مقالات

-الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية

يقول شكري المبخوت في رواية الطلياني “ما أنقذني من الانهيّار هو شخص آخر بداخلي، ليس ضميراً، ولا نفسا لوّامة، شخص من عقل خالص، بارد، لا مشاعر له ولا أحاسيس، قاطع كالسيف، إنه بوصلتي، حين تختلط السُّبل، لولاه لوصلت إلى الانحراف الخالص والإجرام المجاني، أو لتلاشيت وانتحرت.”

ما أنقذني من الانهيار هو شخص آخر بداخلي… في هذه العبارة يتكثف البعد الفلسفي العميق لرواية الطلياني. إن شكري المبخوت لا يقدّم في هذه الرواية مجرد قصة شخصية، بل يطرح عبر شخصية عبد الناصر إشكالية الإنسان المعاصر في العالم العربي، الإنسان الذي يجد نفسه موزعًا بين القوى المتصارعة التي تتجاوز وجوده الفردي: الدولة، الحزب، الدين، الجنس، والهوية. وفي خضم هذه التيارات، لا يعود الخلاص ممكنًا عبر ما هو مشترك أو جماعي، بل يتحوّل النجاة إلى تجربة فردية، ذاتية، محفوفة بالبرود والعقلانية الحدّية.

“شخص من عقل خالص، بارد، لا مشاعر له ولا أحاسيس”… هذه العبارة ليست مجرد اعتراف لحظة انهيار، بل هي تشريح دقيق لبنية البطل الذي يمثّل نموذجًا لإنسان ما بعد الأيديولوجيا. لقد سقطت الخطابات الكبرى، وتعرّت المشاريع السياسية من قدرتها على الإقناع أو الفعل، ليبقى الإنسان عاريًا، في مواجهة ذاته، بدون دروع. الإنسان الذي لم يعد يثق في الخطابات، ولا في المبادئ، ولا في العقائد، بل بات يتكئ فقط على جزء داخلي منه، غير أخلاقي، غير عاطفي، لكنه وظيفي: بوصلته الأخيرة.

الرواية بهذا المعنى تتحرك في مدار فلسفي نيتشوي، حيث لا خلاص من الانهيار القيمي إلا بالتحول الجذري داخل الذات. لكن هذا التحول لا يقود إلى النبل، بل إلى التماسك، لا إلى الانبعاث، بل إلى النجاة. عبد الناصر لا يسعى ليكون خيرًا، بل ليبقى على قيد الحياة النفسية وسط دوامة من الانهيارات: انهيار الأب، انهيار الحزب، انهيار العلاقة العاطفية، انهيار الدولة.

تُجسد الرواية، دون أن تعلن ذلك صراحة، قلق ما بعد الحداثة، حيث تتفكك الهويات الكبرى لصالح السرديات الذاتية. فشخصية عبد الناصر لا تهمّ القارئ لأنه بطل، بل لأنه كائن رمادي، لا ينتمي إلى الخير المطلق ولا إلى الشر المطلق، بل إلى تلك المنطقة الرمادية التي يعيش فيها أغلب الأفراد في واقع عربي مرتبك.

إن انخراط الطلياني في العمل السياسي ثم انسحابه منه، لا يقرأ فقط كمسار شخصي، بل كرمز لانهيار المشروع اليساري العربي في مواجهة السلطة من جهة، والإسلام السياسي من جهة ثانية. وبين القمع والرجعية، يجد عبد الناصر نفسه في فراغ إيديولوجي قاتل، لا يُملأ إلا بالذات، ولكن أي ذات؟ ذات باردة، متماسكة، مشروخة من الداخل، لكنها تُحسن الوقوف في وجه الريح.

في العمق، لا تحاكم الرواية شخصياتها، بل تضعها في مواجهة الذات والزمن. الأب السلطوي، الحبيبة المتحرّرة، الأخ المتديّن، الرفاق المتنكرون، كلهم ليسوا إلا انعكاسات متعددة لأزمنة تونس التي تتنازعها التقاليد والحداثة، والهوية والاستلاب. وعبد الناصر، في قلب هذا الكل، لا ينقذه إلا اللاشعور المُنظّم، ذلك “الشخص الآخر”، الذي يُشبه في تركيبه البُعد الفرويدي لما يُعرف بالأنا الأعلى، لكنه هنا بلا أخلاق، فقط عقل بارد يدير الأزمات.

ما كتبه المبخوت في الطلياني ليس فقط رواية عن تونس الثمانينات، بل وثيقة نفسية/اجتماعية عن الإنسان العربي حين يتخلى عن الأجوبة الجاهزة، ليواجه الأسئلة الأكثر رعبًا: من أنا، عندما تنهار كل المعتقدات من حولي؟ ومن في داخلي يمكنه أن ينقذني من السقوط الكامل؟

الرواية بهذا الوجه الفلسفي تصير أكثر من مجرد سرد، إنها مساءلة للمعنى، للانتماء، وللقدرة على النجاة الفردية وسط حطام جماعي. الطلياني ليس بطلًا، بل هو سؤال حيّ، معلّق، لا يسعى للانتصار بقدر ما يحاول ألّا يُمحى.

عندما نعود إلى الشخصية الرئيسية في الطلياني، عبد الناصر الطلياني، نلاحظ أنه ليس فقط في مواجهة مع نفسه، بل مع أسئلة أعمق تتعلق بالهوية، بالجنس، وبالسلطة. من هنا، تصبح الرواية بحثًا في صراع الإنسان مع هذه القوى المجهولة التي تحدد مصيره في ظل الانقسام الاجتماعي والسياسي. فبينما يعتقد البعض أن اليسار هو الحل، أو أن العودة إلى الدين قد تضمن خلاصًا، يكشف لنا المبخوت عن حقيقة مرة: لا الحلول الكبرى يمكن أن تُحيي الفقدان، ولا العودة إلى الماضي يمكن أن تخلّص من حالة الضياع.

الهوية في الطلياني ليست ثابتة أو واضحة، بل هي سائلة ومتذبذبة، مثل شخصية عبد الناصر الذي لا يعرف مكانه في الزمن ولا في الفضاء. هو ليس يساريًا بالكامل ولا يمينيًا، وليس مسلمًا متشددًا ولا علمانيًا جذريًا. يجسد في ذاته تعبيرًا حيًا عن أزمة الهوية التي يعاني منها الجيل الذي نبت في مناخ سياسي يشوبه الفوضى، عدم الثقة، والفقدان المستمر لمعنى “الإنتماء”. إن عبد الناصر لا يسعى لتحديد هويته بشكل قاطع، بل يتأرجح بين هذه الهويات التي تكون في كثير من الأحيان مُثقلة بالماضي والمثالية، وبين الحاجة المتزايدة للتموضع في لحظة معاصرة ومفتوحة.

أما في ما يتعلق بالجنس، في الطلياني، لا يعد الجنس مجرد فعل جسدي، بل هو أحد الأبعاد التي تستعيرها الرواية لتحليل الطبيعة الإنسانية في زمن متقلب. فالجسد في الرواية ليس فقط وعاءً لاحتياجات حيوانية أو رغبات عابرة، بل هو ساحة للتجارب والنزاعات. عبد الناصر لا يهرب إلى الجسد ليجد لذته، بل ليحاول الهروب من نفسه، من أزماته، من التاريخ الذي يلاحقه. تُمثل علاقاته الجنسية في الرواية تجارب مع الانفصال: انفصال عن العاطفة، انفصال عن الذات، وانفصال عن العالم الذي كان يظن أن فيه معنى.

أما السلطة، فهي تمثل الورم المستمر في جسد الرواية، الجسدية التي تحكمها قوى اجتماعية وإيديولوجية ودينية. في البداية، نجد أن الطلياني كان جزءًا من حركة يسارية، ثم سرعان ما تراجعت هذه الحركة إلى مشهد بائس من التشظي والانقسام. في هذا السياق، لا تعود السلطة هنا سلطة الدولة فحسب، بل تصبح السلطة شكلاً من أشكال التسلط النفسي والتاريخي الذي يمتد من الأب إلى المجتمع. وفي هذا المعترك، لا ينجو عبد الناصر إلا بعقله البارد، بالمسافة التي يفرضها على كل من حوله، مسافة تحميه من الانغماس الكامل في الصراع، لكن دون أن تحميه من الشعور بالاغتراب التام.

في النهاية، الطلياني ليست فقط رواية عن الشاب الذي ينقلب على حلمه الثوري، بل هي صورة شاملة لواقع عربي معقد، غير مستقر، يعكس تَقلُّب الأيديولوجيات والأنماط الفكرية والاجتماعية. هي رواية عن الإنسان الذي يضيع بين الثوابت والشكوك، بين ما كان عليه وما يجب أن يكون عليه. وفي قلب هذا الوجود المتذبذب، يظهر شخص آخر داخل كل واحد منا، عقل بارد وعقلاني، يقودنا في لحظات العجز واليأس، لا لأننا نريد البقاء في الواقع، بل لأننا نحاول أن ننجو من الذات التي تخوننا في لحظات الحافة.

إذا كان عبد الناصر الطلياني هو رمز الإنسان العربي الممزق، فهو في نفس الوقت رمز لكل شخص يبحث عن نقطة ثابتة وسط العاصفة، حتى لو كانت هذه النقطة هي العقل الخالي من العواطف، الذي لا يرحم ولا يترحم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!