الحوار الهاديء

ماذا تعلّم العراقيون من دروس الحياة؟ 2

الكاتب: لويس اقليمس
ماذا تعلّم العراقيون من دروس الحياة؟
* الجزء الثاني-
 
لويس إقليمس
 
أمريكا ود*اع*ش
اليوم في ضوء هذه الأحوال التي لا نُحسدُ عليها نتساءل: ماذا جنى العراقيون من الحكومات المتعاقبة منذ اغتيال الملكية ووزاراتِها المدنية الوطنية التكنوقراطية، غيرَ انقلابات ثأرية وصراعات قومية وبروز نزاعات طائفية ومذهبية وإتنية لا ترقى لأدنى مستلزمات الوطنية والولاء؟ وهل لنا أن نقف وقفةَ تأمّل صادقة مع مشروع الغزو الأمريكي وسعيِه الدؤوب لاحتلال العراق بوسائل عديدة: مفبركة ومقنّعة أحيانًا، وفاعلة وضاغطة في أحيانٍ أخرى؟ وهل يمكننا التصديق بصدق نواياها الظاهرية في محاربة دولة الخ*لافة في العراق وبلاد الشام، “د*اع*ش” وأخواتِها، في المنطقة وفي العالم والقضاء عليها؟ ألمْ تكشف الحقائق قيامَها بإنعاش مسلّحي هذا التنظيم وتزويدِه بالسلاح أو تسهيل حصولِه عليه وعلى تدفّق مقاتلين بطرق ووسائل متنوعة، ظاهرية وخافية؟ أمْ إنّ الأدلّة التي تحدّثت عنها لجنة الأمن والدفاع البرلمانية العراقية هي مفبركة وكاذبة؟ وكيف يمكن لطائرات نقل أن تُخطئ مرةً واثنتين وثلاثًا وعاشرة؟ فالفضائح كثيرة والدلائل أكثر، فيما الحساب بعيدٌ بسبب انغماس الطبقة السياسية في الفساد الماليّ والصراع الطائفي والمذهبيّ والاثني الذي دمّرَ الأرضَ والبلاد َ وآذى الفكرَ والعبادَ وحوَّل العراقَ وأهلَه إلى كانتونات ومناطق متصارعة بلا رحمة، بحيث انتقلت عدوى العداء حتى بين الإخوة وأصدقاء الأمس.
دلائل كثيرةٌ تشيرُ إلى تراخي زعيمة التحالف الدوليّ “أمريكا” في القضاء على شرور “د*اع*ش” وإنهاءِ سطوتِه الهائلة والسريعة على مناطق شاسعة في كلٍّ من سوريا والعراق، وانتشار تأثيرِ تنظيماتِه في مناطق أخرى، بل وفي عقر دار الغرب “الكافر”، كما يسمّيهم هذا التنظيم الار*ها*بيّ الذي فاق في قدراتِه تنظيم “القاعدة” في تنوّع الشرّ وأعمال الق*ت*ل والذبح والاختطاف والاغ*تصا*ب ونكاح المحارم وسيادة سوق النخاسة، في عودةٍ متقهقرةٍ إلى عصور التخلّف والجهل وعمى الحياة بكلّ جوانبِها. وإلاّ، لماذا هذا الانتشار السريع، إعلاميًا ودعائيًا وبشريًا، بحيث طغى خلال فترة زمنية قصيرة على كلّ المسمّيات والهواجس وتسيّد الموقف والنشرات والفضائيات، ولمْ تسلم منه شعوبُ الأرض قاطبة، إنْ لمْ يكن يستقطبُ دعمًا خفيًا من جهات دولية ذات نفوذ؟
بدأَ يُدرك الكثيرون، ومنهم طبقات سياسية في المنطقة مقرّبة من الغرب “الغبي” غيرِ المستوعِب للرؤى والمفاهيم التي أتى بها هذا التنظيم الار*ها*بيّ التكفيريّ والمختلفة في باطنِها عن الظاهر، أنَّ هذا الغربَ عينَه ليسَ جادًّا بضرب التنظيم حتى القضاء عليه نهائيًا، تمامًا قالَها الرئيس السوري بشار الأسد في وقت سابق. بل ما تسعى إليه أمريكا، لا يعدو
تحجيمَ هذا التنظيم وتحديدَ انتشارِه، وجعلَه أداةً سهلةَ الانقياد من أجل تحريكِه يمنةً ويسرةً، وتوجيهِه أينما وحيثما ومتما اقتضت الحاجة، من أجل قرصة أذن الشعوب وحكّامِها وإنذارِها بضرورة عدم الخروج عن طاعة سيدة القطب الواحد وأدواتِها في الغرب الخانع. وأنا لا أجد تفسيرًا غيرَ ذلك، حالي حالُ الكثير من المثقفين والمفكرين والمحلّلين للوضع القائم وربطِه بما سبق. فاللعبة كبيرةٌ ومتشعبة، بل تتجاوزُ تقديراتِنا وتصوّراتنا ومداركَنا. وها هي خيوطُها تتكشّف في أعمال التغييرات الديمغرافية وأشكال الهجرة والنزوح الجماعي لشعوبٍ أصيلة بأكمِلها وهي تُق*ت*لعُ من جذورِها على أيدي كواسر العصر تحت سكوتٍ وصمتٍ دوليّ، إلاّ لتغطية ماءِ الوجه وسدّاً لضغوطٍ عالمية ومن مراجع دينية واجتماعية وسياسية لا تقبل الظلم والعن*ف والدمار، بكلّ أشكالها. فما يقوم به التحالف الدّوليّ على أرض الواقع، لا يُشهدُ لهُ بالجدّية والسعي الصادق للقضاء على شرور هذا التنظيم العالميّ الذي استقطبَ مقاتلين قدامى من جنسياتٍ مختلفة وجنّدَ غيرَهم من شعوب البلدان التي سيطرَ على أراضيها للانضمام إليه. وهو لمْ يكن ليفعلَ ذلك، لو لمْ يحظى بدعمٍ من قوى كبرى تؤمّنُ له المال وتيسّر حصولَه على موارد لإدامة زخمِه وإمداد أفعالِه وأنشطتِه لأمدٍ غير معروف. وهذا ما تعبّرُ عنه تصريحات وتسريبات لزعامات دولية في أميركا والغرب، من احتمالية توسّع “دولة الخ*لافة” بل “الخرافة” وامتدادِها لسنواتٍ قادمة، ما يعني عدم وجود النية الصادقة للقضاء عليها في واقع الحال.
يبقى الهدف من قدوم “د*اع*ش” واستيلائِه على مناطق تواجد أتباع الأقليات، لاسيّما في نينوى ومناطق السهل، وتهجيرِهم بهذه السرعة الفائقة مثار استغراب الكثيرين، ويطرحُ العديدَ من التساؤلات.فبعدَ انسحاب الجيش والشرطة تباعًا وخيانتهم للأمانة بحماية الشعب والوطن، عمدت قواتُ البيشمركة الكردية، هي الأخرى، إلى ذات الفعل المتخاذل بالرغم من الوعود التي كانت قطعتها للمراجع الدّينية العليا والوجهاء والأتباع والأدوات في المنطقة، بحمايتهم حتى النفَس الأخير. والحقيقة المرّة، أنّه قد تمّ استغلال أتباع الأقليات أبشعَ استغلالٍ من قبل كلّ هؤلاء، سواء في الحكومة الاتحادية أو من الإقليم، وجرى بيعُهم بصفقة سياسية مشبوهة وبرخص التراب، للتنظيم المسلّح الذي مارسَ لعبتَه التكفيرية بحقّهم وصادرَ أملاكَهم وأعملَ فيهم الق*ت*لَ والذبح واختطفَ نساءَهم وبناتِهم وباعَ منهنّ في سوق النخاسة وتزوّجَ ونكحَ ما حلى له وطابَ أمام أنظار المجتمع المتفرّج. فهل يُعقل أنّ أميركا والغرب بالتقنيات الحديثة وطائرات المراقبة غيرُ قادرين على رصد تحرّكات هذا التنظيم وتجمّعاتِه وإيقاف شرورِه عبر غارات جدّية ومتواصلة وقاضية؟ ألمْ يكونوا هم مَن رصدوا الزرقاوي وبن لادن وأخيرًا أبا سيّاف وغيرَهم عندما يقرّرون ذلك وتقتضي الحاجة؟
ونظرًا للنتائج المترتبة على هذه الحال، وتشتّت أبناء أقليات السهل في أرض الله الواسعة ومعاناة العديد منهم من شظف العيش ومن أبسط الخدمات الإنسانية، فقد رقَّ لهم قلبُ ذوي النيات الطيبة وأدركوا أنّ فراغَ البلاد والمنطقة منهم سيكونَ وبالاً على الأجيال اللاحقة وعارًا على الدول والبلدان التي سمحت بهذا الفعل الشنيع. فهؤلاء الأثمة المتاجرون بمصائر الأقليات ومآسي شعوبِهم، سيلعنهُم التاريخ، وفي مقدّمتهم أميركا الخاسئة وأتباعُها
من دول الغرب التي أذعنت وصغرت لقرار دولة القطب الواحد. والقادم من الأيام مازالَ غامضًا، طالما لم يُفصح عنه في سياسة زعماء العالم. فما بدرَ خجلاً من دموع التماسيح، لم يأتي بثمارِه المرتقبة. وهناك الكثير من المفاجئات في انتظارِنا!
 
المواطنة واحترام التنوّع صمّامُ الأمان!
إنَّ إشكالية الكثير من العراقيين اليوم، تنصبُّ في سمة النفاق، التي طالتْهُم ولصقتْ بهم. وهي ذاتُها، ما تزالُ ترافقُهم، بالرغم من إدراكِهم لمساوئِها وتأثيراتِها وانسحاب ذلك على حياتِهم الفردية والمجتمعية على السواء. فالذي يجاري قوى الشرّ ويؤازر الظلم وأهلَه ويسكتُ عن مواقع الخلل ويتظاهرُ بالسلوك المتديّن وبالانتماء الدينيّ والمذهبيّ الذي ظاهرُه صادقٌ وباطنُه غيرُ ذلك، يستحقّ أنْ يُعلّقَ في رقبتِه حجرُ الرحى ويُلقى في ماء البحر طعامًا للسمك.
لقد اخذت الطائفية الدينية والسياسية والمذهبية بعدًا آخر في حياة العراقيين، بحيث أصبحت تشكلّ اشكاليةً وليسَ مشكلة فحسب، بسبب رفض تقبّل الآخر المختلف في هذه وتلك. فالذي لا يقبلُ بالمختلف معهَ دينًا ومذهبًا وعرقًا ولغةً، شريكًا مساويًا له في الحقوق والواجبات وفي السلطة والثروات، لا يمكن أنْ يكون عادلاً في قياساتِه وفي معاييرِه الخاطئة والقاصرة التي لا تخدمُ المصلحة العامة ولا تساهمُ في البناء والتنمية والتطوير والتنوير. وعندما تصل المشكلة إلى مستوى عالٍ من الإخفاق في احترام الآخر المختلف وقبولِه كما هو عليه في واقعِه، وليسَ كما يريدُه المقابل، فهذه أيضًا إشكاليّة مضافة لأبناء الوطن الواحد. وهذه الأخيرة، في حالة تعزيزِها وعدم معالجتِها ستتحول إلى أزمة قابلة التفاقم في حالة استحالة التفاهم بين الأطراف المتناقضة بسبب الاختلاف على الأسس المشار إليها في أعلاه. والأزمة بدورِها، حين تتغلغلُ في كلّ شيء وفي كلّ حركة وكلّ خطوة، فهذا يعني تحوّلَها إلى ظاهرة سلبية يصعبُ مع الزمن علاجُها، إلاّ بإرادة فولاذية في الطَّرق على الحديد الحارّ والكيّ السريع، وهو آخرُ الدواء! ولكنْ، مَن القادر على استخدام هذه اللغة الشجاعة الأخيرة في ظلّ الصراع القائم بين السياسيين الذين لم يرتقوا لمستوى الأمانة التي يعهدُها إليهم الشعب البائس المغلوب على أمرِه، في كلّ مرةٍ يتقرّبون من صناديق الاقتراع، وفي كلّ مرة يخيب أملُهم وتذهبُ أحلامُهم أدراجَ الرياح؟
إنَّ المصالحَ الطائفية والقومية والعنصرية التي تحرَكُ إرادات وتصورات وتطلعات الساسة في العراق، هي التي تقوّضٌ المشروعَ الوطنيّ الذي تدعو له النخبُ الوطنية والثقافية والتكنوقراط في الوطن. ولا يشذُّ عن هذه المطالب الوطنية، سوى الطبقة السياسية اللاّهثة وراء المال والجاه والسلطة ومَن يواليها من المنتفعين الطارئين، بشتى الوسائل الشرعية وغير الشرعية، وكأنَّ الوطنَ طريدةٌ تجمّعتْ حواليها نسورٌ كاسرة لتشذيبِها من كلِّ قطعةِ لحمٍ قائمة، تمامًا كما القصّابُ يفعلُ فعلتَه في الذبيحة. وها هي ذي البلاد خائرةَ القوى، منهكة الاقتصاد، مدينةٌ لدول وشركات ومنظمات وأفراد، بالرغم من طفوِها على
بحيرات من الذهب الأسود وغيره من المعادن التي يقلّ تواجدُها في بلدان أخرى، فيما ميزانيتُها فارغة بفعل السياسات الاقتصادية الخاطئة والصرف العشوائي للأموال من دون حساب أو رقابة.
إنَّ عدمَ الحرص الصادق وتقاطع المصالح بين الفرقاء واختلاف الرؤى السياسية والأيديولوجية وفي الدّين والمذهب والقومية وعدم الاعتراف بالتنوّع الخلاّق في تشكيلة المواطنة، قد جرّد البلدَ من مقوّمات هذه الأخيرة وعدم سيادة القانون، بسبب اختفاء مؤسسات الدولة، التي هي عمادُ الأمةّ وأساسُ بناءِ الوطن وتطوّره والارتقاء به إلى مصاف العالم المتحضّر. ولا شيءَ غيرُ مبدأ الولاء للوطن والمواطنة، سبيلاً وخلاصًا لتلافي هذه الإشكالية وإنقاذ البلاد والعباد من وطأةِ القهر والظلم والفساد وغياب القانون وعدم قيام دستور وطنيّ عادل يضمنُ لكلّ مواطن حقَّه الوطنيّ ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وليسَ على أساس الولاء للحزب والانتماء للدين والمذهب والطائفة، كما هي عليه الحال في حكومات ما بعد 2003. فالحكومات المتعاقبة منذ السقوط الدراماتيكي بفعل الغازي الأمريكي وأعوانٍهِ في المنطقة، لعبت جميعُها على الوتر القوميّ والطائفي، بدرجة أو بأخرى، وبإيعازٍ من قوى الغزو الغاشمة التي يسّرت وهيّأتْ لهذا النموذج في الحكم في المنطقة، بسبب قصر نظر الطبقة السياسية مزدوجة الجنسية التي تسلّطتْ على البلاد بحماية ورعاية أمريكية. وهذه الطبقة السياسية عينُها عبر أحزابِها القومية والدينية والطائفية وغير الوطنية، ما تزالُ تتحكمُ بمصير البلاد هزيلة البنية في مؤسساتِها، وتتقاذفُ مستقبلَ العباد ولاسيّما الأقليات المهمَّشة، وتنظرُ لهذه الأخيرة بذات النظرة الدونيّة وذات الرؤية القاصرة الخالية من روح المواطنة والولاء للوطن أولاً وآخرًا.
وفي الأفق، ماتزالُ ذات الأفكار الطائفية والقومية القاصرة في الانتماء والسلوك، تتغذّى وتُهيّج وتُثار كلّما لاحَ شبحُ أملٍ جديد باستعادة الهوية الوطنية الجامعة، بدلَ الهويات الفرعية الهزيلة التي لا تخدمُ المصلحة العامة للدولة والمواطن على السواء.ولا شيءَ سوى، المواطنة والولاء للوطن مبدأً في الحياة، واحترام التنوّع القائم تاريخيًا، هي التي تثبتُ أنها صمّامُ أمانٍ لمعضلة العراقيين وإشكاليتِهم. وعندما يتخلّى ساسةُ العراق وزعماؤُه عن أنانياتِهم الجشعة فقط، ويتركون صراعاتِهم القاتمة، وينزعون للفكر الوطنيّ الجمعيّ الذي يبني ولا يدمّر، ويوحّد ولا يفرّق، ويجمع ولا يُجزِّئ، حينذاكَ سينتعش البلد وتقوى عناصرُ الأمّة، ويستعيدُ الجميعُ عافيتَهم بفضل استعادة عافية الوطن ووقوفِه جبلاً شامخًا أمامَ تحديات العصر وأعداء الحضارة والإنسانية وكارهي الحياة ومحبي ثقافة الموت ونزوة النفاق.
 
لويس إقليمس
بغداد، في 20 أيار 2015..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!