مقالات دينية

تدبير الله الخلاصي في طقس كنيسة المشرق الكلدانية

سامي خنجرو

ان الكنيسة عموما تطلب من مؤمنيها أن يستغلـّوا الايام ويسهروا الليالي لتمجيد الله، لتحقيق خلاصهم وذلك عبر صلاة التسبيح التي يرفعونها ليل نهار. وان اباء كنيستنا المشرقية قد رتـّبوا الاعياد والمواسم الطقسية احياءاً لذكرى عمل يسوع الخلاصي. وهذه الممارسات الطقسية تشدّنا الى الله الذي افتقدنا بواسطة تأنس المسيح الاله المخلـّص.

ان المسيح يحقـّق حضوره الدائم معنا، من خلال الاحتفالات الطقسية التي نقوم بها على مدار السنة، تخليداً لذكرى الاحداث التي عاشها على الارض. لقد قام البطريرك ايشوعياب 3 الحديابي (649-659)م بتنظيم السنة الطقسية لكنيسة المشرق الكلدانية. فوزّع مراحل تدبير الخلاص عبر مواسم السنة، وقسّمها الى سبعة أزمنة، يحتوي كل منها على سبعة أسابيع (الصلاة الطقسية موضوعة مبدئياً لسبعة اسابيع لكل زمن، لكن عدد الاسابيع لبعض الازمنة تقلّ عن ذلك حسب وقوع عيد القيامة الذي يعتمد بدوره على الاعتدال الربيعي في تلك السنة)، مضافاً اليها زمنين آخرين، الاول في بداية السنة الطقسية والثاني في نهايتها، ويحتوي كل منهما على أربعة أسابيع.

1. زمن البشارة: وهو أول الازمنة في السنة الطقسية الكلدانية، ويشتمل على أربعة أسابيع. يهدف الى تهيئة المؤمنين للاحتفال بذكرى ميلاد يسوع المسيح. وتـُقدِّمُ الصلوات التي نتلوها في هذا الزمن الى التأمّل في سر التجسّد، واتحاد الله الكلمة بالطبيعة البشرية، والحبل العجائبي، ودور العذراء مريم في سر التجسّد. واليكم هذه الترنيمة الرائعة مترجمة من كتاب الحوذرا: (انحدر الكائن الاسمى من الكل بدافع حبّه، ليرفع المتواضعين الى اسمه المجيد، والانسان الى المنزلة الالهية، ليفتح له خزائن حكمته، فيغـْتني منها ويوزّعها، ويفرح دون همْ، ويملك دون خوف). فترة الميلاد: ان فكرة عيد الميلاد أتى من الرومان الذين كانوا يحتفلون بعيد ميلاد الشمس في 25 كانون الاول. واذ رأت الكنيسة في الشمس رمزاّ للمسيح المستنير ونور العالم، جعلت هذا اليوم عيد ميلاد المسيح. والترنيمة التالية والمترجمة من كتاب الحوذرا غنيّة بالمعاني الروحية: ( السر العظيم الذي كان مخفياً منذ الازل، كشف لنا في آخر الازمنة: الوحيد الكائن في حضن أبيه، أتى واتـّخذ شكل العبد بنعمته، وهو الذي أخبرنا وكشف لنا الايمان الكامل بالثالوث).

2. زمن الدنح: ان معنى عيد الدنح بأختصار،هو اشراقة وظهور المسيح للعالم مسيحاً والهاً. وعماذه من يوحنا في نهر الاردن تتويج لبنـوّته، ليبدأ رسالته التبشيرية الخلاصية. ان كنيستنا المشرقية كانت تحتفل بعيد الميلاد والدنح سوية في يوم 6 كانون الاول، أي في عيد الدنح، في القرون المسيحية الاولى، قبل ترتيب الازمنة الطقسية فيها، كما جاء في مقدّمة هذه المقالة. والترنيمة التالية من كتاب الحوذرا تخصّ هذا الموسم: (يا رب، ان عماذك الذي هو معين لنا، وبه يكتمل الايمان الحي، قد جرى في نهر الاردن على يد يوحنا المعمذان. ومهّد الطريق الى ملكوت السماء، امام كل المعمّذين، من خلال اعترافهم بالاقانيم الممجّدة لثالوثك المسجود له.

3. زمن الصوم الكبير: ان زمن الصوم هو استعداد للاحتفال بذكرى موت المسيح وقيامته المجيدة من الاموات. ويبدأ الصوم يوم الاثنين (المخصّص حسب الحساب التقويمي) ولمدة سبعة أسابيع. وحسب تقليد كنيسة المشرق، لايجوز الصيام أيام الاحاد. وبذلك تصبح مجموع أيام الصوم أربعين يوماً. والترتيلة التالية والمترجمة من كتاب الحوذرا، ترمز الى البهجة التي يستقبل بها المؤمن الصوم: (ها قد أتانا الصوم البهيّ مثل الملك. فليُزيّن كلّ منا نفسه كالمدينة التي تستقبل ملكها. لنُطهّر قلوبنا من الاثم، كما تُنظّف الازقّة. ولنجعل العقل الصافي مرشدا لافكارنا، كما الرئيس على الجماهير. ولنُظهـِر لأبصارنا جلياً، الكتب التي تعطينا المعرفة. ولنتضرّع الى الرب جميعا بالطهر والقداسة قائلين:ارحمنا).

4. زمن القيامة: ان القيامة هي اساس ايماننا، مثل ما يقول مار بولس: اذا المسيح لم يقم فايماننا باطل……..وعرف الرسل يسوع المسيح الهاً وربّاً بعد حدث القيامة، التي أزالت الشك من مخيّلتهم، فبدأوا بالبشارة الخلاصية في أرجاء المعمورة دون خوف. وهذه الترنيمة الجميلة من الحوذرا توضّح لنا نعمات قيامة المسيح الخلاصية لنا نحن البشر، لا بل حتى للخلائق كلـّها: (لقد تجدّدت الخليقة كلـّها بالمسيح، لانه مصدر الحياة الجديدة. بواسطته زال سلطان الموت، فأقام الموتى الذين أرضوا ارادته. هوذا الشيطان يتحسّر قائلاً: الويل لي لاني أصبحت اضحوكة لادم ونسله، فلقد جرّدني يسوع من سلطاني، وانتزع الملك من يدي، ووهب الحياة لابناء جنسه جميعاً)

5. زمن الرسل: ان أحد العنصرة (الفنطيقوسطي) هو بداية زمن الرسل، ويمكن اعتباره بداية ( تأسيس ) الكنيسة أيضاً. وفي هذا الاحد حلّ الروح القدس على الرسل على شكل ألسنة نارية، وأغدق عليهم نور المعرفة والشجاعة. فانطلقوا لكي يعلنوا بشرى الخلاص للمعمورة كلـّها. والترتيلة التالية من كتاب الحوذرا تستعرض مفاعيل الروح القدس: (انّ نعمة الروح القدس حلـّتْ على الرسل مثل ألسنة نارية، وأتتْ بالمعجزات على أيديهم، فصاروا لامعين بين الشعوب. ان هذه النعمة ذاتها استقرت على الشهداء والقديسين، وشجّعتـْهم لاقتحام لهيب النار، والاستخفاف بسيوف الحكـّام المُضطهـِدين).

6. زمن الصيف: ان الصلوات والتراتيل في زمن الصيف يغلب عليها طلب الغفران والتوبة. ويرفع المؤمنون الصلوات والأدعية طالبين الغفران من الله الحنـّان. وهذه الابيات مختارة من احدى التسابيح لصلاة جلسة الليل، قبل صلاة السهرة من كتاب الحوذرا: (أيّتها النفس التي غرقت في الاثم، قومي وتجدّدي بالتوبة، اصرخي من كل قلبك، معترفة بخطاياك، لِيغـْفر الصالح ذنوبك. أيّها الرجاء الذي نوّرَ حياتنا، ترحّمْ على النفس التي ضلـّت طريقك. لقد احتملتَ الام الصليب بدل الخطأة، فلا ترذلْـني لانّي واحد منهم. الشكر لك من الضالـّين، الذين وجدْتهم وأنقذتهم من الهلاك).

7. زمن ايليا/الصليب: نحتفل بعيد الصليب الظافر في 14 أيلول، ويرمز هذا الاحتفال الى مجيئ يسوع في اخر الايام ليدين الاحياء والاموات (الدينونة العامة). وحسب التقليد الكنسي، فانّ اباء الكنيسة الاولون واستناداً الى تفاسيرهم للكتب المقدسة، يعتقد ان النبي ايليا سيسبق مجيئ المسيج للمرة الثانية، ليحارب ابن الهلاك ويفضح أباطيله. لذا فان عيد الصليب يتبع الاحد الرابع من زمن ايليا. وهذه ترجمة لاحدى ردّات المزامير للاحد الثاني من ايليا: (لِتترحّمْ علينا رأفتك، يوم مجيئك يا مخلـّصنا وأنت محاطاً بمجد ملائكتك. حينئذٍ وباشارة منك، ينفصل الابرارعن الاشرار، ويرثُ الصالحون الخيرات).

8. زمن موسى: ان زمن موسى يشير الى عيد التجلـّي الذي يصادف في 6 اب. ان حادثة تجلي يسوع امام ثلاثة من الرسل، وهو محاطاً بايليا (ممثل الانبياء) وبموسى (واضع الشريعة الموسوية)، تؤكّد ان مهمة الانبياء والشريعة كانت تهيئة الشعب لمجيئ المسيح المنتظر. ان صلوات هذا الزمن تتحدّث عن الصليب وتأثيره في حياة المؤمنين، وتتّسم هذه الصلوات بطابع التوبة، لنصبح مستحقّين للدخول الى الخدر السماوي. وهذه ترجمة لابيات مختارة من قانون صلاة المجلس(ماوتوا) للاحد الاول من هذا الموسم: (يا رب لقد دعوْتني بنعمتك لأعمل في الحقل الروحي، أجعلـْني مستحقّاً لاعملَ فيه حسب ارادتك، لكي لا أحرَمْ من التنعّم بين قدّيسيك، لانّك تترأف على عبيدك).

9. زمن تقديس الكنيسة ( البيعة): انّ السنة الطقسية الكلدانية تختتم بزمن تقديس الكنيسة، ويمكن تسميته تجديد الكنيسة أيضاً. انّ فكرة هذا الزمن مأخوذ من العهد القديم، بعد أن قام أنطيوخس ابيفانس بتدنيس الهيكل سنة 167 ق.م. فأمر بممارسة الشعائر الوثنية بدل اليهودية، كما قام بنصب تمثال للاله زيوس فوق مذبح النحاس في الهيكل. وانتقل هذا العيد الى المسيحية، لأحياء ذكرى تكريس/تجديد احدى الكنائس. ثمّ اتـّخذ طابعا روحيا، لان الكنيسة أضحت: جسد يسوع السري، يسوع هو الختن والكنيسة هي العروس، العروس تتنعّم في الخدر تشبيهاً لتنعّم الكنيسة في الملكوت السماوي في نهاية المطاف (نهاية السنة الطقسية). والترتيلة التالية مأخوذة من صلاة الليل للاحد الاول من تقديس الكنيسة: (ايّها المسيح، صُنْ كنيستك المقدّسة من كل الاضرار، واجعل المدعوين باسمك أن يثبتوا في الالفة والايمان الحق، ودوام السلام والامن، فهما يصدران منك وحدك، ايّها الرب).

نحن الان في الزمن الاخير من السنة الطقسية(تقديس الكنيسة)، وبه تنتهي الدورة الطقسية السنوية. ثمّ تبدأ السنة الطقسية الجديدة بزمن البشارة (سوبارا) في الاسبوع القادم. أخوتي لنفكّر بهذا التدبير البديع الذي يحوي تدبير الله الخلاصي، ونعيشه يوماً بيوم، اسبوعاً بأسبوع، لكي نتأهّل للخلاص الذي ننتظره، بنعمة المسيح وبشفاعة العذراء مريم.

سامي خنجرو – استراليا

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!