مقالات

عقد في جَوْفِ الجحيم البيروقراطي والدهاليز الورقية المتعفنة

بعد أنْ قضيتُ عَقْدًا زمنيّاً في هذا المَكَان المُوحِش المُسَمَّى “الدائرة الحكومية الفلانية”، حيثُ كان العقدُ الواحدُ يُعادِلُ ألفَ سَنةٍ بِحِساب الزمنِ الإنساني، لِشِدَّةِ بُؤسِ المَكَانِ وحَقارةِ سُكّانه… ؛ كان الجميعُ هُناكَ أشبَهَ بِأشباحٍ تائهةٍ في جحيمِ دانتي، حتَّى أفضَلُهُم كانَ كحارِسٍ لِعالمِ العذابِ، يَحمِلُ سِجلّاتِهِ المُتعفِّنةَ وقَسوتَهُ المُمَنهَجةَ كَسِلسلةٍ لا تنتهي… ؛  نعم هنا يَتَسَاقَطُ الوَقتُ كَرَمَادٍ مِن سَاعَةٍ مَكسورَة، لِأَنَّ السَّنَواتِ العَشرَ هُنا تَزْحَفُ كَأَلْفِ عَامٍ تَعْصُرُهُم أَشْبَاحُ الرُّوتِين… ؛ فَكُلُّ شَيءٍ يَتَنَفَّسُ بُؤساً: الجُدرَانُ تَبْكِي طِيناً أَسْوَد، الزُّملَاءُ يَتَحَرَّكُونَ كَدمَى مَشْدودَةٍ بِخُيُوطِ الحَقَارَة والنذالة ، حَتَّى أَرْقَى  الموظفين يَبدو كَحَاجب للمدير العام ينقل اليه الاخبار كما تفعل الجواسيس ، و يَرْصُدُ أَحْلامَ الغَيرِ وَيَدُقُّهَا بِمِطْرَقَةِ الفَرَاغ… , ويَجلِدُ الوَقتَ بِسِياطِ الأوراقِ المُتعفِّنة… , و كُلُّ مَن هُنا يَتَشبَّثُ بِوهمِ السُّلطةِ والنفوذ …  ؛  كُنتُ أَسْحَبُ أَيَّامِي كَسَائِحٍ فِي صَحْرَاءِ المَلَل، حَيثُ اللَّحَظَةُ تَتَحَوَّلُ إلَى جَبَل، وَالسَّاعَةُ إلَى قَبْر… ؛ وأمشي كالمجنون  الذي يَرصُدُ دَرَجاتِ انِهيارِ السَّاعةِ والعقل والقيم ، فَاليَومُ هُنا أبطَأُ مِن صُراخِ حَجَرٍ يَغوصُ في وَحلِ الأبديّة ؛ حيث  كانت الأيامُ تَزحفُ بِثِقلٍ يُذكِّرُ بِسَاعاتِ الإعدامِ البطيء، أو كَأيّامِ الجُوعِ القاسي الذي يَلتَهِمُ الأحشاءَ قَبلَ العِظام… ؛  حتّى أذِنَ القَدَرُ أخيراً بانفِكاكي مِن هذا القَبْوِ المَسحور والمسكون بالأرواح الشريرة والتائهة معا … , وَاتَتْ لَحْظَةُ الخَلَاصِ كَصَدْمَةٍ مُبَاغِتَة، فَأَدْرَكْتُ أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ تَوَقَّفَتْ … ، فَرفَعتُ رَأسي مُحاوِلاً أنْ أُلقيَ نَظرةً وَداعيّةً عَلَى أرجاءِ المَكَانِ الكَئيبة… ؛  فَإِذا بِي أُديرُ بَصَري مُجبراً عَلَى تَتبُّعِ الجُدرانِ المُتشقِّقةِ التي تَئِنُّ كَأشلاءٍ حَيّة، وأَعودُ بِالنَّظَرِ مَرَّاتٍ كَأنَّني أَبحثُ عَن شَيءٍ ضائعٍ في لَيلٍ مُظلِم، حتَّى عادَ البَصَرُ إلَيَّ وَهُوَ حسير و يُنْذِرُ بِالإعْياء. 

ضَغَطتُ عَلَى ذاكرتي كَمنْ يَعصِرُ صَخرةً لِيُخرِجَ ماءً، راجِياً لَمسةً مِن نورٍ تُذكِّرني بِجَمالٍ مَا في هَذا العالَمِ البائس… ؛ وحَفَرْتُ فِي أَعْمَاقِ ذِكْرَيَاتِي كَمُتَسَوِّلٍ يَبْحَثُ عَنْ لُقْمَةِ ضَوءٍ بَينَ النِّفَايَات ؛  لَكِنْ لَم تُجِبْني الذّاكرةُ إلّا بِأمْرَين : الأوَّلُ كِتابٌ صَغيرٌ كُنتُ أَخبئُهُ بَينَ أوراقِ المَلفّاتِ، أقرَأُهُ خِلسةً كَمنْ يَتَنفَّسُ سَرّاً في قَلبِ المُستنقَع الاسن بكل القاذورات العنصرية والمناطقية والحزبية … ؛  والامر الثّاني شَخصانِ… ؛ نَادرانِ كَالنَّجمَةِ  المضيئة في لَيلِ الصَّحراءِ البهيم ، ملئا هَذا الجَحيمَ بِكَرَمِ الأَنبياءِ وَلُطفِ الأَطْفالِ، حامِلَينِ مِهَنِيَّتَهُما كَشُعلةٍ في يَدَيْ مُقاوِمٍ… ؛ فقد كانا يُذكِّرانني أَنَّ الإنسانيَّةَ لَم تَمُتْ بَعدُ، وأَنَّ الرُّوحَ العراقية الخالدة  قادرةٌ أَن تَتنفَّسَ حتّى تَحتَ أَثقالِ البيروقراطيّةِ الخانِقة… ؛ فقد  حَمَلا مِرارَةَ الجَحيمِ بِكَرَمٍ يَشُقُّ السَّماءَ وصبر تعجز عنه الجبال الرواسي ، فَكُنتُ أَراهُما كَجَناحَينِ يَحمِلانِ رُوحي بَينَ زَفراتِ المرضى المصابين بداء التدرن … ؛  أَشهَدُ أَنَّهُما مَسَحا عَن عَينيَّ غُبارَ اليَأسِ، وَوَضَعا قِناعاً مِن أَمَلٍ عَلَى وَجهِ العَمَلِ المَيت وبيئة الامراض المعدية وحاضنة العقد المستعصية … .

اليومَ، بَعدَ أَن رَأيتُ أَحَدَهُما يَغُوصُ في تُرابِ المَنونِ ؛ اذ صارَ جُثّةً تَحتَ تُرابِ الزَّمنِ القاسي ؛ بعد ان كان كالكوكب الدري الذي ينير لي ممرات ودهاليز الدائرة … ؛ قَرَأتُ الفاتِحَةَ كَخَيطِ نُورٍ آخِرَ يَربِطُني بِذِكراه ؛ ثُمَّ دَعَوتُ لِلآخَرِ الذي لا زال قابعا في المكان  بِأَلّا تَبتَلِعَهُ أَرْضُ البيروقراطيّة والرشوة ؛ وبالفكاك من هذا السجن الذي يقبض نفوس الاحرار كما يقبض عزرائيل ارواح العالمين … ؛ ثم هَرَبتُ مِنَ المَكَانِ كَهاربٍ مِن سَرابٍ يَلتَهِمُ الأرواح… ؛  لَم ألتفتْ… ؛  لَم أُحاولْ حتّى تَوديعَ الجُدرانِ… ؛  فَكَيفَ أُودِّعُ شَيئاً لَم يَكُنْ لي قَط؟

لَم أُفكر بنظرة وداع اخيرة لِهَذَا العَالَمِ المُنْتِفِخِ بِالكَرَاهِيَة والحسد والتنافس على اتفه الامور … ، فَكُلُّ شَيءٍ هُنا يَستَحِقُّ النِّسيان ؛ الا ان الذَّاكِرَةَ رَفَضَتْ أَنْ تَمْسَحَ عَنْ عَيْنَيَّ غُبَارَ القُبْح … ؛ ثم خَرَجتُ إلَى الشّارعِ العامِّ أعدو بِلا وَجْهةٍ، كَأنَّني أَفِرُّ مِن مَوجةِ طَوفانٍ أَو قَطيعِ ذِئابٍ تَنهشُ ظِلالَ الماضي…؛ نعم خَرَجْتُ إلَى الشَّارِعِ أَرْكُضُ كَمَنْ يَجُرُّ خَلْفَهُ أَشْلَاءَ عَقْدٍ مَيِّت، وَأَسْمَعُ صَخَبَ الضِّبَاعِ تُنَادِي بِاسْمِي مِنْ خِلَالِ شَبَابِيكَ المَكْتَبِ المُغَبَّرَة …  ؛ ولَمْ أُوَلِّ وِجْهِي لِلْوَرَاء، فَالوَرَاءُ هُنا لَيْسَ إلَّا كُتلةً مِنَ الظِّلالِ تَبْكِي نَفْسَهَا … ؛  أَركُضُ كَهارِبٍ مِن وَهمٍ يَلحَسُ أَطرافَ الوُجود، أَتخيّلُ أَنَّ أَصواتَ الزّملاءِ تَنهشُ ظَهري كَضِباعٍ تَتَنادى بِأَسماءِ المَلفّاتِ والمعاملات … ؛ نعم رَكَضْتُ نَحوَ الشَّارِعِ العَامِّ أَحْمِلُ رُوحي عَلَى كَفَّيَّ، كَأَنَّنِي أَهْرُبُ مِنْ كَائِنٍ فُضَائحِيٍّ هجين يَلْتَهِمُ أَصْوَاتَ المَاضِي وَيَبْصُقُهَا سِرَاباً وفيروسا ونارا … .

 

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!