مقالات

النظام القانوني …. نسقٌ لا نمط.

تحكم النسبية جميع المجالات العلمية والفلسفية والقانونية، ويرجع ذلك الى محدودية العقل البشري في تفسير المفاهيم وتكوين التصورات فاللعقل حدا ينتهي اليه كما ان للبصر حدا ينتهي اليه (الشافعي )، وكما يقول ايمانويل كانت ( استطيع ان اصف لك كيف يبدو لي العالم لكني لا استطيع ان اصفه كما هو في الواقع )، فالعقل البشري بيئة لنمو الدلالات والمفاهيم و ليس بنية مكتملة متميزة معزولة عن السياقات المعرفية او عن المشكلات والقضايا التي يعالجها او يشتغل عليها ولا يعيب ذلك العقل البشري فالفلاسفة كانوا اكثر الناس استخداما لعقولهم واستثمارا لها،اذ ان صياغة المفاهيم بواسطة العقل كانت شغلهم الشاغل،ومع ذلك فأن كل المشتغلين بالفلسفة يعترفون انه ليس من شأنها ان تمنحنا اليقين او تحدد لنا مواطن الداء في كل قضية او تقدم لنا مفاتيح حلول المشكلات ،انها نشاط فكري لا يتوقف عن اثارة الاسئلة واعادة صوغ المشكلات ،انها اشبه بمسلسل ليس له نهاية وهي دائما في حركة مستمرة من شكل الى اشكال اعمق واكثر تعقيدا من سابقه.
ولا يعيب العقل محدوديته ،انما يعيبه القالب الذي يتقولب به،والنمط الذي يضطرد عليه دون مراعاة التغيرات. يقول جلال الدين الرومي (تعلمت التفكير، بعدها تعلمت التفكير داخل القالب ،بعدها تعلمت ان التفكير الصحيح هو التفكير من خلال تحطيم القوالب).
وحسب تصنيف بلوم فأن مستويات التفكير هي اما دنيا او وسطى او عليا ويعد التفكير بالقالب من المستويات الدنيا ،اما التفكير بالنمط فهو من مستويات التفكير االوسطى ويعرف النمط لغويا بأنه النوع او الصنف ونمط الشي جعله على ذات صنفه ومذهبه، اما التفكير بالنسق فهو من مستويات التفكير العليا والنسق هو النظام والانسجام ومفهومه يعم كل الكون ، بل إن الكون بكامله ليس إلا نسقا كبيراً يحوي داخله أنساقاً جزئية تتداخل فيما بينهما .
و النسق القانوني هو مجموعة القواعد القانونية التي تتحكم بالسلوك البشري يشترك في إنتاجها مجموعة من المتغيرات، وهو ليس نظاما ثابتا وجامدا ، إنه ذاتي التنظيم من جهة ، ومتغير يتكيف مع الظروف الجديدة من جهة ثانية، أي أنه في الوقت الذي يحتفظ فيه ببنيته المنتظمة
يغير ملامحه عن طريق التكيف المستمر مع المستجدات الاجتماعية والثقافيةوسائر المتغيرات الاخرى
و النسق القانوني نظام يراعي طبيعة السلوك والمتغيرات في مسار التطور المستمر .
ان منبع النظام القانوني اما يكون التشريع او الفقه او القضاء، بالنسبة للتشريع القانوني والذي يشكل المصدر الاصلي الاول من مصادر القانون فقد يُكّون نمطا وبمجموعه نسق، ويتمظهر النمط التشريعي في بعض اصول الصياغة المتبعة عند صياغة القوانين
و هو ان يسلك المشرع مسلك وحدا في موضوع معين او تكون له سياسة نمطية تتوالم مع حاجات المجمتع وحسب طبيعة الموضوع المعالج والقانون الذي ينتمي اليه .
وقد تبدو أهمية هذا النمط في كثير من الحالات لاستقرار المراكز القانونية وتحقيق الامن القانوني
ولا يمنع ذلك من تغييره في حالة تغيير الفلسفة التي يقوم عليه القانون لتحقيق نسقا شاملا بين جميع فروع القانون.
وفيما يتعلق بالقضاء وهو المصدر الاسترشادي الاول للقانون فأن النمط القضائي ضرورة نسبية ويعرف بأنه اتجاه المحكمة او القاضي اتجاها واحد وحسب نوع القضية والمجال القانوني الذي تنتمي اليه،
كأن تكون قضية إدارية يتطلب لها نمطاً لاستقرار المراكز القانوية ،او نمطا في بعض القضايا المدنية اذ يمكن في اغلب الحالات الاستئناس بالقرارات التمييزية الصادرة في هذه القضايا حتى شكلت بعض القرارات مبادئ قضائية راسخة.اما في
القضايا الجزائية فتبدو خطورة النمط الواحد لعدة اسباب منها ان النمط الواحد لا يحقق العدالة اذ يقوم القانون الجنائي على الوقائع والتي تكون نسبية متغيرة غير ثابتة بالنسبة لجميع المتداعين .
اما فيما يتعلق بالفقه وهو المصدر الاسترشادي الثاني من مصادر القانون فأخطر ما يكون فيه تنميطه وقولبته إذ يضع الفقيه في قالب واحد يفكر داخل الصندوق ويتقيد بالنظرياات والاراء الفقهية والفلسفة السابقة دون ابتكار وتقييم وتحليل متجدد متانسيا الحاجة الاجتماعي والتغير المستمر في النظام الاقتصادي السياسي الاجتماعي وتأثر الجغرافية والعوامل الاخرى في كل زمان ومكان، فلابد ان يكون لكل فقيه فلسفته وابتكاره وتحليله وتقيمه في اطار العلم والمنطق والتشريع وكما يقول ابن عربي ( تتلون الحقيقة بوعي العالم كما يتلون الماء بالزجاج).هذه المصادر المذكورة جميعا يكمل بعضها بعضاً تتناسق وتنسجم فيما بينها لتشكل نظاما قانونيا واحدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!