هل الإسلام السياسي يهدد وجود المسيحيين في الشرق؟
هل الإسلام السياسي يهدد وجود المسيحيين في الشرق؟
يعد الوجود المسيحي في الشرق الأوسط جزءًا أصيلًا من الهوية الثقافية والتاريخية للمنطقة، إذ تعود جذوره إلى القرون الأولى للمسيحية، حيث نشأت كنائس ومجتمعات مسيحية أسهمت في بناء الحضارة العربية والإسلامية. لكن خلال العقود الأخيرة، ومع تصاعد تيارات الإسلام السياسي، أصبح السؤال عن مستقبل المسيحيين في الشرق أكثر إلحاحًا، خصوصًا في ظل الحروب والصراعات الطائفية التي أضعفت التعايش التقليدي بين مكونات المجتمع. فهل يشكل الإسلام السياسي تهديدًا حقيقيًا لوجود المسيحيين في الشرق؟
الإسلام السياسي: الأيديولوجيا في مواجهة التعددية
الإسلام السياسي ليس ظاهرة جديدة، لكنه اكتسب زخمًا في القرن العشرين مع صعود جماعات مثل الإخوان المسلمين في مصر، وحزب النهضة في تونس، والجماعات السلفية والجهادية في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي. هذه الحركات، رغم تنوع أطروحاتها، تتشارك في فكرة أساسية: السعي إلى إقامة نظام سياسي قائم على الشريعة الإسلامية، وهو ما أثار مخاوف الأقليات، خاصة المسيحيين، الذين يخشون أن يؤدي ذلك إلى تهميشهم أو تقليص حقوقهم المدنية والدينية.
إن التجارب التي مرت بها بعض الدول العربية، مثل العراق وسوريا بعد موجات العن*ف التي صاحبت صعود تنظيمات مثل القاعدة ود*اع*ش، أكدت أن بعض تيارات الإسلام السياسي لا تتقبل التعددية، بل تسعى إلى فرض رؤيتها الأيديولوجية، حتى لو كان ذلك على حساب المكونات الأخرى. وقد شهدت تلك البلدان موجات هجرة جماعية للمسيحيين، الذين أصبحوا يشعرون بأن وجودهم بات مهددًا، ليس فقط بسبب الجماعات الار*ها*بية، بل أيضًا بسبب السياسات التمييزية التي تتبناها بعض الأنظمة المتأثرة بخطاب الإسلام السياسي.
من التعايش إلى الهجرة: المسيحيون في مواجهة التحديات
لطالما عاش المسيحيون والمسلمون جنبًا إلى جنب في الشرق الأوسط، وشكّلوا نسيجًا اجتماعيًا وثقافيًا غنيًا، حيث برز المسيحيون في مجالات الفكر والفنون والاقتصاد والسياسة. لكن هذا التعايش بدأ يواجه تحديات خطيرة مع تنامي التيارات المتشددة التي ترفض الآخر، وتروج لأفكار إقصائية تستهدف الأقليات الدينية.
في العراق، كانت موجة العن*ف الطائفي بعد 2003 سببًا رئيسيًا في تقلص أعداد المسيحيين، حيث تعرضوا لهجمات منظمة من قبل جماعات متطرفة، بالإضافة إلى سياسات الإقصاء التي جعلت الكثيرين يشعرون بأن مستقبلهم لم يعد آمنًا. في سوريا، ومع اندلاع الحرب الأهلية، تعرضت العديد من القرى المسيحية لاعتداءات من قبل مجموعات جهادية، مما دفع الآلاف إلى الفرار. وحتى في مصر، حيث يشكل الأقباط أكبر أقلية مسيحية في المنطقة، شهدت الكنائس هجمات ار*ها*بية وتعرض المسيحيون لموجات من التمييز السياسي والمجتمعي، رغم محاولات الدولة احتواء الأزمة.
هذه التحديات دفعت المسيحيين إلى البحث عن ملاذ آمن خارج أوطانهم، مما أدى إلى تراجع أعدادهم بشكل ملحوظ. فوفقًا لتقارير دولية، فإن عدد المسيحيين في العراق، الذي كان يتجاوز المليون في التسعينيات، انخفض إلى أقل من 300 ألف اليوم، بينما تواجه سوريا هجرة غير مسبوقة للمسيحيين، الذين كانوا يشكلون حوالي 10% من السكان قبل الحرب.
الإسلام السياسي المعتدل: هل هو حل أم تهديد مستتر؟
رغم الصورة القاتمة التي ترتبط بالإسلام السياسي في أذهان الكثيرين، إلا أن بعض الأحزاب الإسلامية تحاول تقديم نموذج مختلف، يقوم على التوفيق بين الشريعة الإسلامية والديمقراطية، كما هو الحال مع حزب العدالة والتنمية في تركيا، أو حركة النهضة في تونس، التي أعلنت تخليها عن الإسلام السياسي لصالح “الإسلام الديمقراطي”.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن الوثوق بهذه التيارات في ضمان حقوق المسيحيين؟ الواقع يشير إلى أن العديد من الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى السلطة لم تنجح في تحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين، حيث بقيت القوانين متأثرة بالنظرة التقليدية التي تميز بين المسلم وغير المسلم في بعض الحقوق. وعلى الرغم من محاولات هذه التيارات تقديم خطاب أكثر اعتدالًا، إلا أن مخاوف المسيحيين لا تزال قائمة، خاصة أن بعض الإسلاميين المعتدلين يواجهون ضغوطًا داخلية من تيارات أكثر تشددًا ترفض أي تنازل عن فكرة الدولة الإسلامية.
مستقبل المسيحيين في الشرق: بين الأمل والمصير المجهول
أمام هذا الواقع، يواجه المسيحيون في الشرق الأوسط تحديات وجودية تتطلب حلولًا جذرية تضمن لهم حق العيش الكريم في أوطانهم دون خوف أو تمييز. ومن بين الحلول الممكنة:
1.تعزيز مفهوم المواطنة: يجب أن تكون الدولة محايدة تجاه الأديان، وتضمن المساواة بين جميع مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، بحيث لا يكون الانتماء الديني معيارًا في الحقوق والواجبات.
2.إصلاح الخطاب الديني: يحتاج العالم الإسلامي إلى تجديد الفكر الديني بما يتوافق مع قيم التعددية والتسامح، وإقصاء الخطابات المتطرفة التي تشوه العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.
3.حماية الوجود المسيحي دوليًا: يجب أن تلعب المنظمات الدولية دورًا أكثر فاعلية في حماية حقوق المسيحيين في الشرق، من خلال الضغط على الحكومات لضمان أمنهم ومشاركتهم الكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية.
4.دور المسيحيين أنفسهم: على المسيحيين في المنطقة تعزيز مشاركتهم في الحياة العامة، وعدم الانزواء، حتى لا يكونوا عرضة للتهميش أو الاستهداف، فالتفاعل مع المجتمع السياسي والثقافي هو أحد أهم سبل البقاء.
ختاماً على ما يبدو في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط، يبقى مستقبل المسيحيين مرهونًا بقدرة الدول على تحقيق العدالة والمساواة، وبمدى استعداد المجتمعات لمواجهة التطرف بكافة أشكاله. الإسلام السياسي، سواء في نسخته المتشددة أو المعتدلة، لا يزال يشكل تحديًا للأقليات الدينية، لكنه ليس العامل الوحيد في معادلة الاضطهاد والهجرة. فالمشكلة الحقيقية تكمن في غياب الدولة المدنية القادرة على حماية جميع مكوناتها، وهو ما يجعل الحل يكمن في بناء أنظمة حديثة تحترم التنوع وتعزز حقوق المواطنة، بعيدًا عن أي أيديولوجيا دينية إقصائية.
إذا أراد الشرق الأوسط الحفاظ على إرثه التاريخي كموطن للأديان والحضارات، فلا بد أن يتبنى نموذجًا جديدًا يقوم على التعددية، وإلا فإنه سيخسر جزءًا أساسيًا من هويته الحضارية، وسيبقى المسيحيون في المنطقة أمام خيارين لا ثالث لهما: الرحيل أو النضال من أجل البقاء.