هل سيكون الشرق الأوسط الجديد اس*رائ*يلياً؟ – فراس ناجي
أرض مستباحة بمستوطنات وسياحة توراتية معزولة عن السكان الأصليين، مع التحكم بثروات واقتصاد المنطقة، هذا هو مستقبل المشرق العربي في مخيلتي خلال الفترة ما بين الشروع بالعدوان الإ*سر*ائي*لي على إيران في فجر يوم 13 حزيران 2025 وما بين مساء نفس اليوم عندما بدء الرد الإيراني. هذا السيناريو ليس خيالياً بالضرورة إذا ما تحقق النصر المطلق لإس*رائي*ل وامريكا كما كان مخططاً عند شن العدوان المفاجئ على إيران.
لقد انكشف الخطر الصهيوني اليوم كمشروع يهدف الى الإبادة الجماعية الاستعمارية لأسباب عرقية واقتصادية وسياسية تحت غطاء ديني، وهو نفس النهج الذي اتبعه الأوربيون في السيطرة على أراضي “العالم الجديد” وتم من خلاله إبادة السكان الاصليين فيها. ففي أمريكا على سبيل المثال ظل أكثر من نصف الأراضي بيد سكانها الأصليين أكثر من ثلاثة قرون قبل ان يتم إبادة معظمهم خلال القرن التاسع عشر من خلال الحروب والأمراض والتجويع والتهجير القسري والق*ت*ل الجماعي، وهي وسائل يتم استخدامها حالياً لإبادة الفلسطينيين في قطاع غ*ز*ة المُحاصر.
كانت إس*رائي*ل طوال عقدي الألفية الثالثة تعمل على حماية أمنها من خلال البطش بأعدائها من جهة والتطبيع مع الدول العربية من جهة ثانية مع رفض الاعتراف بالحقوق ا*لفلس*طينية؛ لكن هذه الاستراتيجية تغيرت بعد معركة طو*فا*ن الأقصى التي أضعفت قوة الردع الإ*سر*ائي*لية وقوضت إنجازات إس*رائي*ل في الاندماج في محيطها العربي وقيادة تحالف اقتصادي وأمني إقليمي. فتصاعدت أولوية الحلول العسكرية على التنمية الاقتصادية لترسيخ إس*رائي*ل كقوة إقليمية ضاربة ومهيمنة تقضي على القضية ا*لفلس*طينية من خلال التهجير والابادة الجماعية، ومن ثم إرضاخ دول المنطقة على التطبيع في منظومة اقتصادية-سياسية تقودها اس*رائ*يل. وهذه الاستراتيجية الإ*سر*ائي*لية تتماهى مع سياسات الرئيس الأمريكي ترامب الذي يعمل على إعادة النظر في التزامات أمريكا العالمية وإعادة تشكيل النظام الدولي القائم ليخدم المصالح الامريكية المباشرة كما يراها هو. فالجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم عاجزة عن تنفيذ أي من قرارتها، ومجلس الأمن الدولي في حالة شلل تام، بينما استخدمت أمريكا الوكالة الدولية للطاقة الذرية في اعلان عدم امتثال إيران لالتزاماتها الدولية قبل يوم واحد من الهجوم الإ*سر*ائي*لي، ثم تبرير الهجوم بتصريح رئيس الوكالة بأن إيران تمتلك كمية من المواد تكفي لصُنع نحو 12 قنبلة نووية، كل ذلك رغم معارضة روسيا والصين لموقف الوكالة هذا.
والأخطر من ذلك هو سعي أمريكا لفرض تحويل مفهوم الأوطان وجغرافية الدول المحمية بالقانون الدولي الى “أراضي عقارية” يمكن أن تحتلها أية دولة تمتلك القوة؛ فعدّ الرئيس ترامب سيطرة أمريكا على غ*ز*ة “صفقة عقارية” وطرح مايك هاكابي سفير أمريكا في إس*رائي*ل إعطاء “أراضي عقارية” للفلسطينيين في أي أرض إسلامية لإقامة دولتهم فيها. كل هذا مع طموحات ترامب التوسعية للاستيلاء على أراضي جديدة مثل جرينلاند وكندا وقناة بنما، يعود بالعالم الى عصر الامبراطوريات في القرن التاسع عشر والذي أدّى الى جرائم الإبادة الجماعية والحروب العالمية.
لقد فشل العدوان الإ*سر*ائي*لي-الأمريكي في تحقيق أهدافه المُعلنة في التدمير الكامل للقدرة النووية الإيرانية والقضاء على القوة الصاروخية الاستراتيجية الإيرانية التي تهدد إس*رائي*ل وفي تغيير النظام الحالي الى آخر مُطبّع مع إس*رائي*ل. في المقابل ورغم الاضرار الكبيرة التي اصابت إيران في مختلف المجالات، فقد صمدت كدولة ونظام سياسي وشعب ونجحت في ايلام إس*رائي*ل من خلال قصفها الصاروخي الدقيق والمدمر لبنك أهداف واسع واستراتيجي شمل منشآت عسكرية/استخباراتية وبنية تحتية ومؤسسات اقتصادية وعلمية في وسط تل أبيب وميناء حيفا ومناطق أخرى. وعلى الرغم من إن الأطراف الثلاث المنخرطة في هذه الحرب – إس*رائي*ل وامريكا وإيران – قد أعلنت انها حققت انتصاراً كبيراً فيها، الا ان أي طرف لا يبدو سيعاود خرق وقف إطلاق النار الحالي على الاقل في المستقبل القريب، ما يعني إن هذه الحرب قد خلقت نوعاً من توازن الردع الهش، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار عدم التزام إس*رائي*ل سابقاً بأي وقف لإطلاق النار – مثلما حصل مؤخراً في غ*ز*ة ولبنان وسوريا – إذا كانت تشعر بالتفوق العسكري والقدرة على إيذاء الطرف الآخر بدون ان تدفع هي ثمناً مؤلماً لخرقها للاتفاق. لكن هذا لا يعني على الاطلاق إن الحرب الحالية في المنطقة قد انتهت، فتوازن القوة الهش الحالي قد ينهار بتطورات الصراع الإ*سر*ائي*لي-الإيراني أو في تغيرات الأحداث في مختلف دول المنطقة.
إن صمود إيران كان بسبب عوامل موضوعية أهمها الحكمة الاستراتيجية في إدارة النزاع مع أمريكا وإس*رائي*ل على مدى عقود لم تقع فيها إيران في فخاخ التصعيد بل أجبرتهما على البدء بالعدوان، ما دعم موقف الحكومة الايرانية بالدفاع عن النفس دولياً وداخلياً؛ بالإضافة الى بناء القدرات الذاتية علمياً وتكنولوجياً لتطوير وحماية البرنامج النووي والسلاح الصاروخي؛ مع القدرة على إيلام الأعداء من خلال القصف الموّجَه والمدمِر. من هذا المنطلق، يمكن أن تكون تجربة الصمود الإيراني عامل يقظة وأمل لشعوب ومجتمعات المشرق العربي. اليقظة في وجوب العمل الدؤوب لتحصين دولهم امام التحدي الوجودي في كون أراضيهم هي الساحات القادمة للمشروع الاستيطاني اللا إنساني الإ*سر*ائي*لي-الغربي في ظل شلل النظام الدولي الحالي في ضبط هذا التوحش أو الدفاع عن دول المنطقة. إن هذا المشروع يسير وفق خطط مرحلية تستند إلى احتلال الأراضي والتوسع من خلال الاستيطان والسيطرة السياسية والاقتصادية على الشرق الأوسط عبر التفوق التكنولوجي والعسكري لفرض رضوخ واذعان مجتمعات المنطقة وأنظمتها السياسية. والأمل هو في صمود قوة إقليمية وثبات نهج مقاومة ذاتي ضد هذا المشروع العدواني يكون مصدر الهام ونواة لبناء مشاريع مقاومة ذاتية في دول المشرق العربي في سبيل تشكيل نظام أمنى إقليمي يمكن أن يخلق توازن قوة ضد قوى الهيمنة الاس*رائ*يلية-الغربية.
إن منظومة سايكس-بيكو الإقليمية في المشرق العربي والتي خلقها الاستعمار بنسخته الأوربية بعد الحرب العالمية الأولى أصبحت متهرئة ومستحقة للتغيير، فلم تنتج مجتمعات مستقرة أو تنمية اقتصادية، بينما دولها لا تستطيع أن تحمي مجتمعاتها أو حدودها. فها هم الغرب وإس*رائي*ل يسعون لبناء شرق أوسط جديد على أساس الدويلة الأثنية-الطائفية تحت مظلة تحالف الأقليات الذي تقوده إس*رائي*ل ليستبدل مفهوم الدولة-الأمة أو الدولة الوطنية الذي لم ينجح في المشرق العربي طوال تجربة استمرت أكثر من قرن. فما هي الاستراتيجيات التي يمكن ان تطرحها القوى الوطنية في مجتمعاتنا لمواجهة هذه التحديات الوجودية والمركبة؟
بالطبع الجواب على هذا السؤال هو موضوع واسع ومعقد ويستدعي حلقة نقاش خارج نطاق هذه المقالة، لكن ما يمكن التطرق اليه هو الحاجة الى تغيير البوصلة في طريقة التفكير والتحليل وإيجاد الحلول لخلق مسار مختلف عن الطريق المسدود الذي وصلنا اليه من خلال تجربة أكثر من قرن حاولنا فيه استلهام الحلول وبناء الخبرات على هدى الحداثة الغربية. ولعل ما يدعم هذا الطرح هو الأزمة الخانقة التي تمر بها تجربة الحداثة في الدول الغربية، وهي التي تم خلق وتطوير مفاهيم الحداثة فيها بناء على تجربتها الذاتية في صيرورة استمرت قروناً عديدة وليست عبر فرض نموذج دخيل خلال قرن واحد كما هو حال في تجربتنا في المشرق العربي.
هذه البوصلة الجديدة لابد ان تحددها الأجوبة على أسئلة عديدة من أهمها: إذا كان مفهوم الدولة الوطنية الذي أسسته سايكس-بيكو قد أثبت فشله، فما هو البديل لمشروع تحالف الدويلات الاثنية-الطائفية تحت راية الغرب وإس*رائي*ل؟ هل نعود الى مفهوم الأمة العربية الذي لم ينجح سابقاً ونحاول إعادة احيائه بتصرّف، أو نتوجه الى مفهوم الأمة الإسلامية وبتصرّف أيضاً من خلال مفهوم الدولة الحضارية الذي تتبناه الصين وروسيا ويقود حالياً التغيرات العالمية نحو التعددية القطبية؟ في كل الأحوال لابد لهذه الأجوبة أن تعالج التحديات المجتمعية والاقتصادية والجيوستراتيجية التي تواجه مجتمعاتنا الان وتجد لها الحلول.
في النهاية، لابد من التأكيد إنه على الرغم من هذه الضبابية والتحديات المركبة إلا إن الخطوات الأولى بالنسبة للقوى الوطنية الفاعلة في دول المشرق هي واضحة ولا مواربة فيها، وهي العمل لتحقيق الاستقلال عن الهيمنة الغربية وبناء الإرادة الحرة الجامعة للقوى المجتمعية الفاعلة على مدى الأوطان. وبالنسبة الى العراق، هذا يعني العمل على التخلص من سيطرة البنك الفيدرالي الأمريكي على عائدات مبيعات النفط، وفك الارتباط مع القوات الامريكية وانسحابها من العراق، والخروج من الرقابة الدولية لمجلس الأمن، بالإضافة الى تجسير الهوة التي تحول دون المشاركة الشعبية الفاعلة في العملية السياسية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.