مقالات دينية

شربل أنسان سكران في الله … وفاة وميلاد

الكاتب: مشرف المنتدى الديني

هذا الحبيس في قداسه الأخير. نحن في السادس عشر من كانون الأول، عام 1898، الساعة الحادية عشرة. شربل، باعوامه السبعين، جاثٍ في الكنيسة منذ ساعات . ها هو ينهض مرتعشاً من صقيع. ريح الكوانين تعصف، والهواء يقذف الزمهرير من نافذة المحبسة وبابيها الخاويين. أعضاء الحبيس ترتجف حتى العظام، يهمّ بارتداء حلة القداس، غارقاً في صلاته العقلية.
إلى المذبح يصعد كما المسيح إلى الجلجلة. عقله وقلبه وحواسه، كل كيانه يغمره شعور أحد : الفداء بالصليب، الفداء الذي يُسهم فيه بسر القداس. في مدى عينيه وملء روحه فكرة أنضجتها أربعون سنةً في الكهنوت: ذبيحة الجلجلة تتجدد، تستمر، تتمدد في ذبيحة القداس، فتشمل جميع اعضاء الكنيس

ة في كل زمان ومكان.
سيشترك، مرة أخرى، اشتراكاً فعالاً، حياً، في عمل المسيح الفدائي. يصعد بقلب مضطرم لكي يموت سرياً – وفعلياً هذه المرة – مع المسيح القربان. عند التقديس، يمسك خبزَ التقدمة بصعوبة لشدة الصقيع ينهش جسمه. وفجأة يشعر بجسده يتجمد حتى مفرق الروح والعظام. لاحظ رفيقه، الاب مكاريوس، عجزه عن إكمال قداسه، فأعانه على ترك المذبح ليرتاح قليلاً. انها السقطة الأولى على طريق الجلجلة ! بعدها بقليل، يعود الحبيس إلى المذبح ويتابع القداس. يلفظ الكلام الجوهري، ويبلغ إلى رفعة الاسرار الأولى. رفع الكأس يعلوه القربان وهو يتلو: يا ابا الحق…” لكن الداء يعتريه مجدداً بقوة فيعجزه عن المتابعة. لبث كأنه مسمرّ في جموده، معلقاً عينيه باسرار الفادي. تقدم الاب مكاريوس محاولاً نزعَ الكأس والقربان من يديه، فتكمشنا بهما. “تركلي الكاس، عطيني القربان”، قال الاب مكاريوس.
بذل جهده لأخذها وانزاله عن المذبح واقتياده إلى قليته. هذه سقطة أخرى تحت الصليب: لقد أصيب الحبيس بالفالج.

ها هو، طيلة ثمانية أيام، يقاسي آلام الاحتضار هادئاً، ساكناً، على الرغم من الاوجاع. لكأنه احتضار يسوع على الصليب : أحضر له حساء معدٌ “بسمن” لتقويته، ما ان شمَّ رائحة هذه المادة التي حرم نفسه منها طول حياته الرهبانية، حتى ردَّ القصعة بلطف: أراد ان يظل أميناً لقانونه حتى الموت.
في نزاعه، لم يبرح، ما دام قادراً على تحريك شفتيه ولسانه، يتابع قداسه. “أما الروح فمستعد، واما الجسد فضعيف” (مر، 14، 38). لأنهه يردد الصلاة التي لم يستطع ان يكملها في القداس:”يا ابا الحق، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك!…” عن أية ذبيحة يعبر الكلام؟ ذبيحة المسيحح مصلوباً، أم ذبيحة شربل منازعاً؟ ليس بالحقيقة سوى ذبيحة واحدة هي ذبيحة يسوع مائتاً على الصليب!…
آلام البشر عبر جميع الاجيال لا معنى لها إلا باتحادها بهذه الذبيحة. ساعة يحتضر الحبيس المطيع، الفقير، العفيف، في عمق حبه للمسيح المصلوب، شائلاً بالدنيا، حقباً واصقاعاً، نهوضاً صوبَ الآب، تتحد الذبيحتان في فعل حبٍ واحد يهيب بالخليقة، أرضاً وسماء، إلى نشيد كوني يتعالى مستجيراً بالذي لا قبله قبل، ولا بعده بعد: هوذا التقدمة، هذا ابنك الحبيب، يا ابا الحق!…”
مع هذه الكلمات مضافاً إليها اسمُ يسوع ومريم ويوسف، وبطرس وبولس، شفيعي محبسة عنايا، طارت روح شربل، حرة، طليقة، عائدة إلى ديار الآب كعودة قطرة الندى إلى الخضم الاوسع. كان ذلك، عشية عيد الميلاد، في الرابع والعشرين من كانون الاول، عام 1898.
عن ضفاف نهر الزمان، تعالت نغمة فريدة. انضمت إلى نشيد الملائكة يهتفون:”المجد لله في الاعالي” ويبشرون:” لقد ولد لكم مخلص!…”.
نشيد نصف الليل في اعماقه، ليل الكوانين، ليلِ العواصف والثلوج، راح متعالياً يتباهى يقول: ان في ظلمتي سراً اعمق مما يظن النهار، سراً سيتجلى يوماً على الاشهاد فتلهج بعظائمه الدنيا.
وانبرى التاريخ يسطر وجه شبه جديداً بين طفل المذود وحبيس عنايا: سيكون لكليهما ميلاده في اليوم بالذات: ميلاد يسوع على الارض وميلاد شربل في السماء.
ميتة رائعة على تواضعها، سماوية على جُلجلتها، يغار منها الملائكة لو كانوا يموتون…

الأب بولس ظاهر

يمكنك مشاهدة المقال على منتدى مانكيش من هنا

 

 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!