منوعات

بين أكوام النفايات: النساء في مكبات النفايات يواجهن تحديات البيئة والصحة في العراق

فاطمة نعمة…

 

“النفايات بالنسبة إلنا مثل احلام الكوابيس، هي الي تعيشنا وبنفس الوقت تنهش بصحتنا وحياتنا” تقول نغم وهي تتأمل بين أكوام النفايات فالنفايات بالنسبة لنغم، التي تبلغ من العمر 32 عامًا وهي أم لثلاثة أطفال، ليست مجرد كوابيس، بل هي الواقع القاسي الذي تعيشه وتعاني منه في سبيل تأمين لقمة عيشها وإعالة أسرتها. تحمل نغم بعض الأكياس (الكواني) الممتلئة بألواح الكرتون وعلب المياه الفارغة، وتتجول في احدى ساحات النفايات بمنطقة المعامل في مدينة بغداد وهي تكتحل بمظهر يعكس تعب الحياة في ظل ثقل المهمة التي تقوم بها.

تعمل نغم في جمع النفايات منذ أكثر من 13 سنة، فقد دفعتها ظروف المعيشة إلى العمل في هذه المكبات لكسب قوتها اليومي وقوت اطفالها الصغار من دون معيل يعيلها في تأمين متطلبات أطفالها، تقول “زوجي جان يشتغل عامل بس بيوم من الأيام تعرض لحادث في ظهره وهو يشتغل خلاه يكعد وميكدر يشتغل بعد”

تظهر نغم كرمز للصمود والتحدي في وجه الظروف القاسية. رغم أن جسدها يحمل آثار العمل الشاق والتعب، إلا أن عزيمتها تتألق في عيونها، وكأنها تناجي الحياة بأن تراعي الجهد الذي تبذله كامرأة وأم تسعى لتوفير ما يعيل اطفالها يومياً. تعمل نغم مع العديد من النساء بين اكوام النفايات لساعات طويلة وهي تعبر عن قلقها وفزعها إزاء تأثيرات النفايات على صحتها وصحة أسرتها، وفي كلماتها تتجلى حكاية النساء الكثيرات اللواتي يشاركونها نفس المصير. حيث تقول “اشتغل هنا كل يوم لاكثر من 4 ساعات ومرات توصل 5 وخلال العمل احاول اغطي وجهي وايديا شكد ما اكدر بس مرات الريحة مال الزبل قوية لدرجة صعب واحد يتحملها”.

تعاني نغم من الحساسية الجلدية (الاكزما) ويؤثر العمل في ساحات النفايات على صحتها وصحة النساء الأخريات هذا بالاضافة الى تعرضهم المستمر للروائح القوية التي تحملها النفايات وسرعة انتقال الأمراض المعدية الى أجسادهم الضعيفة والقليلة المناعة.

ماذا يحدث للنساء في جحيم النفايات؟

بلغ إجمالي كمية النفايات المرفوعة سنويًا في العراق في سنة 2023 حوالي 11 مليون طن، وهذا الرقم الهائل يظهر الضغط البيئي الكبير الذي يواجهه هذا البلد. حسب احصائيات وزارة التخطيط العراقية فيما يخص نسبة الخدمة البلدية في الريف والمدينة، فيشير الجهاز المركزي للإحصاء في تقرير عام 2021 إلى أن نسبة سكان الحضر المخدومين بجمع النفايات تبلغ 90.7% وفي الريف تبلغ 12.5%.

تشكل مشكلة التخلص غير المنتظم من النفايات في العراق تحديًا بيئيًا وصحيًا حقيقيًا، يطال العديد من سكان البلاد، خاصة النساء اللاتي يقمن في المناطق القريبة من مكبات النفايات، والنساء اللاتي يقمن بجمع النفايات. يتسبب هذا التخلص غير الآمن في انتشار الأمراض وتلوث المياه، مما يؤثر بشكل مباشر على صحة النساء وجودة حياتهم اليومية.

فعلى الرغم من وجود بعض المناطق المخصصة لرمي النفايات في العراق، إلا أن الوضع لا يزال غير مثالي. ويشير أحدث تقرير للجهاز المركزي للإحصاء عن المخلفات في العراق، إلى أن كمية المخلفات المرفوعة في 2021 بلغت 17.4 مليون طنًا.

ووصل الإنتاج اليومي للنفايات في العراق لعام 2023 إلى أكثر من 23 مليون طن في حين تفرز امانة بغداد وحدها 9 ألف طن يومياً. تظل مكبات النفايات تجد طريقها إلى الساحات العامة والأماكن الفارغة في الأحياء السكنية، بالقرب من البيوت، ملوثةً بذلك ليس فقط البيئة، ولكن أيضًا حياة النساء اللواتي يقطنّ في المناطق القريبة من هذه التجمعات. وقد بلغ إنتاج العراق اليومي للنفايات الصلبة 30,000 طن  في حين بلغ معدل إفراز الفرد العراقي للنفايات يوميا 2 كغم وتصدرت العاصمة العراقية بغداد مركز الصادرة لأكثر المحافظات العراقية إفراز للنفايات الصلبة تليها محافظة البصرة.

توضح الإحصائيات أيضًا متوسط كمية النفايات المُنتجة لكل فرد حسب المحافظة، حيث بلغت (1.3) كيلوغرام في اليوم. سجلت محافظة صلاح الدين أعلى معدل لكمية النفايات العادية المتولدة لكل فرد، حيث بلغت (2.8) كيلوغرام في اليوم، ويرجع ذلك إلى حملات التنظيف الواسعة التي قامت بها المؤسسات البلدية في بيجي و سامراء و الإسحاقي. تليها محافظة الأنبار بمعدل (2.2) كيلوغرام في اليوم.

فيما يخص المحافظات الأخرى مثل ديالى، أمانة بغداد، أطراف بغداد، القادسية، وذي قار، يتم رفع النفايات من المناطق الزراعية وكذلك من المناطق ذات السكان المتجاوزين، وفي المناطق السكنية ذات الطابع العشوائي. أما في محافظة كربلاء، فقد بلغ متوسط كمية النفايات المتولدة لكل فرد (1.9) كيلوغرام في اليوم، ويرجع ذلك إلى توافد أعداد كبيرة من الزوار إلى العتبات المقدسة.

تجبر الظروف الاقتصادية الصعبة النساء في بعض المناطق في العراق على البحث عن فرص لتحسين دخلهم، ويعتبر جمع النفايات خيارًا يلجأن إليه. يعرّض هذا النشاط النساء لمجموعة من المخاطر الصحية، منها الإصابة بالأمراض الجلدية نتيجة للتعامل مع مواد ضارة كما هو الحال مع نغم، وكذلك التعرض للأمراض المعدية نتيجة التلامس مع مواد قذرة.

النساء اللواتي يعيشن في المناطق القريبة من مكبات النفايات يشعرون بمرارة التحديات اليومية، حيث يؤثر التخلص السيء من النفايات بشكل غير مرغوب على صحتهم وحياتهن اليومية. تتنوع التأثيرات بين الأمراض الجلدية والتنفسية، وتشمل أيضًا التأثير على مياه الشرب والهواء المحيط بهن. المكب يتحول إلى كيان يرهب حياتهن، فبدلاً من أن يكون مصدرًا للنفع وإعادة التدوير، يتحول إلى كابوس يلوث حياتهن اليومية.

 

في ظل الأمراض والتلوث

“جانت حياتي دائمًا مليانه صعوبات، بس الحاجة خلتني اشتغل بهذا المجال الشاق. أني الوحيدة الي تكدر تأمن لقمة العيش لعائلتي، من دوني ماكو اكل ولا مأوًى النا. ومع هذا الشغل هنا يجي بثمن غالي على صحتي”

لمى، ارملة تبلغ من العمر 30 عامًا، تعيش حياة قاسية ومليئة بالتحديات. تعمل كعاملة في جمع النفايات في مدينة النجف، وهي المعيلة الوحيدة لعائلتها المكونة من خمسة أفراد اطفالها الاثنين ووالديها الكبيران، لم تدخل المدرسة قط تتحدث لمى عن قصتها بكلمات مؤثرة ومؤلمة.

تقول لمى “لوما العوز ما جنت اشتغل هذه الشغلة” ثم تتوقف لتأخذ نفسًا عميقًا، ويبدو أن تعب الحياة ينعكس على وجهها. تستكمل قائلة: “أعاني من حساسية القصبات من الولادة، وهذا يخلي الشغل بجمع النفايات أكثر صعوبة بالنسبة الي. لمن أتعرض للروائح الكيميائية القوية والغازات المنبعثة، يصير صعب عليّ اخذ النفس ويزيد الضيق والتعب لدرجة مااكدر اوكف بعد.”

 

بسبب العوز، لا تتمكن لمى وعائلتها بالاضافة الى العديد من النساء والعوائل مثلهم من توفير أبسط متطلبات العيش أو الحصول على الرعاية الصحية  فهي تعاني مع النساء الأخريات ممن يعملن في هذا المجال من التعرض المستمر للمواد الضارة والسامة التي تنبعث من النفايات. يتنفسون الهواء الملوث ويتعرضن للمواد الكيميائية المؤذية و الجسيمات الملوثة. هذا يزيد من خطر تطور مشاكل صحية خطيرة، بما في ذلك الأمراض التنفسية والأمراض الجلدية وحالات التسمم.

 

الدكتورة انعام حسين، خبيرة في الصحة العامة والطب البيئي، تقول حول التأثيرات الصحية للنساء اللاتي يقمن بجمع النفايات: “إن النساء اللواتي يعملن في جمع النفايات يتعرضن لمجموعة من المخاطر الصحية بسبب التلوث البيئي الذي يحيط بهن. الاتصال المستمر مع المواد الضارة يزيد من احتمالية تطور الأمراض الجلدية والتنفسية بشكل كبير. البيئة الملوثة يمكن أن تؤدي أيضًا إلى زيادة انتشار الأمراض المعدية، حيث يمكن أن يكون الاتصال المباشر مع النفايات مصدرًا لنقل الجراثيم والبكتيريا”.

 

بالإضافة إلى الأمراض والمشاكل الصحية، يعاني هؤلاء العاملات من ظروف العمل القاسية حيث يعملن في ظروف بيئية غير آمنة. وتضيف الدكتورة حسين: “النساء العاملات في هذا المجال لا يملكن معدات الحماية الشخصية اللازمة ولا يتوفر لديهم الدعم الكافي من البنية التحتية. هذا يعرضهن للإصابة بحوادث مهنية ويزيد من مخاطر تعرضهن للإصابة بالأمراض”

تحتاج النساء العاملات في هذا المجال إلى حماية فورية وفعالة، مثل ارتداء ملابس وقفازات وأقنعة واقية. يتوجب عليهن توفير معدات الحماية الشخصية للحفاظ على سلامتهن، ويجب عليهن الحصول على فحوصات طبية دورية للكشف المبكر عن أي أمراض محتملة نتيجة للتعرض المستمر للظروف البيئية الضارة. حيث ان الأطباء وخبراء البيئة منهم الدكتورة انعام يحذرون من أن هذه الأمراض ليست فقط نتيجة للتلوث الجوي، ولكن أيضًا بسبب التلوث المائي الذي ينشأ نتيجة تسرب السوائل الملوثة من المكبات إلى مصادر المياه المحلية.

لحماية صحة هؤلاء النساء وتحسين ظروفهم العملية، هناك حاجة إلى توفير معدات الحماية الشخصية وتعزيز البنية التحتية للتخلص من النفايات بشكل آمن وصحي. يجب أيضًا تعزيز التوعية حول المخاطر الصحية المرتبطة بجمع النفايات وتوفير خدمات الرعاية الصحية المناسبة لهذه النساء. علاوة على ذلك، ينبغي توفير فرص عمل أخرى آمنة ومستدامة للنساء في العراق، بحيث يمكنهن الحصول على دخل كافٍ لتلبية احتياجاتهم واحتياجات أسرهم.

 

اذ يرتبط هذا بأهداف التنمية المستدامة منها الهدف الأول المتعلق بالقضاء على الفقر في جميع أشكاله والذي بلغة نسبته في العراق وفقاً لوزارة التخطيط 25% . يهدف هذا الهدف إلى تحسين مستوى المعيشة لجميع الناس، بما في ذلك النساء العاملات في قطاع جمع النفايات، وضمان حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية. والهدف الثالث المتعلق بضمان حياة صحية جيدة وتعزيز رفاهية جميع الأفراد. يهدف هذا الهدف إلى توفير خدمات الرعاية الصحية الأساسية والنفسية والاجتماعية للنساء العاملات في قطاع جمع النفايات، وتعزيز الوعي بالمخاطر الصحية المرتبطة بهذا القطاع.

على الرغم من تنفيذ الحكومة لاستراتيجية التخفيف من الفقر الوطنية الثانية في العراق (2018-2022)، والتي تشمل مبادرة حديثة لتوزيع الأراضي على الأسر الفقيرة، يعتبر الخبير الاقتصادي هادي السامرائي هذه المبادرة “غير فعّالة”.

يتساءل السامرائي في حديثه: “ما هو الجدوى من توزيع أراض سكنية على عوائل لا تمتلك الوسائل المالية الكافية للبناء؟”. ويشير إلى أن الحل يكمن في “تخصيص دخل شهري من العمل الثابت للفقراء، بالإضافة إلى منحهم وحدات سكنية جاهزة، بهدف تحفيز أبنائهم وبناتهم على ترك العمل في مكبات النفايات والانخراط في التعليم، مع توفير ضمانات أخرى كالرعاية الصحية والدعم الاجتماعي”.

تمثل النساء العاملات في مكبات النفايات وعائلاتهن التي يعيلونها فئة مجتمعية هي من الأشد فقرا وحرمانا في العراق. والحاجة لتحسين أوضاعها المعيشية والصحية وتحقيق ظروف العمل اللائق لها وتوفير الحماية الاجتماعية هي من أولويات الحكومة التي لم تنجز حتى بعد انتهاء فترة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية الثانية.

وخلال جهودنا للوصول إلى فحوى استراتيجية التخفيف من الفقر ودعم النساء والعائلات العاملة في جمع النفايات في المكبات، قمنا بالتواصل مع الجهات الحكومية المعنية، بما في ذلك وزارة البيئة ولجنة الصحة والبيئة النيابية. للأسف، لم نحصل على أي ردود فعل أو تصريحات رسمية حتى اللحظة. ومع ذلك، نؤكد أن حق الرد مكفول لهذه المؤسسات الحكومية، ونبقى في انتظار التفاعل الرسمي الذي يسهم في إلقاء الضوء على هذه القضية الهامة.

 

 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!