مقالات عامة

التسامح قوة الأخلاق

يُعد التسامح من أسمى القيم الإنسانية، ومن أبرز سمات الأخلاق الرفيعة التي لا تصدر إلا عن النفوس القوية الواثقة. فالتسامح ليس دليلاً على الضعف أو الهزيمة كما قد يظن البعض، بل هو مظهر من مظاهر النصر الداخلي على الغضب والرغبة في الانتقام، وهو تعبير عن سيطرة العقل والحكمة على الانفعال. ومن يملك القدرة على التسامح هو في الحقيقة المنتصر، لأنه استطاع أن يسمو على الأذى وأن يترفع عن رد الإساءة بمثلها، وهذا ما تميز به الأنبياء والرسل وأوصت به الكتب السماوية.

في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين” (آل عمران: 134). وهذا التوجيه الإلهي لا يعني فقط كظم الغيظ، بل تجاوزه إلى العفو والإحسان، وهو قمة التسامح. كذلك ورد في السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” (رواه مسلم). ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن العفو لا يُنقص من قدر الإنسان بل يزيده رفعة وعزاً.

أما في الكتاب المقدس (الإنجيل)، فقد ورد في إنجيل متى: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم” (متى 5: 44). وهذا النص يجسد قمة التسامح المسيحي، حيث يُطلب من المؤمن أن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يعلو فوق الأحقاد. وفي رسالة بولس إلى أهل أفسس جاء: “كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين، متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح” (أفسس 4: 32).

وفي التوراة، ورد في سفر الأمثال: “بطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة” (أمثال 16: 32). وهذا يعكس تقدير التوراة لصبر الإنسان وحلمه، ويضعه في مرتبة أعلى من الفاتحين والمقاتلين، ما يدل على أن القوة الحقيقية تكمن في السيطرة على النفس لا في السيطرة على الآخرين.

عبر العصور، لم تغب هذه القيمة عن الفكر الفلسفي أيضاً. فقد قال سقراط: “الانتقام ليس طريق الحكيم، بل هو طريق من غلبه الغضب على العقل”. وكتب غاندي في العصر الحديث: “الضعيف لا يمكن أن يسامح، فالتسامح من صفات الأقوياء”. وأكد فولتير أن: “التسامح هو نتيجة الفهم، ولا يمكن للإنسان أن يكون متسامحاً وهو جاهل بحقيقة الآخر”.

ورغم ذلك، فإن نظرة بعض المجتمعات، وخصوصاً الشرقية منها، ما زالت تنظر إلى التسامح أحياناً على أنه ضعف وخضوع، لا سيما عندما يكون المتسامِح في موقف يتيح له الرد أو الانتقام. ويزداد هذا التصور حين يُبالغ الإنسان في التسامح لدرجة تجعله عُرضة للاستغلال أو التقليل من شأنه، فيبدو في أعين الآخرين متهاوناً بحقوقه أو خائفاً من المواجهة. وهذا فهم قاصر ومغلوط لمعنى التسامح الحقيقي، الذي لا يُفترض أن يلغي العدل أو يُشرّع للظلم، بل يُسهم في تحقيق الصلح والتراضي وحماية النسيج الاجتماعي من التمزق.

إن الأنبياء والرسل عليهم السلام ضربوا أعظم الأمثلة في التسامح، رغم ما تعرضوا له من أذى وقسوة. فقد غفر النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بعد أن أخرجوه وآذوه، وقال لهم يوم الفتح: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. وهذا التسامح العظيم لم يكن عن ضعف، بل عن حكمة وقوة وعزيمة، فتح به قلوب الناس قبل أن يفتح ديارهم.

وبذلك يمكن القول إن التسامح ليس خيار الضعفاء، بل هو قرار الأقوياء الذين يريدون بناء مجتمع تسوده المحبة والتفاهم، لا الحقد والثأر. ومع إدراك قيمة التسامح، لا بد من الموازنة بين العفو والعدل، حتى لا يُساء فهمه أو يُستغل، ويظل كما أراده الله خلقاً يرفع من شأن صاحبه، ويُصلح ما بين الناس، ويُقرّب القلوب.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!