مقالات عامة

حرب الأيقونات

حرب الأيقونات

بقلم / وردا إسحاق قلّو

حرب الأيقونات

 الله حول أرضنا الخربة  إلى أيقونة جميلة تحدث لنا عن مجده وقدرته السرمدية ، والإنسان الذي خلقه على صورته كمثاله وجعله مسكناً لروحه القدوس فبإستطاعة أيضاً أن يترجم ويصور الأحداث والأشياء المنظورة واللامنظورة في أيقونات تشع منها روح الجمال الإلهي . فما هي الأيقونة ، وما هي أهميتها في الإيمان المسيحي ؟  

أولاً نبحث عن معنى الأيقونة والغاية منها . الأيقونة فن من الفنون المقدسة ، يُعَبّر فيها الفنان بالخطوط والألوان بعد تأمله العميق بموضوع الأيقونة مستخدماً إلهامه الإيماني لكي يلتمس قوة روحية تجمع أفكاره وطاقاته الفنية لكي تخرج الأيقونة من مرسمه حاملة فناً تصويرياً متقناً وجميلاً تُعبرعن الهدف الذي رسمت من أجله ، فالوجه الذي يرسم في الأيقونة ، ليس فيه لحم ترابي ، بل هو وجه متجل يحمل سمات الأبدية . وجه مروحَن ، أي تحول إلى أثير وشفافية كأنه حامل الألوهية نافضاً عنه كل بقايا اللحم والدم ، وداخلاًفي المجد السرمدي . لذلك وضعت الكنيسة أسساً واضحة لأصول هذا الفن ومبادئه.

   كل الفنون الصوفية هي أعمال فنية تعبّر عن أهداف مقدسة يحدد من خلالها الجانب اللاهوتي بالرسم أو النحت أو الفسيفساء . فبالرسم يتمم الفنان بمقدرته التصويرية ما مكتوب في الكتب المقدسة ، أو يخدم الكلمة بإسلوب آخر . فرسم الأيقونة هو شهادة ذات أهمية كبرى يعود تاريخها إلى بداية المسيحية . فأقدم وثيقة تاريخية تثبت أن البشير لوقا هو أول من رسم العذراء مريم وهي لا تزال بعد على الأرض وقد باركتها والدة الإله نفسها تثبيتاَ لقولها ( ها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال ، لأن القدير صنع بي عظائم ) ” لو 48:1 ” نقلت تلك الأيقونة من أورشليم إلى القسطنطينية .

    إنتشرت المسيحية في مختلف أنحاء الأمبراطورية الرومانية ، وسرعان ما رافق إنتشارها إضطهادات قاسية فتوارى الرسم لتظهر رموز بشكل رسوم ونقوش على بعض الأواني والجدران وعلى القبور . من أشهر تلك الرموز السمكة التي تكون حروفها الخمسة اليونانية الحروف الأولى من كلمة يسوع المسيح . وأستمر الإضطهاد إلى أن إنتصرت الدولة مع قسطنطين الكبير في أوائل القرن الرابع ، حينئذ إزدهر الفن وشيدت الكنائس وزينت جدرانها بالنقوش والفسيفساء وكأنها مطلية بصفحات الكتاب المقدس بعهديه ، أي كتاب مصور .

   بدأ الرهبان يرسمون الأيقونات ، وبقيت الحالة في الإزدهارالفني الجميل ، ولكن رافقه مشاكل عقائدية . برز أباطرة معادين للفن فساهموا في محاربة الأيقونات داخل الكنائس ، فتسرب النزاع إلى صميمها بين مدافع ومعاد . قامت حرب ضد الأيقونات في القرن الثامن الميلادي من سنة 726 في أيام الإمبراطور ليو الثالث فظهر مرسوم رسمي بموقف صريح ضد الرسم الكنسي ، فرمى بذور حرب دامية عصفت بالكنيسة ، وإضطهد القديسون المدافعون عن الإيمان القويم ، كان آنذاك يوحنا الدمشقي وزيراً في بلاط الخليفة في بلاد الشام ، فما أن أطلَّعَ على المرسوم ختى إعترض بقوة على هذا القرار الظالم مُعَبّراً عن رأيه بجهارة وجرأة ومدافعاً عن الأيقونة بكل جوارحه مما أثار غضب الإمبراطور وغيظهِ فوجد طريقة لكي ينتقم منه . فوشي بهِ عند الخليفة وأرسل موفداً من قبلهِ لكي يقنعهُ بخيانة يوحنا في البلاط . فغضب الخليفة جداً وأراد أن يعطي يوحنا درساً قاسياً جزاء خيانته ، فأمر بقطع يد يوحنا اليمنى عند المعصم تعبيراً عن إستيائهِ ! لكن قصاصه لم يحل المشكلة ، بل عزم يوحنا على الصلاة فأمضى ليلته أمام أيقونة مريم متوسلاً بالدموع والتضرع إلى أن حصلت المعجزة عند الصباح وإلتصقت اليد بالزند وشُفيَّت .  إعتزل يوحنا الإدارة وقرر الدخول إلى رهبنة دير القديس سابا في الأراضي المقدسة . واللافت إنه بعد هذه الحادثة ظهر نموذج جديد لأيقونة السيدة يحمل يداً ثالثة مضاف إلى يدي العذراء وسميت تلك الأيقونة ( ذات الأيدي الثلاث ) تحمل ذكرى المعجزة .

  إستمرت حرب الأيقونات لمدة مئة سنة تقريباً أحرقت بفعلها أجمل اللوحات وضاع خلال ثورة تحطيم الأيقونات بين القرنين السابع والثامن . تكون لاهوت الصورة من قبل مفكرين كبار كنيفوروس ويوحنا الدمشقي وثيودورس السطوديتي على أساس واقعية التجسد والإتفاق والمطابقة بين الصورة والمصور بها ، وكان للوغس بتواضعه حضوراً سرياً حقيقياً في الأيقونة . وضع جرماتيس القسطنطيني عام ( 733 ) تفسيراً في الطقس ، وهو التفسير الطقسي الأول طبق فيه التدبير الخلاصي ، بالخصوص مراحل حياة المسيح التاريخية على الرتب الطقسية كأنها تمثلها مرة ثانية ، وقدم الصورة والكلمة كوسيطتي للخلاص .

   في مجمع القسطنطينية المنعقد سنة 842 برز موقف الكنيسة الصريح وعقيدتها القويمة ، بالنسبة إلى الرسوم الكنسية وشرعية تكريمها . إلتأم المجمع السابع هذا ليضع حداً للعلصفة الهوجاء التي هبت على العالم البيزنطي في تلك الفترة وكان تعبيراً عن عراك سياسي ذي طابع ديني أدى في أغلب الأحيان إلى معارك دموية . كانت تلك الهرطقة تهدف إلى محاربة الأيقونات وإبادتها مستترة خلف حجاب الغيرة على الكنيسة مدعية أن تكريم الأيقونة له طابع وثني ، وإنه يطعن بعقيدة الطبيعتين في شخص المسيح ، أما في الواقع فكانت تنوي مهاجمة الكنيسة وزعزعتها من أسسها ، أي لا لمهاجمة الأيقونة بحد ذاتها فحسب . كتب يوحنا الدمشقي إلى الأمبراطورليون الثالث ، وقال ( إنك لا تحارب الأيقونات ، بل تحارب القديسين أنفسهم ) لذلك كان ينقد من أراد تحطيم الصور المقدسة مشدداًمن أن كل من ينكر تجسد المسيح وسر الفداء ، وإن كل من لا يكرم صورة المسيح ووالدته وقديسيه يعتبر عدواً لله وعميلاً لأبليس وشياطينه . أشتدت الأزمة في عهد الأمبراطور قسطنطين الخامس الذي حرم على الشعب تكريم العذراء القديسين ، فطافت في القسطنطينية جماهير بقيادة الأمبراطورة ثيودورا نفسها في آذار (843) مسبحين الضابط الكل ومرنمين أناشيد الشكر . ومن مقتطفات التقارير التي دونها المجمع المقدس ، ما يلي :

( يجب أن توضع الصور المقدسة في الكنيسة .. وفي البيوت ، وعلى الطرقات .. سواء كانت لمخلصنا وفادينا يسوع المسيح ، أو لسيدتنا الفائقة الطهلرة أم الإله ز أو للملائكة القديسيسن أو للقديسين الموقرين وآباء الكنيسة . لأننا كلما تأملنا أيقونة ، نشعر بقوة تحثنا على تكريم من ترمز إليهِ وتذكرنا بالنموذج الأصلي الذي حسب إيماننا … إلخ ) وأرتفعت منذ ذلك الحين الأيقونات في الكنائس ، للتأكيد على أن تكريم الأيقونات عقيدة إيمانية ، وإن السجود لها إنما يجوز إلى عنصرها الأول .

وفي القرن السادس عشر ظهرت البروتستانتية فبرزت حرب أخرى شرسة ضد الأيقونات فتم تدمير آلاف الأيقونات في الكنائس والأديرة التي أستولوا عليها أتباع لوثر، وأعتبروا الأيقونات من بقايا الوثنية ، فجعلوا جدران كنائسهم جرداء كمعابد اليهود ولحد اليوم . كانوا وما يزالوا يلومون من يكرم أيقونة أو يقبلها ويوقد الشموع أمامها كما يفعل المؤمنون في الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية مفسرين بعض آيات العهد القديم حرفياً دون التأكد من الغاية التي قيلت من أجلها  ، وما هي الآيات الأخرى في الكتاب المقدس التي تكمل معناها ونحن ندرك في وصية الله الروح وليس الحرف . والهدف واضح من تلك الآيات وهو قول الرب ( لا تسجد لهن ولا تعبدهن ) ورد الكنائس الرسولية عليهم هو : إننا لا نرسم أيقونة أو ننحت تمثالاً لنعبدها ، وإنما لنكرم من موجود فيها ، وبحسب قول الرب يسوع لتلاميذه الأطهار ( من أراد أن يخدمني ، فليتبعني ، وحيث أكون أنا يكون خادمي . ومن خدمني أكرمه أبي ) ” يو 26:12 ” فإن كان الآب يكرم قديسيه ، ألا نكرمهم نحن ؟ !

 والمجد لله في كل الدهور    

 المصادر

  • الكتاب المقدس
  • الكنيسة عبر التاريخ / الأب د. منصور المخلصي
  • الأيقونة شرح وتأمل / أيما غريب خوري
  • فن الأيقونة – لاهوت الجمال / القمص بيشوي الأنطوني
  • كتاب اللاهوت المقارن (1) / البابا شنودة الثالث

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!