مقالات

سلام حلوم في «كسْر ِالهاء»: الحنين كمنبع للشعر

انتهيت للتو من قراءة مجموعة الشاعر سلام حلوم «وكسْر الهاء» الصادرة بعنوان توضيحي «ثلاثية شعرية» عن دار موزاييك في اسطنبول 2024، المجموعة التي جاءت بـ 124 صفحة من القطع المتوسط وثلاثة أقسام؛ «أريد وطني» و «حلب» و «لم يفطن لهم أحد»؛ ومن هنا جاء العنوان الفرعي التوضيحي. المجموعة بكلمات بسيطة، دامية تسترسل في الحنين إلى ذاكرة يستحضرها سلام الشاعر اللاجئ في هولندا ويرمم بها حياته. الحنين والذاكرة هو وصف مختصر ودلالي لتلك المجموعة التي صدرت لـ سلام أحد مؤسسي «ملتقى جامعة حلب الأدبي» بعد ست مجموعات شعرية هي [مديح شاسع للقش – كانات الرجل – الحائط – يسمونه عندنا – كما غدا- الأسود ليس لوناً].
جئت إلى حلب من الرقة في عام 1986، لم أكن أحب الدراسة ولم أزل، رغم أني درست في ست جامعات، هناك عرفت عبد السلام حلوم، الذي فضل أن يكثف حتى اسمه وليس شعره فقط. في ذلك الحين كان ملتقى جامعة حلب في طور الاحتضار، لكن بشكل شخصي تعرفت على رواده عن طريق الشاعر عبداللطيف خطاب الذي غادر إلى الرقة وأصبح يأتي زيارات إلى حلب وفي كل مرة كنت اجتمع بشكل شخصي مع أصدقائه في «الملتقى» الذين صاروا شعراء معروفين. وحده سلام لم أعرفه عن طريق خطّاب. كان منكفئاً عن سهرات الشباب، الرجل السراقبي المولود في عام 1963 والذي يحمل دبلوماً في اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب والمشتغل بمهنة التعليم.
تعرفت على سلام أولاً من خلال كتابه «كانات الرجل» في مكتبة «عبد المنعم ناشرون» ثم في لقاءات متفرقة، وفي «العندليب» الذي يرد ذكره في هذه المجموعة. وبينما كنا نجلس في العندليب في الطاولة الأولى على مدخله، كان يجلس دائما، ربما على الأرجح في الطاولة الرابعة التي تلي المدخل باتجاه شارع بارون خلفنا، ودائما كان معه «حسين برّو» الذي شكره الشاعر من مجمل أصدقاء ساهموا في إصداره هذه المجموعة. وفقاً لطبيعته الشخصية هذه، فقد كان الأقل شهرة من جيل ملتقى جامعة حلب، رغم أن تجربته واحدة من أكثر تجارب ذلك الملتقى رسوخاً واستمرارية وتجذراً وتلقائية.
لاحقاً، وبعد أن أصبحت ناشراً أعدت قراءة تجربة سلام حلوم، ترسخ في ذهني كأحد من يكتبون «قصيدة النثر» ببصمة خاصة، تزاوج بين المجاز العالي المكثف، المجاز الذي هو الشعر كما يقول نيرودا في رواية «ساعي بريد نيرودا» لـ أنطونيو سكارميتا، وبين الحكاية اليومية.
إذا أردت أن ألخص هذا الكتاب بكلمة واحدة يمكن أن أقول أنه كتاب عن «الحنين»، الحنين الدامي، وإذا كنتَ من سكان حلب أو ممن يعرفونها فحاذر فإن هذا الكتاب سيجعلك أشلاءً متناثرة. أما إذا كنت من حلب أو تعرفها وتعيش الآن لاجئاً في إحدى الدول الديموقراطية التي شردتك إليها الديكتاتوريات والحرب فإنك ستصاب بلوثة الحنين والبكاء.
كما افعل دائما مع أي مجموعة شعرية أقرؤها أبحث عن مقترح المجموعة بعيدا عن سطوة الاسم وبعيداً عن مزاجي الشخصي في تفضيلات القراءة، وغالباً أقرأ لأصدقائي، وجدت أن هذه المجموعة تقدم مقترحاً هو المزاوجة بين المجاز الشعري والحكاية. ولا ينقص سلام الدراية باللغة ومجازاتها ولا تنقصه الحكايات، فهو ابن سراقب البلدة التي على تخوم حلب وتحيط بها البادية.
في القسم الأول المعنون «أريد وطني» يخلص الشاعر بدراية، ربما ليس بترتيب زمني كتابي، لكن بترتيب مقصود، لهذا العنوان. وهذا القسم يحفل بـ «الوطن» والأماكن. من خلال عناوينه ومضمونه وشخوصه، فيحضر الوطن في عناوين القصائد وتفاصيلها. يتراوح هذا الحضور بين المجاز والحكاية. يحضر هنا مفهوم الوطن المجرد، الوطن المعاش، الوطن المتخيل، الوطن الحلم وكذلك الأماكن المجردة والمعينة على التحديد: الوطن، البيت، الشمال، الأم، سراقب: بلدة الشاعر. تتأرجح الكتابة بين المفهوم المجرد للوطن وبين المكان المحسوس المعين وتفاصيله. ترد في هذا القسم وكما كل الكتاب إشارات واضحة لزمن الكتابة وأحداثه وعلاقة الشاعر بها، دون خطابات أو شعارات أو جملا إخبارية دالة، إنه زمن «الثورة السورية» التي لا ترد نصاً كجملة في كل المجموعة لكن زمن الكتابة يحيل إليها في مفاهيم متعددة أبرزها؛ الحرب، النزوح، الق*ت*لى، الذكريات، المظاهرات…
أما القسم الثاني المعنون بـ «حلب» فقد كان الأكثر دموية في الحنين، يصورها ليس كفردوس مفقود للشاعر الذي أمضى حياته فيها وجاءها من «الباب العاشر» بل كمدينة بأماكنها العامة المعروفة وعلاقة الشاعر بها، يرصد الشاعر حلب في نصوصه في مجاز مخفف وكثير من الحنين. لا ترد حلب فقط هنا كأماكن وشخوص بل أهم ما جاء هو علاقة الشاعر بهذا المكان، أبوابه وأماكنه وشخوصه. يصور علاقته بحلب بدءا من المكان الأول الذي جاء به إليها «كراج الانطلاق» الذي تأتيه باصات سراقب، إلى علاقته بهذا المكان وذكرياته معه، ذكريات الدراسة الجامعية والشعر؛ لمة الأصدقاء، وغنائهم «فيروز» و «الشيخ إمام» الذي كان مشهورا في هذه المدينة، أعني يسارها وطلابها، الذين صاروا كتابها لاحقا، أكثر من موطنه الأصلي، سهرات الشجن مع الغناء العراقي، والموليّا، وقصص الحب. لا ينسى الشاعر، كاتب الرومانسية الأول في العربية؛ محمد عبدالحليم عبدالله كجزء من الذين عرفهم في حلب.
حلب ترد تفاصيل، ربما لمن عاشوا فيها كـ سلام «مهاجرين»، أحبوا المدينة وأماكنها وشكلت الجزء الأعظم من ذاكرتهم في الحياة. ترد حلب بأبوابها؛ أسواقها شخوصها أماكنها، بما فيها “مكتبة الفجر” التي كانت تبيع إصدارات الكتب السوفياتية الرخيصة الثمن والعالية القيمة المعرفية، كلية الآداب التي على شكل سفينة، شارع بارون؛ أحد شوارعها التي شكلت ذاكرة ناسها و مهاجريها وساكنيها وعشاقها وزائريها، من شارل ديغول إلى أغاثا كريستي مرورا بـ الملك فيصل الأول ملك “الجمهورية السورية العربية” الذي ألقى خطاب الاستقلال من شرفته مرورا بعبد الناصر. ترد أبواب حلب وأسواقها في مزيج ساحر بين التأريخ للمكان وبين المجاز الشعري، باب أنطاكية، باب النصر، قنسرين… وكذلك علاماتها الأكثر شهرة، «ملهى الفلك» «بستان كليب»، «العرقوب»، «نزلة ميسلون»، «كراج الانطلاق»، «سينما الكندي»، «الحديقة العامة». لا ينس الشاعر أن يمرَّ بمجازاته على روح المدينة، المختلطة الأعراق والانساب والتاريخ فلا ينسى أرمنها عبر «آرام خاشادوريان» والبسطرمة التي كان أفضل من يجيد صنعها أرمن حلب.
يقودنا الشاعر إلى حلب عبر تفاصيل مكانية وإنسانية برهافة ومجاز يجعل من لا يعرفها يتعرف إليها ويجعل من يعرفها يبكي من الحنين أما إذا كان من أهلها ويعيش اغترابها فأنصحه بعدم قراءة الكتاب. تفاصيل بسيطة ومعاشة: العرق، عرانيس الذرة، باعتها الجائلين، أكلاتها المميزة، ثمارها وأشجارها؛ وبالطبع الأكثر شهرة الفستق الحلبي الذي يشكل جزءا من هوية المدينة، مصورا حديقتها العامة الذين يلتقطون الصور لزوارها ويؤرخون لحظاتهم معها كما فعل الشاعر عبر الكلمات.
حضور حلب لم ينج كزمن كتابة لنصوص المجموعة من أحداث «الثورة السورية» فالمجموعة تمضي بلغة خفيفة رشيقة إلى تأريخ علاقة شخوص هذه المدينة بتلك «الثورة»؛ الاعتقال، الموت، الحرب، النزوح ورفض النزوح.. وبحكم علاقة الشاعر فإن أغلب الشخوص ترتبط علاقتهم بالمدينة وفي نهاياتهم المأساوية و الحزينة بتلك «الثورة»، لكنه أيضا ليس في هذا القسم فحسب لا يغفل عن الكتابة عن الشخوص المخبرين وكتاب التقارير والأوغاد.
أما القسم الثالث من «الثلاثية الشعرية» فقد خصصه الشاعر لأشخاص «لم يفطن لهم أحد» وهو في هذا القسم يزاوج بينهم وبين «شخوص حلب» المهملين والمهمشين الذين كتب عنهم. ففي هذا القسم يكتب عن «أبو الحكم» الذي لم يختلف الناس حول اسمه أكان لقبا أم كنية و «الاخت الكبرى» التي «كانت تنوح إذا انجرحت إصبع أو بكى طفل من لقاح» وكذلك «ابن العشب» الذي ألح على ابنه على البقاء ههنا «كي لا أموت قبل أن أراك زوجا لامرأة لا يشّدك إلى نهديها غير الحب» وكذلك «شيخ الحفارين» الوحيد الذي لم ينزح و كذلك «أم الكل» التي ظلت تقلب حظها اربعين عام في علبة «كبريت الفرس» وهي ماركة شهيرة للكبريت كنا نستخدمها للعبة الحظ فيما لو كانت تقف طوليا أم عرضيا أم لا تقف. لا ينسى أيضاً «رزوق» البياع الجوال و «بياع الورد» الذي لم ينزح عن المشتل، والمعلمة «فاطمة اسليم» التي كانت «توقظ بناتها برائحة البن» قبل الحرب و «جمال» الذي بقي لأنه وريث العناد.
بلغة شعرية عالية هي مزيج من المجاز الشعري الذي يحتاج التدبر والتأمل وبين الحكايات السلسة اللغة يمضي سلام حلوم في مشروعه الشعري في قصيدة النثر، يقدم اقتراحاً في الشعر هو المزواجة بين المجاز والحكاية بلغة بسيطة مفتوحة على الدلالات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!