مقالات سياسية

ذكريات من الماضي العراقي القريب (8)

الكاتب: عبدالله النوفلي
ذكريات من الماضي العراقي القريب (8)
كانت بغداد كما هو حال مدن كثيرة من العراق وخصوصا الموصل والبصرة معروفة بوجود شوارع واسعة وجسور وأنفاق وتقاطعات وخصوصا الحديثة منها والسريعة التي كانت تربط المدينة مع قطاعاتها وحاراتها ومعها ومع المدن الأخرى وتخدم الناس بتسهيل عملية وصولهم لأعمالهم بيسر وسهولة وتوفر لهم الخيارات الكثيرة فيما لو تعرض طريق ما للغلق نتيجة حادث معين.
لكن بعد 2003 كل هذه أصبحت دون فائدة كونها قد تعرضت إما للتدمير نتيجة قصف الفاتحين!!!! أو للإغلاق نتيجة حاجة أجهزة الأمن والمؤسسات الحكومية أو تلك التي تعود لقوات الاحتلال كي يصبح المواطن العراقي الوحيد هو الخاسر كونه يمضي ساعات كثيرة ليس كي يحصل على وقودا لسيارته بل لكي يصل إلى عمله بالوقت المحدد وحتى لا يغضب منه رئيسه ويخسر مصدر عيشه  وعيش وأسرته.
ودون سابق أنذار كنا نفاجأ بغلق الطريق وعندها إما علينا انتظار رحمة الله كي يتم فتحه ولا نعلم متى؟ أو الاستدارة والرجوع عكس السير كي ندخل في متاهة من الشوارع الفرعية لربما تعيننا كي نهرب من ذلك الغلق ونحصل على فرصتنا بالنجاة أو بالوصول إلى هدفنا، ولكن مرت الشهور والسنين وأصبحت الخيارات أقل يوما بعد آخر فإن مناطق كثيرة تم أحاطتها بالحواجز الكونكريتية وأصبحت كل المناطق معزولة بعضها عن بعض ومعها أصبح أبن المنطقة وحده من يعرف كيف يدخل إلى منطقته ويخرج ومنها وكم من مرة كنا نحتاج إلى الدليل لكي يرشدنا عبر منطقته لطريق الخروج، وحدث مرة وكنت بزيارة لمدينة برطلة في منطقة الموصل عندما طلبت من أحدهم أن يسير أمام سيارتي ويرشدني إلى سبيل الخروج منها فهي كانت أيضا محاطة بالحواجز ومنافذ الخروج محددة وقليلة جدا!!!
ونتيجة هذا أصبحنا نمضي وقتا طويلا بالانتظار داخل سياراتنا ونحن نترقب لحظة الفرج، وحدث مرة وكنا بطريق الموصل – بغداد حيث وقفت مفرزة لقوات الاحتلال كانت تسير أمامنا وقطعت الطريق ولا يوجد مجال كي نخرج منه للطرق الفرعية يمينا أو شمالا كي نبتعد عنها ونواصل السير وبقينا نتفرج على جنود المفرزة وهم يتكلمون مع بعضهم ولم نلحظ وجود شيئا غريبا حينها وحسب مزاجهم إلى أن انتهى حديثهم تحركوا واعطوا لنا المجال أيضا كي نواصل سيرنا، وكان من غير المسوح اجتياز سياراتهم أو حتى الاقتراب منها لمسافة خمسين مترا لأن تجاوز ذلك كان سيعرض من في السيارة للق*ت*ل.
وحدث فعلا لأحدهم الذي كما يبدو كان يتكلم بتلفونه النقال ولم ينتبه لوجود سيارات قوات الاحتلال أمامه ونال جزاءه رصاصة أنهت حياته في الحال قرب منطقة بيجي ولم يرف جفن للق*ت*لة واستمروا بسيرهم إلى مقصدهم!!!، وليس هذا وإنما رجلا آخر كان يقود سيارته القديمة في منطقة حي آسيا ببغداد ومعه ولده الصغير وهذا أيضا لقي حتفه أمام طفله لكن الق*ت*لة هنا كانوا أكثر رأفة فبعد تنفيذ عمليتهم عادو كي يتفحصوا السيارة ومن بداخلها ليجدو الطفل يصرخ وهو يرى والده قد تم ق*ت*له شر ق*ت*لة فكان أن أخذوه مع والده للبيت ونطقو بكلمة (سوري) لعائلته المفجوعة!!! التي لم تجد سوى البكاء وسيلة كي تنفس عن غضبها في ذلك الوقت وبعد أن أخذت هذه العائلة ضحيتها كي يتم مواراته الثرى كان الأشرار قد أكملوا ما بدأه المحتلون وسطوا على ماهو غالٍ وثمين في بيت الضحية!!! لكي تكمل مأساة هذه العائلة ويكون لها خاتمة مؤلمة جدا.
ومرة كان رجل دين يسوق سيارته الخاصة رغم تقدمه بالعمر وربما كان نظره ليس على ما يرام وكانت في ذات الطريق (طريق قناة الجيش ببغداد) سيارات الشركات الأمنية على ما يبدو تسير أيضا وهي مسرعة بسرعة جنونية ورغم ان هذا الانسان الورع كان يسير على جانب الطريق لكن رشقات من الرصاص تم توجيهها صوبه ممن كان في تلك السيارات لكن نصيب هذا الرجل كان أفضل من غيره لإن حقد الأشرار قد أصاب هيكل السيارة وخرج هو منها سالما معافى لكن بحالة نفسية سيئة جدا، وعن هذا فقد علم العالم كله ما جرى في ساحة النسور ببغداد من اطلاق للنار عشوائيا حصد الكثيرين حينها ومن جنود ذات الشركات أيضا وكأن العالم لا يرى ولا يسمع، وكان مصير الق*ت*ل أيضا ينتظر سيدتين في ساحة المسبح والفعلة دائما كان سيارات الشركات الأمنية، وأنا متيقن بأن أمثال هذه الحوادث كثيرة جدا. حيث تم رواية العديد منها ومنها أن دبابة للمحتل كانت تسير في أحد الطرقات وصادف وجود سيارة أجرة متوقفة في طريقها، ولم يتوانى من في الدبابة بالانحراف قليلا عن تلك السيارة بل استمروا وصعدت الدبابة فوق تلك السيارة كي تجعلها هشيما منثورا دون وازع من ضمير تجاه صاحب تلك السيارة ولربما كان أحدهم فيها؛ طفلا أو رجلا مسنا؟!!!
والحواجز الكونكريتية أصبحت مكانا ملائما للرسامين كي يبدعوا بفنونهم على تلك الحواجز الصّماء أو موقعا لكتابات الفضوليين ومنها ما انتشر عبر الانترنيت الشيء الكثير وهنا على سبيل المثال الاعلان التالي الذي كتب دعاية لمحل حلاقة: (حلاقة هاني … أطفر وتلكَاني)، ولا نعرف هل كانت نكتة أو تهكما من حالة الحواجز فبقي سر هذه الكتابة مع صاحبها. وكانت تلك الحواجز متعددة الأشكال والارتفاعات فقد وصل بعضها لارتفاع الثلاثة امتار وغيرها متران أو متر أو أقل من ذلك وحسب الغاية من وضعها، ولم تكن هذه سوى معرقلات حسب ضن واضعيها كي لا يفلت الأشرار عند تنفيذ أعمالهم الإجرامية لكن بقيت تلك الأفعال تنفذ رغم وجود الآلاف من السيطرات ونقاط التفتيش والعصي الحساسة بوجود تلك المواد لكن العبوات كانت تنفجر باستمرار وكم من وكر تم أكتشافه داخل المناطق السكنية لمواد متفجرة ولم يكن جيرانه يعرفون بما موجود في ذلك الدار وأمثاله، لقد كانت أدوات الشر موجودة قريبا منا وملاصقة لبيوتنا أحيانا ولا نعلم أننا نسكن بجوار قنابل موقوتة قد تنفجر في أية لحظة ولجأت قوات الاحتلال إلى طريقة تدمير البيت عند اكتشاف محتوياته هذه وليس صعبا معرفة ما يحصل في البيوت المجاورة عند تدمير ذلك البيت.
وعن اللاصقة والمتلاصقة فقد انتشرت في فترة من الفترات العبوات اللاصقة التي كانت توضع أسفل السيارة وتحت الهدف الذي يراد تصفيته وحدثت الكثير من هذه الحوادث وكان ضحيتها مسؤولين مهمين في الأجهزة المختلفة أو أناس أبرياء لا دخل لهم بكل ما يجري وغالبا هذه ما كنت تلحق ضررا كبيرا بالسيارة وكذلك بالضحية فإن لا تقضي عليه كان يصاب ببتر او عوق أو أضرار جسيمة في جسمه، وعن تفادي هذه الحالات لجأ الكثيرين لشراء مرايا بذراع طويلة كي يفحص أسفل سيارته قبل تحركه بها من أي مكان يكون بدءا من مرآب بيته وحتى في الكراجات العامة أو عندما يتركها في أي من الشوارع لقضاء حاجة ما، فكنا نعيش القلق بمعنى الكلمة من هذا الرعب الجديد والمحتمل.
وكان نصيب صاغة الذهب كبيرا في مخططات الأشرار لأن واجهات محلاتهم كانت مغرية بما تعرضه من ذهب يأخذ بريقه الأبصار ويسيل لعاب الأشرار كونه سيدر لهم مبالغ طائلة فكم من عملية تم تنفيذها صوب هذه المحلات وفي كافة المدن العراقية ولم تسلم منطقة منها، وكانت الضحايا كثيرة في حي الشعب والوشاش وحي العامل وبغداد الجديدة ببغداد ومناطق أخرى لا مجال لذكرها ولجأ أصحاب هذه المحلات لوضع جرس أنذار في متناول يد صاحب المحل عند شعوره بالخطر وكانت القيصريات التي يتواجد مثل هذه المحلات فيها عادة قد اتفقت فيما بينها كي يكون لهم حراسات موحدة ولكي لا يكونوا فريسة سهلة أمام من يريد لهم الشر لكن من يريد الإيقاع بالفريسة ليس بالضرورة أن يصطادها في مكان عملها لأن الخطف هو أيضا وسيلة مورست مع أصحاب هذه المحلات حيث كان الأشرار ينتظرون أصحاب هذه المحلات ويبدو أنهم كانوا يراقبون تحركات الضحية ويعرفون مكان الانطلاق والوصول كي يصطادونه في أثناء ذلك ولكن هؤلاء الأشرار كانت تذهب المبالغ التي يحصلون عليها صرفا على ملذاتهم وشعوذاتهم كون المال الحرام الذي كانوا يحصلون عليه من أصحابه لم يكن ليستمر في جيوبهم طويلا فالذي يأتي سهلا يذهب سهلا ليعود هؤلاء إلى أفعالهم التي أبتلي بها الشعب العراقي كله.
وضحايا هؤلاء الكثير منهم أضطر لإيقاف تعليم أبنائه خوفا من خطفهم ولجأوا إلى حبسهم في بيوتهم ولا ذنب للأطفال سوى أن أبائهم ميسوري الحال وكانوا إن لم يستطيعوا خطف الأب فيأخذون ولده كي يساومون عليه ومورست بعض الأعمال حتى داخل الحرم الجامعي حيث صناديق الطلبة التي حصدت يوما في كلية طب الأسنان ضحية شابة كان يأمل وصوله إلى التخرج وان يصبح مؤهلا لمعالجة أسنان الناس ويفيد نفسه وعائلته والمجتمع، فتلك الصناديق التي يستخدمها الطلبة (لوكرات) لخزن الكتب ولوازم الدراسة لم تسلم من الأشرار وكانت وسيلة كي يفقد طلبة تلك الكلية عددا من زملائهم يوما وفي وضح النهار عندما همّوا بفتح تلك الصناديق لأخذ حاجياتهم منها!!! ولا أريد هنا من ذكر للإسماء كي لا أثير شجون أهاليهم بعد مضي سنوات على تلك الفعلة الجبانة فقد ثملوا من البكاء والعويل الذي انتشر في كل الأزقة والحارات وكل يبكي على ضحيته ولا يوجد من يسلي أو يؤملنا بالبشارة بقرب انتهاء تلك المأساة التي كانت بحق اما لكل المآسي التي عاشها العراقيون جميعا على مدار تاريخهم المشبع بالبكاء والعويل ومنها نجد أن الغناء والمواويل العراقية غالبها يؤشر حالة الحزن والألم فمن ظلم المستعمر والإقطاع والحروب إلى ظلم ياجوج وماجوج القرن الحادي والعشرون الذين عاثوا في أرض العراق فسادا.
والموت كان هو النتيجة التي يحصدها الالاف منذ زمن بعيد وخلال الحروب التي خاضها العراق لأن حينها من لم يمت في الجبهات كانت تنتظره فرق الإعدام في الخلف كي توقفه عند محاولة هربه وتعدمه على الفور حيث كانت ما تسمى حينها المفارز الخاصة تنفذ أوامر أسيادها وتحصد من يعترض على الحروب ويرفض الإستمرار بتنفيذ الأوامر وفيما بعد 2003 عاد ذات الموت بشكل أبشع لأن فرق الموت أصبحت كثيرة والإبادة الجماعية أخذت طريقها للقضاء على الشعب العراقي تارة باسم الدين وأخرى باسم الطائفة وثالثة باسم القومية ورابعة وخامسة … تعددت الأسباب والموت واحد ولا يوجد من يعطي تفسيرا مقنعا عن سبب لذوي الضحايا رغم استبشارنا خيرا بعد ذلك التاريخ بأننا سوف ندخل منعطفا جديدا وحياة جديدة لكن النتيجة كانت نحو الأسوأ والكثيرين علت وجوههم علامات الاستفهام دون نتائج أو إجابات قاطعة لأننا نخرج من مأساة لندخل أخرى أكثر مأساوية منها!!!
ورغم أن العراق أصبح نظريا حرا فإن عدد الجرائد لا يعد ولا يحصى فكل من شاء أصدر صحيفة أو مجلة وأصبحت الأرصفة تعج بالمئات منها ورغم أن مقص الرقيب قد اختفى وأصبحنا نرى في ساحة الباب الشرقي كل شيء حتى الأفلام السيئة الصيت والصور مقززة للنظر فحتى الأسلحة وذخيرتها أصبحت مألوفة لمن يتبضع من تلك الساحة وكذلك أختام الدوائر ونماذج رسمية للعديد من الوثائق تجدها على الرصيف فيمكنك الحصول على إجازة السوق بمبلغ بسيط وبنموذج رسمي وأختام رسمية، وكذلك هوية الأحوال المدنية وغيرها من الوثائق العراقية، وعندها الكثيرين حمدوا الله لأن الخدمة الإلزامية في الجيش قد ذهبت دون رجعة لأن الخدمة في هذا السلك كانت تحصد اللوف من الضحايا لكن هذه الألوف في الواقع الجديد يتم حصدها في الشوارع والساحات وحتى داخل البيوت. وهذا وغيره ما سنستمر بالكتابة عنه في الحلقات القادمة
… وللذكريات بقية
عبدالله النوفلي
2012
[email protected]
 
 ..

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!