتة لا يعود لحركة النجوم وانما لتغير موقع الانسان، وبالتالي استنتج ان الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، كذلك اثبت كانط ان ادراكاتنا تناظر خصائص العالم الخارجي ليس صحيحا بالعكس، فقط الجزء الذي يتطابق اذهاننا(عقلنا) من هذه الخصائص يمكن ان ندركه او نفهمه.
كانط انحاز في بداية فلسفته الى تيار الفلسفة العقلية مثل سبينوزا وديكارت ولبينتز، شك في البداية بمبادئ الفلسفة التجريبية (لوك وهوبز وديفيد هيوم وبيركلي) ان تقودنا الى المعرفة الحقيقة، واعتقد فقط عن طريق التفكير (العقل) يمكن الوصول اليها، فتوغل في دراسة الفلسفة العقلية في الثلث الأول من حياته الفكرية، وبعد ان تعمق في ساحتها وهضم افكارها، وجد ان هذا التيار عاجز عن الكشف عن كل الحقائق، لسبب مهم جدا، هو اننا جزء صغير من عالم كبير جدا، ونسأل عن بدايته وعلة وجوده والهدف منه فذلك غير ممكن، لهذا قال عبارته المشهورة ” الشيء في ذاته” لا تعني “الشيء بالنسبة لي”(4). فالشيء في ذاته يعني موناد (حسب لبينتز) غير قابل للاختراق او معرفة كل صفاته الداخلية.
بعد عام 1765 وبعد اطلاعه على كتب الفلاسفة التجريبين البريطانيين من لوك وهيوم وبيركلي وهوبز، أدرك كانط ان المعرفة الاكيدة غير ممكنة بدون تجربة، وبعد دراسته المستفيضة توصل الى ان كل معرفة تبدأ من التجربة وان الحقيقة الكلية لا يمكن ان يدركها الانسان، لان للإنسان نوافذ صغيرة ومحددة التي يرى العالم المحيط حولنا من خلالها فقط. فمثلا حينما تلبس نظارات حمراء سوف ترى العالم كله حولك احمر اللون، بينما في الحقيقة هو غير ذلك، فقدراتنا العقلية هي التي تحدد العالم وليس العكس.
ان الزمان والمكان يشبهان هذه النظارات(5)، التي تحدد مسبقا محاور إمكانية رؤيتنا لحقيقة هذا العالم. وكلاهما حسب كانط يحددان الصورة مسبقا للعقل، فهما بنى حدسية فطرية لدى عقل الانسان (أي أدوات لعقل الانسان لفهم الظواهر والتع-اط*ي مع العالم الخارجي)، مثلا إذا كان تركيب الحواس لكائنات أخرى (من كوكب اخر) مختلف عنا، سترى هذه الكائنات هذه العالم بطريقة وبقوانين وبمفاهيم مختلفة عن التي نمتلكها. فكما يأخذ الماء شكل الأواني المستطرقة، كذلك ادراكاتنا تتأثر بطريقة عمل حواسنا، وشعورنا، فالعقل ليس صفحة بيضاء تطبع عليه حواسنا انفعالاتها، بالعكس ان عقلنا (وادواته) تصوغ هذه الانفعالات حسب الطريقة التي تساعده على فهمها، يعني تعيد صياغتها او إعطاء لها رموز يفهما العقل (6)، وطريقة عمل عقل الانسان هي موحدة بين جميع البشر، فلا يستطيع اي انسان ان يتصور العالم بطريقة مختلفة عن التي يتصورها معظم الناس لكن قد يكون أكثر عمقا في استخلاص النتائج المفيدة وهذت ما يقوم بها الفلاسفة والعلماء والانبياء.
مقولات كانط الاثني عشر
كانط توصل ان حواسنا تستلم الاحاسيس والمشاعر عن طريق أربعة نوافذ رئيسة وكل نافدة منها قسمت هذه الاحاسيس الى ثلاثة حالات او أوضاع فرعية ثانوية، ولهذه النوافذ (المفاهيم) صفة قبلية، ذهنية مطلقة (اي لا تحتاج الى البراهين) وهي:
أولا- من حيث الكمية: الوحدة (مفرد)، الكثرة، جملة (كلية)
ثانيا- من حيث الكيفية: الإيجاب، السلب، الحد او الحصر.
ثالثا- من حيث النسبة: الذاتية والعرضية، العلية والمعلولية، المشاركة أو المقابلة.(
رابعا- من حيث الجهة: احتمالية، جبرية، يقينية.
التعليق والمناقشة
في نهاية الامر استسلم كانط للحقائق الواقعية والتي لخصت بثلاث نتائج مهمة: –
1- اقتنع كانط في نهاية ثلث حياته الفكرية، انه ليس لعقلنا القدرة على حسم الجدال او النقاش لهذا نرى اصطلح عبارته المشهورة (الشيء في ذاته). اننا عاجزين من معرفة الكون المحيط بنا معرفة اكيدة، لأننا جزء منه (كأننا جزء من كرة متحركة لا نعرف سبب تحركها)، لنسنا خارج عنه كي نحكم عليه. لهذا نحن محددين بالنظارات التي يمتلكها عقلنا لمعرفة هذا الكون او الوجود.
2- لابد للأيمان بوجود عالمي، عالم نظري (Noumenal) وعالم اخر عملي (Phenomenal)، الأول عالم مبني على القوانين والنظريات العلمية (عقلاني او فكري) ليس له بداية زمنية والاجسام فيه لا يمكن تقسيمها الى ما لانهاية، كل شيء يحصل فيه بحسب قوانين طبيعية والأخر عالم مبني على الخبرة العملية.
3- نتيجة طبيعتنا الاجتماعية والأخلاقية والنفسية، نجد هناك ضرورة قصوى للأيمان والعيش بموجب عالمنا العملي، لأنه المفاهيم الرئيسية فيه (النفس والله والكون والحرية) هي ضرورية لحياتنا اليومية، لحاجتنا الأخلاقية رغم معرفتنا الاكيدة بعجز العقل نفيها او اثباتها.
كانت هذه اخر محاولة فلسفية مهمة للتوفيق بين الفكر الميتافيزيقي اللاهوتي والفكر المادي(7) كثير من المؤمنين يضعون كانط على راس قائمة الملحدين، لكن في الحقيقة هو أفضل فيلسوف عقلاني وضع سبب منطقي وضروري لاستمرارنا على ايماننا بالقيم المطلقة التي ليس مقدور العقل تغطي مناظره كي يرى الحقيقة المطلقة في هذا العالم المادي!!. في الحقيقة لا توجد مدرسة من المدارس الفلسفية الحديثة لم تتأثر بآراء كانط، بل يعد أعظم فيلسوف واقعي وعقلاني ومثالي، كانت محاولته اخر محاولة عقلانية للتوفيق بين الدين والمعرفة (الفلسفة والعلوم الطبيعية).
…………….
1- كتب عدة كتب أهمها، نقد العقل الخالص النظري 1781، ونقد العقل العملي 1788م وميتافريقيا الاخلاق 1785م.
2- نشأ في عائلة مسيحية بروتستانتية، ويقال تأثرت فلسفته ببيئة طفولته التي ظهرت في الثلث الأخير من حياته، حينما تركزت اهتماماته على دراسة الاخلاق، ينسب له القول التالي:” لقد اردت ان اهدم العلم (بما بعد الطبيعة) لأقيم الايمان”، وفي مقال اخر عنوان ” الأساس الممكن الوحيد للبرهنة على وجود الله” سنة 1763م وضع أربع ادلة على وجود الله.
3- كانط قسم الذهن الى ثلاث ملكات ذهنية هي ملكة المعرفة والإرادة والشعور. ثم قسم ملكة المعرفة الى ملكة الحساسية (Sensibility)وملكة الفهم (Understanding) وملكة العقل (Reason).
4- ان عبارة ” الشيء في ذاته” لا تعني “الشيء بالنسبة لي”، قالها بعد ان وجد لا يمكن للعقل ان يعير نفسه، أي يقيمه.
5- المتغيران الزمان والمكان اعتبرهما كانط محددان الصورة البدائية عند العقل بصورة استباقية (مثل عملية صياغة الاشكال من المنصهر)، يقال ان العالم الفيزيائي اينشتاين اكتسب نظريته النسبية من هذه الفكرة.
6- عملية ترمز الانطباعات او الاحاسيس تشبه طريقة ترمز الأصوات واعطائها معاني-مرادفات، او طريقة ترمز الأصوات وكتابها بالحروف.
7- ظهرت محاولة أخرى بعد كانط على يد الفلاسفة شيلنغ وغوته وفلاسفة اخرين لكن لم تترك اثر امام تيار الفلسفات الحديثة.