مقالات عامة

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي الحلقتين السابعة والثامنة

لَطيف عَبد سالم  

 

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي
( الحلقة السابعة )
لَطيف عَبد سالم
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أَنَّ هناكَ الكثير مِن الوقائعِ الَّتِي مَا تَزالُ تفاصيلها، وَرُبَّما لحظاتها عالقة فِي ذهنِ السَمَاويُّ عَلَى الرغمِ مِنْ تباينِ تواريخِ حدوثها وَتفاوتِ تأثيرها، إلا أَنَّ رغبتي فِي المرورِ بما أتيح مِنهَا تنبع مِنْ عاملينِ أساسيين، أولهما إدراك أهميتها – مَعَ حكاياتِ غيره مِن المبدعين – فِي تعزيزِ حزمةِ التدابير والإجراءاتِ الساعيةِ إلى توثيقِ الأنْشِطَة الخاصة بالمَوْرُوثِ المَحَلّيّ، وَالَّذِي أرخى الليل سدوله عَلَى الكثيرِ مِنْ فعالياتِه؛ جراء تعذر مسايرتها لمعطياتِ الحياة المعاصرة، حتى أصبح الإحصاء بشأنِ المندثر مِنْ تلك المَوْرُوثات أو الَّذِي فِي طريقِه إلى الاضمحلالِ أمراً غير يسير. فِي حين يقوم الأمر الآخر عَلَى أهمية المكان فِي تشكيلِ الإِبْداعِ الأَدَبيّ بمختلفِ ضروبه، وَلعلَّ خير مصداق عَلَى مَا تقدم هو كثرة مَا تكتنزه الذاكرة الإنسانيَّة مِنْ تجاربٍ شعرية وَروائية وَفَنِّيَّة، وَالَّتِي ارتكز بناءها عَلَى استبعادِ الخيال وَنبذ آليات الكتابة المرتكزة عَلَى اختراعِ الأحداث، معتمدة عَلَى صورٍ واقعية أو وَقائع حقيقية أو ذاتاً مَوْضُوعِيَّة؛ بغية تدوين الأحداث والوقائع التاريخية الَّتِي شهدت فصولها الأمكنة، فَعَلَى سبيلِ المثَالِ لا الحصر كانَ الجسرُ الحجريّ الشهير الَّذِي أُقيمَ عَلَى نهرِ درينا بمدينةِ فيشيغراد محور رواية جسر عَلَى نهرِ درينا الَّتِي أوصلت مؤلفها البوسني (ايفواندرتيش) إلى بلوغِ جائزةِ نوبل عام 1961م، فَمَا بالك بِمَا نزفه قلب السَمَاويِ يحيى شعراً أصيلاً صادقاً عَنْ العراق وَأرضه وَبَغْدَاده وَفراتيه وَنخيله وسَمَاوَته وَحتى باديتها الَّتِي ارتبطت بعض فصول تأريخها الحديث ببؤسِ الإنْسَان وَنفيه وَتشرده؟!.
لا مفاجأة فِي القولِ إنّ السَمَاويَّ يحيى تأبط الشعر منذ وقت مبكر مِنْ حياته؛ إذ أَنّ شغفَه بالتحليقِ بعيداً فِي عوالمٍ لا يؤثر فِي صفاءِ ألوانها سوى فضاءاتٍ لا حدود لها مِنْ قناديلِ أحلامِ اليقظة، ألزمه الجهد الحثيث فِي تسخيرِ الحرية لأقلامِ الرصاص الَّتِي اعتاد عَلَى ابتياعها مِنْ دكانٍ متواضع لا يبعد كثيراً عَنْ أطرافِ زقاقِ محلته فِي ترتيبِ كلماتِ جمله وَمحاولة رصفها بعنايةٍ وَأناقة مثلما ترصف الدوائر الهندسية الطرق وتغرسها بالنباتاتِ وَالزهور؛ لأجلِ رسمِ مَا تكتنزهُ ذاكرتَهُ الغضَّةَ مِنْ أحلامٍ بريئة عَلَى أوراقِ دفاتره المدرسيَّة العتيقَة بصورٍ شعريّةٍ تنسجم مَعَ قدراتِه الذهنية حينئذ وكأنه يلج عوالم إِبْداع البوح – ومَا ابتعد عَنْ غيره مِنْ آفاقه – بمثابةِ سنبلةٍ تتمسك فِي الإصرارِ عَلَى النُمُوِّ وَهي تصارع بخطى واثقة آثار سبخ الأَرْض؛ لأجلِ تحويل عتمة فضاءات حقول قمح الأدب الإنسانيّ إلى مروجٍ خضراء تزينها أصوات العصافير، حتى أزهرت بعد سنوات أغصان موهبته الأدبية الفائقة وَتذوق الناس طعمِ ثمارها الإنسانيَّة، وَالَّتِي أفصحت عَنْ نضجِ أسلوبه الفني والسعيِّ الحثيث لتطويرِ أدواته فِي الكتابةِ الشعرية القائمة عَلَى جمالِ اللغةِ وَفنون البلاغة وسعة المخيلة وَتوظيف الرموز التراثية، وَلاسيَّما فِي مرحلةِ اغترابه القسري، وَالَّذِي لم يكن بقصدِ البحثِ عَنْ رغيفِ عافية أو خيمة أكثر ظلالاً، بل خوفاً مِنْ حبلِ مشنقةٍ كان عَلَى مبعدةِ أشبارٍ منه فِي عهدِ النظام السابق؛ إذ أصبحَ – بحسبِ مَا ظهر مِنْ كتبِ النقاد العراقيين وَالعرب النقدية الَّتِي تناولت تجربته الشعرية، إلى جانبِ مَا حظيت بِه تلك التجربة مِنْ دراساتٍ وَبحوث أكَادِيمِيَّة – أحدُ أبرزَ رموزنا الشعرية وَالإنسانيَّة السامقة، فضلاً عَنْ كونه أحد عباقرة الشعر العربي الأصيل الَّذِي وظف أدواته بإتقانٍ فِي مهمةِ نحتِ أبجديةٍ حَضاريَّة ساهمت فِي تعزيزِ الأصواتِ المدافعة عَنْ قضَايَا الإنْسَان، فكانّ أنْ ألزمته صعوبة الظروف وَقساوة الأيام الركون إلى البوحِ بوصفِه المُتاح مِنْ سُّبُلِ التعبير عَنْ خلجاتِ النفس واحساسها بعذاباتِ الإنْسَان المضطهد والمظلوم؛ إذ أصبحَ الشعرُ لغته فِي التعاملِ مَعَ الإنْسَان والمؤلم مِنْ أَزْمَاته، إلى جانب تفاعله مَعَ البِيئَةِ الَّتِي – عاش – وَمَا يَزال يعيش فِيهَا. وَضمن هَذَا المنحى تحضرني عبارةٌ عميقةٌ وَرائعة للأديبِ المصري شعبان البنا الَّتِي نصها ” لِمَنْ لا يعلمون، فأنَ الشاعرَ يحيى السَمَاوي نجح باقتدار فِي حفرِ اسمه فِي ضميرِ القصيدة العربية لأجيالٍ كثيرة مقبلة “.
المذهلُ فِي الأمرِ – وَلا أعني الأديب البنا – أَنَّ لا أحد بوسعِه إغواء السومري الأصيل بمدحٍ قد يجعله يحيد بنفسِه عَنْ نهجِه الإنْسَانيّ القائم عَلَى البساطةِ والتواضع الَّذِي تربي وَنشأ عليه؛ إذ عَلَى الرغمِ مِنْ شهادةِ المُتَخَصِّصين بتكاملِ تجربة السَمَاويِّ الشعرية وَتَمَيَّزها وَتفرد بعض خصالها، فإنَّه يردد عَلَى الدوام ” مَا حلمتُ يوماً فِي حفرِ اسمي حتى وَلو عَلَى جدارِ بيتي – وأظنني لَنْ أحلم بذلك – لَكنني كنت – وَسأبقى – حَالماً فِي أنْ أكون جملة مفيدة فِي كتابِ المحبةِ الإنسانيَّة “.
المتوجبُ إدراكه أَنَّ ذاكرةَ شاعرنا السَمَاويّ المثقلة بأوجاعِ الماضي وَالمتخمة بِمَا يدور حولها، مَا تَزالُ غنيةً بالكثيرِ ممَا غفى ردحاً مِن الزمنِ أو مَا استقر عميقاً فِي مشاربِها، وحفر فِي تشعباتِها أخاديداً لا تقل أثراً عَمَا حفرته الدموع عَلَى أوداجِ عراقيةٍ أصيلة تبحث عَنْ وَطَنْ. وَلَعَل مِنْ جملةِ مَا حاولت إيقاظه مِنْ تلافيفِ ذاكرةِ المفتون بطينِ السَماوة وَجمال نخيلها وَعَذب فراتها، ثمَّةَ حكاية تُعَدّ بمثابةِ ومضةٍ وهاجة مِنْ أيامِ الصبا، وَالَّتِي رُبَّما تنفع مِنْ وجهةِ نظرٍ شخصية فِي أنْ تكونَ ملاذاً لصاحبِها مِنْ أوجاعِ اللحظةِ الراهنة أو محاولة نافعة لِتجاوزِ متاعبها. وَالْمُلْفِتُ أَنَّ الحكايةَ المنوه عَنْها آنفاً تكشفُ عَنْ تميزِ السَمَاويّ بنبوغِه الشعري مبكراً، بوصفِه موهبة شعرية أصيلة، بالإضافةِ إلى ذكائِه المتقد ومهارته العاليَّة فِي معالجةِ مَا قد يتعرض له مِنْ مواقفٍ فِي حياتِه، وَالَّذِي اتضحت ملامحه لاحقاً مِنْ خلالِ صمودِه أمام عاديات الزمن وَمواجهة أقسى الظروف وَأكثرها صعوبة.
أيـهــا الـحـزنُ : لا تـحـزنْ
فـأنـا ســأتـشـبَّـثُ بـالـحـيـاةِ
كـيْ لا تـعـيـشَ يـتـيـمـاً بـعـدي !
الحكايةُ الَّتِي تُشعر السَمَاويّ بمتعةٍ – لا تخلو مِن الحياء – حين يعود بذاكرتهِ إلى أيامِ زمانٍ مضى مِنْ أجلِ أنْ يسترجعَ تدريجياً بعضاً مِنْ مشاغباتِ الصبا البريئة، وَالَّتِي رُبَّما تُعَدّ امتداداً لحكاياتِ الحب العذري التاريخيَّة أو قد تَبْدُو- فِي حالِ إخضاعِ مضامينها إلى معاييرِ الحاضر – مِن قصصِ العشق الاسطورية. وَعَلَى الرغمِ مِنْ البساطةِ فِي شكلِها، إلا أَنَّهَا عميقة فِي بعدِهَا الإِنْسَانيّ، وهو الأمر الَّذِي زادني شغفاً للتطلعِ عَلَى مَا أتيحَ لِي مِنْ مجرياتِها.
ترجع وقائع تلك الحكاية الَّتِي يحفظها السَمَاويّ فِي ذاكرةِ الروح إلى مرحلةِ الدراسة المتوسطة؛ إذ كانَ حينئذ يبكّر فِي الخروجِ مِن البيتِ صباح كُلَّ يوم مستبقاً بقية طلاب مدرسته، بَيْدَ أنَّ المثيرَ للاهتمامِ أَنَّ الفتى السومري كان يتوجب عليه فعل ذلك لا لأجلِ الدخول إلى المدرسةِ قبل أقرانه، بوصفِه آخر مَنْ يدخل المدرسة؛ إذ كان يحرص عَلَى التبكيرِ فِي الخروجِ مِنْ البيت؛ لأجلِ أنْ يقفَ مثل شرطي مرور عند منتصف جسر السَمَاوة الحديدي؛ منتظراً انبلاج الأمل بقدوم صبيّة حسناء، وَالَّتِي لا سبيل لبعثِ لواعجِ اشواقه إليها حينئذ سوى لغة العيون الَّتِي تتيح لَهُ نظرةَ حب وَحنان خاطفة، إلا أَنَّ قلبه المعلق مَا بين فضاءات الجسرِ وهو يخفق وتزداد سرعة نبضه كلما اقتربت صبيته – الَّتِي كتب عنها لاحقاً قصيدة ” غادة القشلة ” فِي مجموعتِه الشعرية الأولى الموسومة ” عيناك دنيا ” – يبقى يحلم بيدٍ طاهرةٍ تمتد إلى شرايينِ قلبها قبل أنْ تأخذهما معاً إلى عوالمٍ شوقٍ بعيدة.
لا يخفى عَلَى أحدٍ أَنَّ الأجيالَ الحديثة فتحت عينها عَلَى تسارع التقدم التِقْنِي الَّذِي شهدته البَشَريَّة فِيمَا تأخر مِنْ عقودِ القرن المَاضي، وَلاسيَّما التَطَوَّر المذهل فِي وسائلِ الاتصال والمَعْلُوماتيَّة الَّذِي كان مِنْ بَيْنَ مخرجاتِه المتقدمة بلوغ مرحلةِ الاتصال التفاعلي أو مرحلة الوسائط المتعددة، وَالَّتِي يقومُ عملها عَلَى الحاسباتِ الإلكترونية وَأشعة الليزر وَالألياف البصرية – الضَوئِيَّة – وَالأقمار الصناعية؛ إذ أفضى التزاوج مَا بَيْنَ تلك التِقْنِيَّات إلى إِنْتَاجِ نظام الاتصال الرقمي، وَالَّذِي أنجب عصراً وَمجتمعاً جديداً يشَار إليه باسْمِ عصرِ أو مُجْتَمَع المَعْلُومات، إلا أَنَّ أيامَ صبا السَمَاوي كان يتعذر فِيها إجراء اتصال مثلما هو حاصل اليوم، وَهو الأمر الَّذِي دفعه إلى البحثِ عَنْ وسيلةِ اتصال مبتكرة وَغير مألوفة تتيح له تجاوز عقبة التواصل مع فتاته الحسناء، حيث عمد إلى جمعِ علب الكبريت الَّتِي يطلق عليها محلياً ( الشخّاطة )، وَالقيام بتفريغِها مِنْ أعوادِ الثقاب؛ لأجلِ حشوها بقصاصاتِ ورق تتضمن بضعة أبيات شعرية قبل الشروع برميِها إليها عند قدومها وهي تمشي ببطء، كان يلزمه المَشيّ خلفها ببطءٍ مماثل، حتى إذا وصلت بناية مدرستها وَدلفت إليها، قفل راجعاً يغذّ السير مسرعاً نحو مدرسته، غَيْرَ أَنَّ اقدامَه عَلَى تسريعِ الخطى مَا كان يجدي نفعاً فِي محاولةِ عدمِ دخوله صفه الدراسيّ متأخراً؛ إذ يفاجأ فِي كُلِّ يومٍ ببابِ مدرستِه مغلقاً؛ لِذَا كان مُلزماً بالبحثِ عَنْ تدبيرٍ يمكنه مِنْ استصلاحِ وضعه وَدخول صَفِه مَعَ أقرانِه، فلَمْ يجد بداً مِن اللجوءِ أملاً فِي النجاةِ بنفسه مِنْ غضبِ مدير المدرسة – وهو يخيل إليه أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي المدرسةِ وَمَا جاورها يسمع صوت نبضات قلبه – سوى التسلل مثل لص نحو المدرسة عبر سياجها الخلفي الواطئ، وَالَّذِي رُبَّما يُشكل بالنسبةِ للسَمَاويِّ أحد كنوز الذكريات الَّتِي لَمْ يكن بمقدورِ مَا مضى مِنْ أيامٍ محوهَا.
سأبيعُ كُلِّي
بالقليلْ!
مَنْ يشتري قلبي بمنديلٍ
يليقُ بجُرحِ “حَلّاجٍ” جديدٍ
ناسِكِ الآثامِ…
أغواهُ السّرابُ
رآهُ في حُمّى التهجّدِ
سلسبيلْ؟
منْ يشتري بالدمعِ أجفاني؟
وعينِيْ بالعِمى؟
ونميرَ ينبوعي بجمرٍ؟
والوفاءَ بطعنةٍ نجلاءَ
تنقذني من الوجَعِ الطويلْ؟

………………………………………………………………………………….
مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي
( الحلقة الثامنة )
لَطيف عَبد سالم
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
ما بَرِحَ الآباءُ عَلَى مَرِ العُقود الماضية عَنْ الأمل – بفطرةٍ سليمةٍ – فِي رؤيةِ فلذات أكبادهم عَلَى عتبةِ المدارس، وهم يضعون أولى خُطواتِهم بدروبِ المعرفة فِي تلك الصباحات الشفافة الوادعة الَّتِي لا يخترق هدوءها – وَهي تستقطب منذ ساعاتها الأولى عشرات الأطفال – سوى أجواء البراءة الَّتِي تصدح فِي فضائِها – المزخرف بجمالِ شقاوة الاطفال – ضحكاتِ كثيرة مَا تَزالُ تتراقص طرباً فِي آذانِ الكثير مِنَا، بالإضافةِ إلى مَا يتداخل فِي جنباتِها مِنْ بكاءٍ لبعض القادمين حديثاً إلى عَالمِ التربية؛ جراء الخشية مِنْ الابتعادِ عَنْ وَالديهم المتأتي مِنْ ضعفِ مداركهم الَّتِي تجعلهم مِنْ دُونِ أدنى شك عاجـزين عَنْ قـراءةِ حيثياتِ الواقـع الجديد وَتفاصيله، وهو الأمر الَّذِي ألزمَ أغلب الأهالي الحرص عَلَى اصطحابِ اطفالهم إلى بنايةِ المدرسةِ فِي الأيامِ الأولى مِنْ بدايةِ الموسم الدراسي، فضلاً عَنْ اضطرارِ بعضهم الانتظار جلوساً بجوارِ سياج المدرسة للاطمئنانِ عَلَى أطفالهم، وَلا سبيل أمامهم حينئذ سوى الركون إلى الحديثِ مَعَ بعضِهم البعض أو الاختلاء إلى النفسِ بعيداً عَنْ الناسِ والضجيج أو مشاركةِ الكسبة الَّذين يفترشون الأرض لبيعِ الحلوى أو الباعة الجوّالين – الَّذين يجدون فِي واجهاتِ المدارس سوقاً رائجاً لما تحويه عرباتهم الخشبية مِنْ مأكولاتٍ مثل الباقلاء وَالحمص ( اللبلبي ) والفلافل وَغيرها – الحديث عَن همومِ الدنيا؛ لأجلِ ق*ت*ل الفراغ حتىَ يحين موعد الشروع باصطحابِ أطفالهم إلى المنزلِ بشكلٍ آمنْ بعد خروجهم مِنْ المدرسةِ فِي نهايةِ الدوام.
مِثلُ غيره مِنْ الآباء، كان المرحوم عباس عبود – طيب الله ثراه – ينتظرُ بفارغِ الصبرِ أنْ تتكحلَ عيناه برؤيةِ ابنه يحيى وهو يدخل المدرسة؛ إذ أَنَّ تلكَ اللحظة التاريخية الَّتِي يَعدها ثمرة لجهدِه وَغنيمة لعرقِه وَجزاءً لتعَبِه وَشقائه، تشعره وَأسرته – مِنْ دُونِ أَدْنَى شك – أَنَّ وَلدهُ قد كبر واشتد عوده وبات قريباً مِنْ حصدِ ثمار تربيته. وَلِأَنَّ نفسَه توَّاقة للفرحِ بابنِه، فضلاً عَنْ طموحِه فِي فتحِ المجالِ أمامه للحصولِ عَلَى فرصته فِي التَعَلُّم وَاِكْتِساب المَعرِفة، إصطحبَ ابنه يحيى ذَاتَ صَبَاحٍ شَفِيفِ الضِّيَاءْ إلى سوقِ المدينةِ الَّذِي لَمْ يكن غريباً عَليه بحكم مهنته، وإشترى له بنطلوناً وَقميصاً وحذاءً جديداً، بعدَ أنْ تيقنَ مِنْ أَنَّ نبتةَ ابنه الناتئة فد كبرتْ، وأصبحتْ فسيلةً لها مِن العمرِ ستةِ أعوام، ثم ذهب معه إلى جارهم المصوّر الشَمسيّ، وَالَّذِي مَا يَزال السَمَاوي يشير إليه باسْمِ ” العَم إبراهيم العَزَاوي “، ليلتقطَ له صورتين فوريتين بالأسودِ والأبيض.
يا أنت يا قلبي أمثلك فــي الهوى
يشـكو مــــواجعَ غـُرْبَةٍ وفِـراقِ؟
أوَلسْتَ مَنْ صامَ الشبابَ مُكابــراً
عَن مـــــاءِ أعْنابٍ وخبزِ عِناقِ ؟
والمُـثـْمِلاتِ لــــــــذاذةً بِمَـبـاســمٍ
والمُـمْـطِـراتِ عذوبــــةً بـمآقي ؟
يا مَــــنْ أضَـعْـتَ طـفـولةً وفـتـوَّةً
ماذا سـتَخْسَـرُ لو أضَعْتَ الباقي ؟
هل فـي جِرارِ العُمْرِ غيرُ حُثالةٍ؟
أطبِقْ كتابَـكَ .. لاتَ وقتَ تلاقي!
مِنَ المُناسِبِ وَنحنُ نقلبَ بعض مَا أتيح لَنَا مِنْ صفحاتِ مَلَفِ طُفُولة السَمَاويّ أنْ نفتحَ كوة فِي موروثِنا الَّذِي لا يمكنهُ مغادرة الذاكرة التاريخية؛ وَلَعَلَّ التصويرَ الشمسي الَّذِي جاءت تسميته مِنْ طبيعةِ آلية عمله الَّتِي تعتمد فِي تأمينِ الإضاءةِ عَلَى ضوءِ الشمس مِنْ بَيْن أشهر تلك الموروثات الَّتِي تباينت الروايات وَتحقيقات الباحثين حَوْلَ زمَانِ وَمكان وَطرق دخولها إلى بلادِنا، إذ كانت مِن المهنِ الفنية الشعبية واسعة الانتشار، وَالَّتِي ظلت حية ومتألقة بجمالِها فِي مُدننِا إلى عهدٍ قريب قبل أنْ يتجاوزها العصر بظهورِ محال التصوير الفوتوغرافي، حيث كان استخدام التصويرَ الشمسي يومذاك مقتصراً عَلَى التصويرِ السريع جداً بالأسودِ والابيض؛ لأجلِ تغطيةِ متطلبات المعاملاتِ الرسميَّة واحتياجات الأنشطة المدرسية، وَهو الأمرُ الَّذِي جعل مِنْ وَاجهاتِ بعض البنايات الحكومية مستقراً لأصحابِ هذه المهنة، حيث تظهر الركيزة أو حمالة الكاميرا المكونة مِنْ ثلاثةِ أضلاعٍ خشبية قوية ينتصبُ فوقها بدن الكاميرا الخارجي الَّذِي يحوي فِي داخلِه صندوق الأفلام المحكم ضد الضوء وَحوض الحامض وَكاسيت الصور الَّذِي يوضع فيه الفلم، فضلاً عَنْ الكيسِ الأسود الَّذِي يحجب الضوء عَنْ الفلمِ مِن الفتحةِ الخلفية. وَالْمُلْفِتُ أَنَّ الصورةَ الشمسيَّة كان يشارُ إليها فِي الماضي القريب باسْمِ ( عكس )، وَالمصورَ كان يسمى حينئذ بـ ( العكَّاس )؛ جراء ارتكاز تِقنية التصويرَ الشمسي عَلَى آليةِ عكسِ الصورةِ. إذ يجلسُ الشخصَ المراد تصويره عَلَى كرسيٍّ أُعد انتخاب مكانه بأناةٍ أمام قطعة قماش سوداء يجري تثبيتها عَلَى الجدار، حيث يقوم المصور الشمسي برفعِ غطاء العدسة لتلتقط الكاميرا الصورة، وَالَّتِي تظهر بشكلِها السالب – الفريم أو الجامعة – الَّتِي أعتاد لسان العامة عَلَى الإشارة إليها بلفظِ ( الجامة ) أو المسودة، وَالَّتِي غالباً مَا تحتاج إلى رتوشٍ باللونِ الأحمر عَلَى بعضِ مناطق الوجه؛ لأجلِ إبرازِ ملامح الصور، حيث يمكن الحصول عَلَى أربعةِ صورٍ مبللة بالماء خلال دقائق. وَمِنْ المعلومِ أنَّ كاميرا التصوير الشمسي البدائية الصنع والأداء، تأثرت باستمرارِ عجلةِ التطور فِي تقنيات الفوتوغراف والكاميرات الحديثة الَّتِي تحولت إلى عينٍ ثالثةٍ للمصورين مِنْ أجيالِ الشباب؛ إذ أصبحت فِي عالمِ اليوم – بفعلِ قدمها وَضيق أفقها الفني وَعدم قدرتها عَلَى التواصل – غير مؤهلة لِمواكبةِ التطور الكبير فِي تِقنياتِ التصوير المثيرة للدهشة، وَهو الأمر الَّذِي أدَّى إلى انتفاءِ الحاجة لها بعد أنْ غمرَها الزمن وَأفضى إلى استقرارِها فِي خزانةِ الموروث الشعبي.
بعد اتمام متطلبات التسجيل فِي المدرسة، صحبه والده – رحمه الله – ذات صباح قائظ فِي أحدِ أيام عام ١٩٥٥م إلى أحدِ حارات الصوبِ الكبير؛ لأجلِ الشروع بإكمالِ مقتضيات انتظامِه بالدراسةِ فِي مدرسةِ المأمون الإبتدائية للبنين، وَالَّتِي كانت تشغل آنذاك بناية قديمة تشبه إلى حدٍ بعيد وَبالاستناد إلى منظورٍ مقارناتي الثكنات العسكرية، عَلَى الرغم مِنْ أنَّ الأهاليَّ كانوا يشيرون إليها حينئذ باسْمِ ” المدرسة الثانية “؛ لأنَّها تُعَد بوصفِها المدرسة الثانية الَّتِي جرى افتتاحها فِي السَمَاوةِ بعد مدرسة ” الرشيد ” الَّتِي كان يُطلق عليها أهل السَمَاوة اسْمِ ” المدرسة الأولى “. وَلَمَا كانَ لكُلِّ فضاءٍ رواية، فَمِنْ المناسبِ أنْ نشيرَ إلى أنّ بنايةَ مدرسة المأمون تم إزالتها لاحقاً وأقيمت عَلَى أرضها مجموعة مِن الدكاكين، عَلَى خلفيةِ تشييد مدرسة حديثة فِي بدايةِ منطقة الحي الجمهوري، حيث كانت بناية واسعة مِنْ طابقين وَفيها قاعة كبيرة وَحديقة أمامية وَملعب كبير، غَيْرَ أَنَّ اتساعَ السَمَاوة وَالإقرار عَلَى اعتبارِها مركزاً لمحافظةِ المثنى، أفضى إلى تحويلِ هذه المدرسة إلى مديريةِ بلدية المحافظة، ثم إلى مديريةِ تربية المحافظة، وانتقلت المدرسة إلى بنايةٍ أخرى.
لا تـُسْـرفــي باللـــــومِ والعَــتـَبِ
فأنا ـ وإنْ جزتُ الشبابَ ـ صبي
قـلـبي بـهِ للحـبِ ألـفُ مـــــــدىً
رَحْـبٍ وِغابـــاتٌ من الـوَصَـبِ
إنْ أغـْضَبَتـْكِ صـبابـتي فـأنــــا
أطـْفَأتُ فـي نيـرانـــها غـَضَبي
قـــــــدْ أوْرَثـَتـْني عِـفـَّةً بـهـوىً
أمّـي .. وأوْرَثني الوفـــاءَ أبـي
المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ يحيى حين دلفَ إلى المدرسةِ صحبة والده، تفاجأ بمديرِها المرحوم ” علي كاوي ” يرحّب بأبيِه ترحيباً جميلاً؛ جراء صداقته لأبيه، فضلاً عَنْ كونِه زميلاً له فِي المدرسةِ الإبتدائية بحسبِ ما أسره بِه أبوه وقتذاك. وَمَا أظننا نغالي فِي القولِ إنَّ شغفَ أبيه بالقراءةِ هو الَّذِي جَعلَه يستعجل فِي تسجيلِ ابنه البكر فِي المدرسة، وَلَعلَّنَا كذلك لَا نغالي إذا قُلنا إنَّ يحيى فِي طفولتِه قد أحبّ المدرسة لا شغفاً فِي التَعَلُّم؛ إنما لأَنَّ أصدقاءه مِنْ أبناءِ الجيران ” باسم ابراهيم العزاوي ” و ” جواد كاظم عزيز ” و ” شاكر داخل المدو ” و ” رشاد نافع الجضعان ” و ” فاضل حسن العزاوي ” و ” رزاق محسن العزاوي ” : قد سجّلهم آباؤهم فِي المدرسةِ بالفترةِ ذاتها.
لا رَيْبَ أَنَّ مدرسةَ المأمون الإبتدائية للبنين، كانت عتبة السَمَاوي يحيى الأولى فِي مسيرةِ منجزه الأدبي الإبداعيّ الَّذِي أغنى به المشهد الثقافي والأدبي، فعَلَى سبيلِ المثالِ لا الحصر يقول الناقد جمعة عبدالله إنَّ ” اسمَ السَماوي له صدى كبير بجرسِه الرنان، فِي عطائه الشعري والنثري، وَكل اطلالة ديوان أو مجموعة شعرية أو نثرية جديدة، تؤكد حضوره المتألق فِي جماليةِ الابداع الأصيل بما يملك مِنْ خزينٍ غزير مِن الخبرةِ والكفاءةِ فِي الخزينِ اللغويِّ والمعرفي، فِي رسمِ أسلوبيةٍ خاصة متميزة فِي عوالمِ الشعرِ والنثر، إنَّه يمتلك الصفة المميزة في اسلوبية الابداع بشكلٍ فذ وعملاق، وَإنَّه يطرقُ كل الاساليب وَالطرق المتجددة، فِي الصياغةِ وَالتركيب والبناء المعماري، هذه المواصفات الفذة، تؤهله أنْ يكون فِي قمةِ العطاءِ الشعري والنثري “. وَيضاف إلى ذلك مواقفه الوطنية والإنسانية الَّتِي انتهت به قسراً إلى المنافي فِي أقصى أصقاع الأرض، وهو الفتى السومريّ الحالم فِي الاستظلالِ بفيء نخلة أو النظر إلى جمال منظر شروق الشمس عَلَى مَرَابِعِ الصَّبَا. وَأكاد أجزم أَنَّ السَمَاويَّ تواق لتقبيلِ عتبة مدرسته البائسة، بَيْدَ أنَّها أصبحت حكايةٌ منسية مِن الماضي – مثلما هو حال آثارنا- بعد أنْ كانت بِيئَة معرفية لرسمِ المُسْتَقْبَل.
مسكينٌ وطني
منطفئُ الضحكةِ
مفجوعُ الإنسانْ
لو كان له مثلي
قدَمٌ وجوازٌ ولسانْ
لمضى يبحث في المعمورة
عن ملجأ أوطانْ!

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!