مقالات دينية

الانقسامات الكنسية:اسبابها وتأثيرها على كنيسة المشرق-الكريستولوجي لكنيسة المشرق والكنيسة الكاثوليكية

سامي خنجرو

samdesho
الانقسامات الكنسية: أسبابها وتأثيرها على كنيسة المشرق -الكريستولوجي لكنيسة المشرق والكنيسة الكاثوليكية

كان القرن الرابع عصر الجدالات حول الثالوث، فان آريوس متأثرا بالفكر الاغريقي، ادّعى ان الكلمة (لوغوس) الابن هو خليقة الله الاولى والوسيط بين الآب والعالم المخلوق. فردّت الكنيسة على هذه البدعة في المجمع المسكوني النيقاوي الاول سنة 325م، بأعلانها انّ الكلمة مساو للآب في الجوهر وأزلي مثله. وحينما أثير الجدل حول الروح القدس، وزعم مقدونيوس وأتباعه انّه خليقة الله، أعلنت الكنيسة آلوهية الروح القدس ومساواته للآب والابن في مجمع القسطنطينية المسكوني الثاني سنة 381م. امّا القرن الخامس، فقد ظهر كعصر الجدالات حول سر المسيح الاله المتجسّد. هذه الجدالات جاءت بسبب الخلاف بين مدرستي أنطاكيا والاسكندرية. وكان في جوهره خلافا فكريا فلسفيا بين المدرستين، فكل منهما تبنّت طريقة خاصة في تفسير الكتاب المقدس، ممّا ادّى الى سوء التفاهم والتباعد وهزّ جسم الكنيسة الجامعة.

في أنطاكيا، كان اللآهوتيون والمفسرون أكثر ميلا الى نظرية أرسطو ومهتمّين بالحقائق الملموسة والمرئية. ففي اقرارهم بالوهية المسيح كانوا ينظرون بالاكثر الى حياته الانسانية الارضية. أما مدرسة الاسكندرية، فكانت أكثر ميلا الى الافلاطونية والى التفسير الرمزي التأويلي للحقائق. فالامر الذي كان يشدّ اهتمام أساتذة الاسكندرية في المسيح، كان لاهوته أكثر من ناسوته. وهكذا فان الاسكندرية تتكلم عن الالوهية والانسانية، في حين ان انطاكيا تستخدم مفردات أكثر واقعية، وتفضّل الفاظ الله والانسان. وكان الخلاف غالبا ما ينشأ من معنى بعض الالفاظ اللاهوتية التي كانت قيد الدرس آنذاك في استخدامها، مثل الطبيعة = فوزيس = كيانا، الاقنوم = ايبوزستازيس = قنوما، الشخص = بروسوبون = برصوبا.

انّ الانطاكيين والشرقيين عامة ومن نحا منحاهم، يريدون بالاقنوم الظهور الفردي للطبيعة (حقيقة مادية). وعندما يدافعون عن حضور طبيعتين واقنومين في المسيح، انّما يريدون التأكيد على الوجود الحقيقي لطبيعتين كاملتين فيه، يوحّدهما شخص المسيح. هذا الاتحاد في المسيح، هو اتحاد في الشخص وفيه تحتفظ كل طبيعة بصفاتها وخواصها. امّا الاسكندريون، فانهم يفهمون لفظة الاقنوم بمعنى الشخص، فاذا كان ثمّة شخصان أو اقنومان، فيكون ثمّة ابنان. فحينما يريدون التأكيد ان الاتحاد بين الكلمة والانسان في المسيح هو اتحاد اقنومي، يريدون فقط ان يشرحوا ان الطبيعتين الانسانية والالهية في المسيح تشكّلان شخصا واحدا. وهكذا فان الخصمين يدافعان عن طروحات مماثلة الى حدّ كبير، ولكن كلاّ منهما يستخدم الفاظا لايفهمها الاخر على حقيقتها، وهذا هو اصل الخلاف والبلاء.

ان الخصام بين مدرستي انطاكيا والاسكندرية بدأ يتفاقم من جرّاء القضية الكريستولوجية. وفي سنة 428م جلس نسطوريوس على كرسي القسطنطينية، عاصمة الامبراطورية البيزنطية، وهو تلميذ تيودوروس المصيصي الذي كان يتبع تعاليم اللاهوت الانطاكي. بينما كان قورلوس جالسا على كرسي الاسكندرية منذ سنة 412م، وكان يتبع تعاليم اللاهوت الاسكندري. ومنذ ان اقيم مار نسطوريوس بطريركا على القسطنطينية، رفض اعطاء لقب ام الله (تيوتوكس) لمريم العذراء، اللقب الذي كان متداولا في الكنيسة انذاك. لانّها بحسب نسطوريوس، لاتستطيع ان تلد الله. فاللقب الذي يناسبها اكثر هو ام المسيح (كريستوتوكس)، الكلمة المتجسد الذي هو اله وانسان معا. لكن مار قورلوس رفض هذه التعاليم قائلا: اذا كان ربنا يسوع المسيح المتجسد الهـاً، وهو واحد، فكيف لاتكون العذراء القديسة التي ولدته ام الله؟ ونتيجة لهذه الخلافات والخصومات، وبغية تقريب الاراء والاتفاق على تسوية نهائية لهذه المشكلة لتعم الوحدة والسلام في الكنيسة، عقدت عدّة مجامع كنسية: ابتداءا بمجمع افسس الاول سنة 431م، الذي شجب نسطوريوس واكّد على الوحدة في المسيح وعلى حقيقة الطبيعتين فيه وعلى صحة التعبير (مريم ام الله) ، وانتهاءا بالمجمع الخلقيدوني سنة 451م، الذي دعا اليه البابا القديس لاون (440-461م) والملك الروماني مرقيانوس. هذا المجمع، تخلّلته نقاشات حادة لتحديد المعتقد النهائي بخصوص الكريستولوجي، وأثبت الاباء فيه معتقد الطبيعتين في المسيح. وجاء تعبيره النهائي بهذه العبارة: في المسيح طبيعتان متحدتان، بدون تغيير ولا انفصال ولا امتزاج.

واننا نسمع صدى هذا التعليم، في الاستغاثة التي تقال في طقسنا المشرقي، في مساء الاحد الاول بعد الميلاد: يا رب الكل، بينما انت صورة الله، اتّخذت شبه العبد بحبك. انك لم تختطف الوهيتك، ولم ُتكذّب ناسوتك، بل انت في الطبيعتين ابن وحيد حقا بكون انقسام. فأنت من العلى من الاب بدون ام، وانت من الارض من ام بدون اب. هكذا سبق الانبياء وأخبروا عنك، وهكذا بشّر الرسل، وهكذا علّم الاباء في الكنيسة. فاحفظنا اللهمّ وارحمنا بصلواتهم وايمانهم.

لكن الاهواء البشرية والمناصب الرئاسية ادّت الى جدالات طويلة وأليمة واضطرابات. ومن المؤسف أنّ هذه الجدالات والانشقاقات، لم تكن جميعها متّسمة بالمحبة المسيحية وبروح الانجيل. وغالبا ما دارت حول بعض الالفاط والكلمات التي أسيء فهمها من ناحية، ونتيجة أطماع شخصية وتعنّد الرؤساء وكبريائهم من ناحية ثانية، واسفرت عن انشقاقات وانفكاك عرى الوحدة المسيحية.

امّا كنيسة المشرق، فكانت بعيدة عن تلك الجدالات، ولا نرى ايّة وثيقة تاريخية في حوزتها انذاك تشير الى تلك الخلافات. مع العلم ان تلك الحقبة الزمنية بعد مجمع داديشوع سنة 424م، هي في غاية الاهمية لكنيسة المشرق التي كانت شبه منفصلة جغرافيا وسياسيا عن الكنيسة في الغرب، ثمّ بدأت تسير نحو الانفصال في عقيدتها ايضا كما سنرى. ويجب التنويه هنا، بان كنيسة المشرق عبّرت عن ايمانها بخصوص القضية الكريستولوجية في مجامعها الكنسية الاولى، بدءا بمجمع مار اسحق والمجامع اللاحقة بهذا التعبير: انّ في المسيح ربّنا طبيعتين كاملتين في شخص واحد، دون الاشارة الى لفظة الاقنوم.

انّ مدرسة الرها ووليدتها مدرسة نصيبين الشهيرتين، أصبحتا اهّم مركزين ثقافيين لكنيسة المشرق. هاتان المدرستان، تأثرتا بتيارات الافكار السائدة في مدرسة انطاكيا، وتبعتا الى حدّ كبير افكارها اللاهوتية. كما وتخرّج منهما جملة من العلماء اللاهوتيين الذين نشروا تلك الثقافة في الشرق. لا بل تبوّأ معظمهم مراكز اسقفية، ومنهم أختيروا بطاركة وساهموا في ادارة وتقدّم كنيسة المشرق. ومن الطبيعي ان يتبّنى هولاء القادة الكنسيون تلك الافكار والتعابير اللاهوتية والدفاع عنها والعمل على نشرها في كنيسة المشرق. ومن اهمّهم: نرسي الملفان الشهير(399-503م)، اقاق الجاثاليق (484-496م)، برصوما مطران نصيبين (456-496م)، مار ابا الاول الكبير البطريرك (540-552م) ، الجاثاليق ايشوعياب الاول الارزني (582-595م)، البطريرك ايشوعياب الثاني الجدالي (628-645م)، البطريرك ايشوعياب الثالث الحديابي (649-659م)، وغيرهم كثيرون.

لكن النفوذ المنوفيزي أخذ يتسرّب الى مدرسة الرها والتي سميت بمدرسة الفرس ايضا. وكان مدير المدرسة انذاك نرساي الملفان (399-503م) الذي عيّنه هيبا اسقف الرها بعد موت مديرها قيّورا، وأخذ المدير الجديد بادخال تعاليم تيودوروس المصيصي بكل ح*ما*س. لكن هيبا اقصي عن كرسي الرها وحلّ محله نونا المنوفيزي سنة449م،حينها غادر المدرسة عدد كبير من الاساتذة والطلاب وتوجّهوا نحو الشرق، ومنهم برصوما الذي اصبح مطرانا على نصيبين سنة 457م. وفي هذه السنة عينها، استوقف برصوما نرساي الملفان الذي فرّ بدوره من المدرسة الرهاوية. وطلب منه ان يؤسّس مدرسة في نصيبين، لكي تواصل عمل المدرسة التي كان مار يعقوب مطران نصيبين قد سلّم ادارتها بيد القديس افرام الملفان سنة 325م. من ناحية اخرى، فان مذهب المنوفيزيين (القائل انذاك: في المسيح طبيعة واحدة واقنوم واحد بعد التجسّد) بدأ يتغلغل في بقاع كنيسة المشرق. ومما ساعدهم على ذلك، الخلافات القائمة انذاك في كنيسة المشرق بين برصوما مطران نصيبين من جهة، وبابوي واقاق الجاثاليقين من جهة ثانية، وذلك في نهاية القرن الخامس ومطلع القرن السادس، اضافة الى انحطاط كنيسة المشرق ايام الرئاسة المزدوجة في عهد نرسي واليشاع الجاثاليقيين.

لكن كنيسة المشرق تداركت الخطر المحدق على ايمانها، فاقامت المدارس في كل مدينة والمراكز المهمة الاخرى، علّموا فيها اضافة للغة السريانية، العلوم الدينية والدنيوية. وكان للرهبنة المشرقية دور فعّال لايقاف المد المنوفيزي من خلال المؤلفات الكثيرة وجعل الاديرة مراكز التبشير والتأليف. كما وردّا على المنوفيزيين، أدخلت كنيسة المشرق في عقيدتها الكريستولوجية الاقنومين واصبحت عبارتها الايمانية هكذا: ان في المسيح طبيعتين واقنومين في شخص واحد.

ولا بدّ لنا ان نشير الى الاعلان الكريستولوجي المشترك بين السعيد الذكر، القديس البابا يوحنا بولس الثاني ومار دنخا الرابع بطريرك كنيسة المشرق الاشورية، في تشرين الثاني سنة 1994م. واليكم مقتطفات مهمة من هذا الاعلان: ربنا يسوع هو اذا إله حق وإنسان حق، كامل في لاهوته وكامل في ناسوته، مساو للاب في الجوهر. وقد اتحد لاهوته بناسوته في شخص واحد، بغير اختلاط او تغيير، وبغير انقسام أو انفصال. احتفظ في نفسه بالطبيعتين الإلهية والإنسانية على اختلافهما، بكل خواصهما وامكانياتهما وعملهما. لكن ليس بإنشاء “واحدة وأخرى” لكن باتحاد اللاهوت بالناسوت في نفس شخص ابن الله الواحد الفريد وربنا يسوع المسيح، الذي هو هدف العبادة الوحيد. فليس المسيح اذا “انسانا عاديا” تبناه الله ليقيم فيه ويلهمه، كما هو شأن الابرار والانبياء. بل الله نفسه، الكلمة المولود من الاب قبل جميع الدهوربحسب لاهوته، ولد في الازمنة الاخيرة من امّ دون أب بحسب ناسوته. إن الناسوت الذي ولدته القديسة مريم العذراء هو دائما لابن الله نفسه. لاجل هذا تدعو كنيسة المشرق الآشورية في صلواتها العذراء مريم ” أم المسيح إلهنا ومخلصنا”. وفي ضوء نفس هذا الايمان فإن الكاثوليك يدعون العذراء مريم ” والدة الإله” وأيضا ” والدة المسيح”. وإن كل منا يدرك صحة ومشروعية هذه التعابير لنفس الايمان، وكلانا يحترم ما تفضله كل كنيسة في حياتها الليتورجية وتقواها.

وفي سنة 1997م، تمّ الاعلان عن قبول الاحتفال بسر الافخارستيا بين الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وكنيسة المشرق الاشورية، اضافة الى فتح الابواب أمام اكليروس كنيسة المشرق الاشورية، للدراسات العليا في الجامعات الكاثوليكية. كما وان ابواب كلية بابل الحبرية للفلسفة واللاهوت للبطريركية الكلدانية لاعداد الكهنة، مفتوحة أمام أتباع هذه الكنيسة.

سامي ديشو خنجرو – استراليا..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!