مقالات عامة

اليوم العالمي للشباب JMJ نفحة من الرجاء

لويس إقليمس        

 

 

اليوم العالمي للشباب JMJ نفحة من الرجاء

كانت المبادرة التأسيسية الأولى لليوم العالمي للشبيبة في نهاية عام 1984 من لدن بابا الفاتيكان يوحنا بولص الثاني الراحل، الذي أراد آنذاك أن يخصّ الشباب برعاية متميزة في قلب الكنيسة. جاءت الفكرة في ضوء احتفال الكنيسة الكاثوليكية بيوبيل السنة المقدسة للفداء المسيحاني للبشرية المقرر في 1983-1984. وانطلاقًا من هذه المناسبة، شاء قداستُه عقد تجمّعات شبابيّة مسيحية على مستوى الابرشيات لمناسبة احتفال العالم المسيحي بأحد السعانين بدءً من سنة 1984. حضر اللقاء الأول الذي فاق التوقعات آنذاك أكثر من 250 ألف شاب من مختلف الابرشيات الإيطالية. وحين إعلان الأمم المتحدة ليكون العام 1985 سنة عالمية للشباب، تكررت فكرة عقد لقاء شبابي متميز آخر في روما وسائر الأبرشيات في إيطاليا ضمن مبادرة أخرى للفت الأنظار إلى هذه الشريحة الهامة في المجتمع وفي الكنيسة على السواء. حضر اللقاء الثاني أكثر من 300 ألف شاب من مختلف الابرشيات أيضًا وانتظموا في تجمعات صلاة وتأمل وتعليم في مختلف كنائس روما قبل أن تحتضنهم ساحة القديس بطرس وجهًا لوجه مع البابا القديس يوحنا بولس الثاني.  

مع النجاح منقطع النظير لهذين التجمّعين الشبابيين تساءل البعض ما الفكرة وما الهدف من مثل هذه اللقاءات. فكانت الإجابة من لدن البابا نفسه أن للشباب رغبة جامحة للقاء بعضهم بعضًا من أجل مقاسمة خبراتهم والتداول في مشتركاتهم وتبادل أفكارهم والاستماع إلى أصواتٍ تدعم طموحاتهم وتعزّز التزاماتهم حيال الكنيسة والمجتمع والنظام السياسي في البلاد إلى جانب توجيه تطلعاتهم نحو المستقبل. من هنا جاء إعلان بابا الفاتيكان في نهاية 1985 عن إنشاء “اليوم العالمي للشباب” ابتداء من العام الذي تلاه 1986، يُعقد في كلّ سنة على مستوى الابرشيات والكنائس في العالم تزامنًا مع مناسبة أحد السعانين للقاء المسيح الداخل إلى اورشليم وسط هتافات الشعب الحامل لأغصان الزيتون ليتفاعلوا مع الحدث وليكونوا رسلاً للسلام والمحبة.

من حينها، تطورت الفكرة فأراد قداستُه أن تتوسع المبادرة ليُصار للاحتفال بهذه المناسبة مع شبيبة العالم بصورة متناوبة، أي سنة على مستوى الأبرشيات وأخرى على مستوى الدول، في دولة يقع عليها الاختيار كي يكون بمثابة حجّ للفرح لهذه الشريحة المهمة ومناسبة لإعطائهم دورًا رياديًا في قيادة المجتمع ودفعهم باتجاه تعزيز بذور الفرح والصلاح والمحبة ونشر السلام والوحدة والأخوّة بين الشعوب والأمم والدول عبر مجتمعاتهم. هذا إلى جانب الرسالة الروحية السامية والنابعة من ديناميكية الكنيسة وتفاعلها مع قضايا العالم المتخبط في متاهات السياسة العمياء في أحيانٍ كثيرة والغارق في أزمات متلاحقة في شتى شؤون الحياة وشجونها. فالفكرة مزدوجة في ثناياها وأهدافها، وهي تتمثل بضرورة “إصغاء الكنيسة لهذه الشريحة ومرافقتهم” في مسيرة حياتهم وتطلعاتهم وآمالهم. وهذان الهدفان هما من ضمن النتائج التي تمخضت عنها الوثيقة الختامية لسينودس الأساقفة حول الشباب الذي شهدته الفاتيكان في تشرين أول الماضي 2018. فقد رأى آباء السينودس ضرورة تواجد العنصر الشبابي في مثل هذ اللقاءات لكونهم العنصر الأساس وسط المجتمعات والروح المنعشة والمحرّكة للشعوب والأوطان.

نظرة تاريخية حول الحدث

 شهد العام 1986 أول لقاء عالمي كبير للشباب احتفلت به سائر إبرشيات الكنائس الكاثوليكية في العالم، كل في موقعها يوم أحد السعانين، ليصبح بعدها حدثًا عالميًا مهمّا يُعقد كلّ سنيتن أو ثلاث في بلد معيّن من بلدان العالم ليشمل القارات الخمس، مع الاحتفاظ بعقد لقاءات شبابية محلية في إبرشيات كافة الكنائس سنويًا يوم أحد السعانين حصرًا ليكون بمثابة مهرجان لهذه الشريحة العطشى للكلمة ولكلّ شيء جديد ذي قيمة عليا.

كانت الأرجنتين (بوينس ايرس) ثاني محطة لهذه الاحتفالية العالمية في عام 1987 التي مثّلت علامة رجاء لصحة هذا البلد الخارج من دكتاتورية تسلطت على رقاب الشعب لسنوات. أعقبه اللقاء الرابع للشباب في اسبانيا سنة 1989، ثمّ السادس في بولونيا سنة 1991 وهو أول تجمّع في دولة أوربية شرقية بعد سقوط جدار برلين. بعدها كان اللقاء الثامن في دنفر الأمريكية سنة 1993، وتلاه لقاء 1995 العاشر في مانيلا بالفيلبين.

في عام 1997 جاء اللقاء العالمي الثاني عشر الذي احتضنته العاصمة الفرنسية باريس وفيه كانت شهادة الشباب لإيمانهم واضحة وهو يجوبون شوارع عاصمة النور والجمال مطبوعين بعطش روحي كبير لإبراز هذا الإيمان الذي خبا نورُه بسبب العولمة وعسر الأنظمة السياسية التي اختارت العلمانية طريقًا محفوفًا بالمطبات الإيمانية والتراجع في التقرّب من الكنيسة وتعاليمها. أعقبه لقاء روما الخامس عشر في سنة 2000 والتي صادفت سنة الألفية الميلادية مع تقدّم البابا القديس يوحنا بولس الثاني في العمر بعد أن أعياه المرض، إلاّ أنه كان مصرًا على مشاركة الشبيبة أفراحهم بهذا الملتقى العالمي. تلاه لقاء تورنتو السابع عشر في كندا سنة 2002، وهي تعد من البلدان الحديثة نسبيًا. ثم جاء لقاء كولونيا العشرين في ألمانيا سنة 2005 برعاية البابا الألماني الجديد بندكتس السادس عشر بعد أيام على رقاد البابا يوحنا بولس الثاني. أعقبه اللقاء الثالث والعشرين سنة 2008 الذي عقد في سدني الأسترالية التي تسمى ب”أرض الروح القدس”، لمنح نفحة من الرجاء لهذه القارة الجديدة نسبيًا والنائية بعض الشيء. بعدها عادت العاصمة الاسبانية مدريد ثانية لتحتضن التجمع العالمي السادس والعشرين سنة 2011، ثم كانت ريو دي جانيرو البرازيلية سنة 2013 بنسختها الثامنة والعشرين التي شارك فيها نخبة من الشباب العراقي. أمّا كراكوفيا البولونية فقد نالت حظها من هذا المهرجان الشبابي سنة 2016 بنسختها الواحدة والثلاثين، وأخيرًا بنما في هذه السنة 2019 بنسختها الرابعة والثلاثين العالمية.

من أهداف الزيارة

بنما التي وقع عليها الاختيار لاستقبال شبيبة العالم في 2019، والتي تحظى اليوم باستقرار نسبي ووضع اقتصادي أفضل من جاراتها ضمن دول أميركا اللاتينية (الوسطى)، هي الرحلة العالمية 26 في حبرية بابا الفاتيكان فرنسيس التي زار قبلها 39 دولة. هذه الرحلة الشاقة مثّلتْ تحديًا للمنطقة التي تشهد العديد من بلدانها تداعيات سياسية وأزمات اقتصادية إلى جانب مشاكل داخلية وتدبيرية في كنيستها المحافظة. في اليوم العالمي للشبيبة بنسختها الجديدة 34 التي عقدت للفترة من 22-27 كانون ثاني 2019، شارك أكثر من 700 ألف شاب احتضنتهم هذه الدولة اللاتينية بكل فرح وارتياح. وبالرغم من ضعف هذه المشاركة نسبيًا مقارنة مع سابقاتها، فإن ذلك يعزى لجملة أسباب جغرافية وديمغرافية داخلية تتصل بالعدد القليل لنفوس هذا البلد اللاتيني الذي لا يتجاوز عديد نفوسه 4 ملايين نسمة. لكنّ فرح اللقاء مع البابا في رسالته الدينية والروحية والاجتماعية والتي لم تخلُ من لمحات سياسية، كان هو السائد. فقد كان قداستُه الصوتَ الصارخ لمَن لا صوتَ له.

في هذه الزيارة حرص البابا أن يكون ضمن منهاجه، عرضٌ لمصالحة مجتمعية عبر طقوس توبة حصلت في أحد معتقلات يقبع فيه مجموعة من الشباب القاصرين المغرّر بهم والخارجين عن النظام، كإشارة لعدم نسيان الكنيسة لأمثال هؤلاء لحين عودتهم إلى حضن المجتمع، وأيضًا كشهادة للرحمة الإلهية التي يحتاجُها كلّ إنسان والتي بمقدورها أن تنتصر على الشرّ وعلى الألم الكبير بحرمان الإنسان من حريته البشرية لأي سبب كان. كما حرص قداستُه على لقاء مرضى السيدا (الإيدز) ضمن التفاتة روحية كبيرة تعني أن الكنيسة ستبقى قريبة من جميع أبنائها المحتاجين إليها في هذه القارة التي تمزقها الصراعات وأعمال العن*ف وتشهد لانتهاكات يومية من جانب السلطات ما يجعلها كغيرها من البقع والدول التي تبقى تعاني من عدم الاستقرار ومن أزمات متلاحقة بسبب تسلّط حكامها والفساد المستشري فيها. هذا إضافة إلى موضوع الهجرة الجماعية التي تضرب بلدان القارة اللاتينية هربًا من مشاكل بلدانها باتجاه الولايات المتحدة الأميركية بصورة خاصة، وابتعادًا عن أزماتها المتلاحقة وكذا بسبب حالة البؤس التي تعاني منها طبقات من المجتمع بسبب فساد الأنظمة.

هناك إشارة التفتَ إليها البابا في هذه الرحلة، وهي سعادته الدائمة بمشاركة شباب من مختلف بقاع العالم ومن جنسيات مختلفة من القارات الخمس، حاملين رايات بلدانهم التي يعتزون بها في هذه التظاهرة العالمية التي توليها الكنيسة الكاثوليكية ما تستحقه من رعاية وتوجيه وتعليم رسولي. فهي علامة للوعي الشبابي برفع رايات السلام والمصالحة وسط هذا التجمع المبارك الذي منه تصير الانطلاقة لنقل هذا السلام إلى بلدانهم ومجتمعاتهم المقهورة. وهي تأتي أيضًا في سياق الإشارة إلى رفض الكنيسة كلّ أنواع الاستغلال للبشر ومنها ما يتعلق بمسألة التحرّش الجنسيّ المتهم بها رجال مقربين من الكنيسة والذي مازال مثار النقاش والشك لغاية الساعة. فقد كان تعليم البابا واضحًا برفضه أيّة أشكال لاستغلال الكائن البشري مهما كان جنسُه أو لونُه أو دينُه.

في ضوء العناصر أعلاه، صبّت زيارة البابا ايضًا، على نقل قيم الرجاء للمتألمين والعجزة والخارجين عن الطريق القويم من أجل إعطاء دفق روحيّ لكنيسة هذه البلاد ومن خلالها للقارة برمتها. كما أنها ترنو لحث زعامات دولها على تقويم السياسات واتخاذ الخطوات التي من شأنها المحافظة على قيمة الإنسان وصيانة كرامة الكائن البشري. من هنا جاءت لقاءات رأس الكنيسة الكاثوليكية في هذه المناسبة مع الشباب لكونهم النخبة في قيادة المجتمعات وفي تشكيل القدرات الحقيقية لبلدانهم. إذ عليهم تقع مسؤولية إحداث ثورة في النظام العالمي وفي إصلاح المجتمع وفي الخدمات الضرورية لسائر طبقاته من دون تمييز وفي المشاركة القريبة والحضور الدائم في مواقع الحدث. وإليهم يصبو أصحاب الرجاء من البؤساء والفقراء والمظلومين ليكونوا الأمل في إحداث تحولات إيجابية مستقبلية في بلدانهم بفعل الالتزام الأدبي والروحي والوطني الذي يحملونه في صدورهم وعقولهم وطاقاتهم. وهذا ما برز في أحاديثه المتتالية عن دور هذه الشريحة التي قال عنها:” أنتم لستم المستقبل بل أنتم زمن الله. هو يدعوكم في مجتمعاتكم ومدنكم… انهضوا وتكلّموا… وحققوا الحلم الذي يملكه الربّ لكم”. وختمها بالقول:” عودوا إلى رعاياكم وجماعاتكم وعائلاتكم وأصدقائكم وانقلوا هذه الخبرة حتى يستطيع الآخرون الاهتزاز بهذه القوّة وهذا الأمل الذي تملكونه”.

الخاتمة:

إنها رسالة المصالحة والرجاء التي أراد بها البابا فرنسيس أن يكون أكثر قربًا من الشبيبة المتألمة والعطشى إلى الكلمة والأمل والرجاء عبر حوار منفتح وبلغة جديدة قريبة من طموحات وأفكار وتطلعات شباب اليوم وليس وفق اللغة التقليدية القديمة والعقيمة التي لم تعد تجذب الشباب أو تؤثر فيهم بسبب تقادمها ورتابتها.   

أما توصية الحبر الأعظم في اليوم الختامي الذي شهد إقامته قداسًا جماهيريًا للحشود المتجمعة وسط حضور رسمي وكنسي واسعين، فقد حث فيها الجميع على “العمل لمقاومة الخوف والاستبعاد والشك والتلاعب“. وقال مخاطبًا الشباب بصورة خاصة: “فلتشعروا أنّه لديكم رسالة، ولتقعوا في حبّها كي تحافظوا على السير وعيش الإيمان”.

وبحسب الإعلان عن النسخة القادمة من هذه التظاهرة الشبابية العالمية، فإنّ لشبونة عاصمة البرتغال، هي التي ستستضيفها في 2022. إلى ذلك اليوم مع شبيبة العالم، نرفع كل الأمنيات ونواصل قول “نعم” على غرار مريم العذراء بقبول كلام الملاك “الآن” وليس غدًا ومن دون تردّد.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!