الكاهن الأكبر يعقوب أهرون
(1916-1840) الكاهن الأكبر يعقوب أهرون
The High Priest Jacob Son of Aharon
بقلم الأمين راضي صدقة (1944-)
ترجمة حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך א’ עמ’ 249–252.
أُفولٌ حزين
في طريقه الأخيرة
قبل مائة سنة في العام 1916، في يوم الثلاثاء بعد عيد المصّة، يوم الحجّ الأوّل في السنة، أودع/سلَّم الكاهن الأكبر يعقوب أهرون سلامة روحَه (1840-1916) لخالقه.
ظلّ الكاهن يُحتَضر ثلاثة أيام ثمّ مات. بقايا الرجال السامريّين القلائل، قُرابة السبعين نسمة، ومعهم مئات من وُجهاء نابلس رافقوه في طريقه الأخيرة إلى القبر، في مقبرة راس العين في أعلى الطريق لجبل جريزيم.
سار موكب المشيّعين ببطء في الطريق غير المعبّدة، التي تشكّلت بدَوْس الأرجُل عبرَ آلاف السنين. تسابق مسنّو الطائفة في حمل نعْشه، إلى أن أُنزل إلى القبر المحفور في ضِلع الجبل، والمشيّعون السامريّون يردّدون نشيد ”انصتوا“ (تثنية 32).
’’انظروا الآن انّني انا هو وليس اله معي انا أميت وأحيي أمرضت وانا أشفي وليس من يدي مخلّص“ [تثنية 32: 39؛ اُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الثاني: سفر اللاويّين سفر العدد وسفر تثنية الاشتراع. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإ*سر*ائي*ليّة للعلوم والآداب،2001، ص. 612–613].
الكاهن الأكبر الجديد، إسحق عِمران، ابن الواحدة والستّين، هو من أبناء أهرون شقيق موسى أيضًا، وقف على بُعد ما، وقرأ على الكاهن المتوفّي كلماتِ الرثاء متضرّعًا لله تبارك، أن يتغمّده برحمته ويُسكنه في جنّة عدنه.
مئات المشيّعين، وعلى رأسهم موظّفو بلديّة نابلس، إذ أنّ الكاهن الأكبر يعقوب كان عضوَ شرفٍ فيها، أحنوا رؤوسَهم علامة لمشاركتهم الحزن والرحمة على الفقيد، وعلى مشيّعيه السمرة، بقيّة أخيرة لطائفة آخذة باللانقراض أمامَ أعينهم، مثل الفقيد المحترم.
لم يكن ثمّة شباب بين حاملي النعش، لعدم وجودهم. لم يبقَ للسامريّين شباب يحملون النعش. جُنِّد أربعة وعشرون منهم بالقوّة من قِبَل الجيش العثمانيّ، للقتال مع الجنود الأتراك في حرب ميؤوس منها، جيشٌ جائع ومريض.
جُنِّد الشبابُ للحرب العالميّة
اختبأ الشباب القلائلُ، بين بيوت حارة الياسمينة في السراديب، وفي كلّ حفرة خوفًا من تجنيد قادم، ومن ضمنهم الكهنة الشباب الذين خافوا بألّا يكونوا معفيّين من التجنيد، بموجب القانون العثمانيّ. اقتربتِ الإمبراطوريّة العثمانيّة بعد أربعمائة سنة من الحُكم، من نهايتها أيضًا، وكأنّها قُبرت كدفن الحمار.
تعجّب الكثيرون، كيف أنّ الكاهن الأكبر يعقوب أهرون، مات فجأةً، ولماذا أُصيب بسكتة دماغيّة عندما رفع سِفر التوراة المقدّسة أمامَ جمهور المصلّين القليل، خلالَ الصعود للحجّ في عيد المصّة؟ كيف وقف منتصبًا ومرتفعًا عن الشعب للحظة، والسِّفْر الموضوع في حقيبة معدنيّة، مرفوع قدّامَ المصلّين الذين يمرّرون أكفّ أيديهم على وجوههم للتبرّك، وفي اللحضة الثانية ركع، استلقى الكاهن الأكبر، منتصبُ القامة، على سَجّادته الصغيرة فيما أسرع كاهنان شابّان لحمل سفر التوراة.
لم يقُمِ الكاهن الأكبر يعقوب من وَقْعته الفُجائيّة التي حصلت أمامَ أعين المصلّين. انطلقت صيحات عالية من الحزن، بكتِ النساءُ ورثين رثاءً يمزّق القلب. توقّقفِ الصلاة. لُفّت جُثّة الكاهن الأكبر بحِرام، وحملها الشباب الكهنة طَوالَ الطريق إلى بيته في نابلس. وثمّة في عليّة منزله بحارة الياسمينة، اُحتُضِر الكاهن الأكبر يعقوب ثلاثةَ أيّام وليالٍ ثمّ مات. بقي الجميع في الحيّ القديم؛ عرفوا أنّ ساعتَه أزِفت.
لم يفقدِ الأملَ
كان الكاهن الأكبر يعقوب منتصِبَ القامة طيلةَ سنوات كِهانته الاثنتين والأربعين. من شعب كبير، بلغ تعدادُه في الأوج قُرابة المليون ونصف المليون نسمة، بقيت حوالي المائة والسبعين نسمة الأخيرة، وبالرغم من اليأس، رأى الكاهن الأكبر يعقوب بهذا العدد الضئيل، بدايةً جديدة لشعب عظيم. وفي الأشعار التي نظمها أملٌ ينبِض، على الرغم من أنّه في كلّ حجّ، رأى بأُمّ عينيه جميعَ أبناء الطائفة، رجالًا ونساءً وأطفالا. بنظرة واحدة خاطفة، رأى كلَّ الطائفة الأصغر في العالَم، ولم يفقِدِ الأمل.
قبل ذلك بثلاث عشرة سنةً، التقى المُحسن الأمريكيَّ إدوارد وارن [Edward Kirk Warren 1847-1919، رجل صناعة ومخترع وثريّ أمريكي. ينبغي التفريق بينه وبين Sir Charles Warren, 1840- 1927، وهو جنرال وعالم آثار ورسّام خرائط بريطانيّ، وعنه انظر حسيب شحادة، ماذا كتب السير تشارلز وارن عن زيارته القصيرة للسامريّين قبل قرن ونصف تقريبًا، ومُلْحَق اقتباسات ممّا كتبه ج. ميلز قبل ذلك بعشرين عامًا، انظر مثلًا: http://www.amgadalarab.com/index.php?todo=view&cat=22&id=00049013. الخلط بين هذين الشخصين وقع مثلًا في كتاب الأمين صدقة، אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים… ص. 224].
خلالَ زيارته للبلاد، وترك عندَه انطباعًا حسنًا، وحضّه على بناء مدرسة لأبناء السمرة وبناتهم. تبرّع وارن بثماني عشرة خيمةً كبيرة لفترة مكوثهم على جبل جريزيم في عيد الفسح. ومعًا بلْوَرا فكرةَ شراء قطعة أرض لبناء السكن للسامريّين.
لكن، على حين غِرّة، قبل وفاته بسنتين، في شهر حَزيران 1914، اِندلعتِ الحرب العالميّة بين دول المحور – تركيا، النمسا وألمانيا ضدّ دول الحُلفاء – بريطانيا روسيا وفرنسا، ثم انضمّت إيطاليا وأمريكا في مرحلة متأخّرة. اِنضمام أمريكا في العام 1917، رجّح كفّةَ المعركة لصالح الحُلفاء.
قبل نشوب الحرب انتاب البلاد بمدنها وقراها، الجوع، النقص ووباء الطاعون. وعندها مات سامريّون أيضًا، اثنان من أبناء الكاهن الأكبر يعقوب – يوسف وعزّي.
السنتان الأخيرتان
في حِداده الشديد على ابنيْه الذي استمرّ وقتًا طويلًا، دُعيَ الكاهن الأكبر يعقوب في شهر حَزيران 1914 إلى
قِيادة الجيش التركيّ في نابلس. أخبره قائد الجيش أنّ قانون التجْنيد للحرب، يسري على شباب السامريّين أيضًا باستثناء أبناء عائلة الكهنة. يجب تجنيد أربعة وعشرين شابًا على الفوْر، وإن لم يأتوا للقيادة طواعيةً فسيُجنّدون بالقوّة. كلّ توسّلات الكاهن الأكبر لإلغاء هذا الحكم الجائر باءت بالفشل.
بالذاكرة التي اِكتسبها الكاتبُ من والدِه، يُرافق الكاهنَ الأكبر يعقوب، ما زالت قامتُه المنتصية محفوظةً في الصور التي نراها من قربان الفسح ومن الحجّ في العام 1914. فجأةً، اِنحنت قامتُه. عبءُ التجنيد المرتقب هبط كلُّه على كاهليه، بينما كان يمشي، كأنّ روحه ليست معه، إلى بيوت حارة الياسمينة الصغيرة.
يمشي ويبكي، الدموع تغسِل وجهه. كيف سيعلن البشرى المرّةَ لطائفته الآخذة بالتناقص، لأنّ الشباب القلائل الذين رُبّوا بجهد كبير، كلّ مستقبل الطائفة، الذي عليه بنى البداية من جديد، آيلٌ للموت في الحرب؟ من يدري كم سيبقى منهم؟ كم سيذهبون ولن يعودوا؟
في ذلك اليوم، حُطِّمت روح الكاهن الأكبر يعقوب. كان يزور العائلاتِ التي أُخِذ أبناؤها للحرب، ونُقلوا من نابلس شمالًا لمسافات مجهولة. تابع القيام بمهامّه، إلّا أنّ روحَه ما كانت معه. استولى الحزنُ والألم على وجهه، تبقّت مائةٌ وأربعون نسمة فقط.
في يوم الحجّ أصابته السكتة القلبيّة، الكاهن الأكبر يعقوب، منتصبُ القامةِ كالنخْلة، اِنهار وفارق الحياة؛ رحمه الله.