مقالات

مذكرات جندي أمريكي عن درب الدموع – عضيد جواد الخميسي

كان “جون جي . بورنيت” (من مواليد 11 كانون الأول/ ديسمبر عام 1810م) جندياً في الجيش الأمريكي في عام 1838م عندما أُمر بالعمل كمترجم بين المسؤولين الأمريكيين وقبيلة چيروكي من الهنود الحمر الأصليين أثناء التهجير القسري لهم والمعروف الآن باسم “درب الدموع” . وكتب بورنيت في عيد ميلاده الثمانين رسالة إلى أبنائه يصف فيها تجاربه عن تلك الحقبة.

كانت “درب الدموع” عبارة عن سلسلة من عمليات الإبعاد القسري لـ”القبائل الخمس المتحضرة” (چوکتاو، وسيمينول، ومسكوگي كريك، وچيكاساو ، و چيروكي ) عام 1831 ـ 1850م . وأصبحت رواية بورنيت مصدراً أساسياً عن تهجير قبيلة چيروكي في عام 1838م، على الرغم من أن بعض العلماء والمؤرخين يرفضونها باعتبارها منحازة أو غير دقيقة. فعلى سبيل المثال كتب البروفيسور جون إيل تعليقه حول ما ورد في مذكرات بورنيت، كما في المقطع التالي :
“لقد تطور المفهوم العاطفي لدى الهنود في السنوات التي أعقبت إزاحتهم من الجنوب الشرقي . فقد كان الهنود الچيروكيين يُصوّرون عموماً على أنهم يعيشون في سلام عند موطنهم الجبلي ، وإن كان أقل من واحد لكل خمسة منهم يعيش في المناطق الجبلية. كما تم تجاهل امتلاكهم للعبيد السود في مثل هذه المشاهد . وتم تبرئة الچامان؛ واُستُبدل ميلهم إلى الحرب بالتعايش السلمي مع قبائل الكريك، والچوکتاو ، والچيكاساو ، وبقية القبائل… وخلال هذه الفترة، أصبح كون المرء رجلاً أبيضاً ومشاركته في حروب الهنود أمراً مستهجناً، لذا أضيفت الاعتذارات والحجج من قِبَل قدامى المحاربين الهنود لتلميع صورتهم . على سبيل المثال في عام 1890م، وبعد خمسين عاماً، كتب أحد قدامى المحاربين في سلاح الفرسان الأمريكي جون جي. بورنيت رسالة كثيراً ما يُستشهد بها على أنها تصف بدقة أحداث تهجير هنود چيروكي بين عامي 1838 ـ 1839م ، وكان هذا مسعى منه في عيد ميلاده الثمانين لطمأنة أحفاده بشأن نقاء أفعاله السابقة !!.” (ص393)

مع ذلك، لم يقدم إيل أي دليل على أن ما أورده بورنيت كان غير دقيق . في الواقع، يبدو أن ماكتبه بورنيت كان مدعوماً بتقارير أمريكية موثقة عن الحدث، بما في ذلك حادثة المرأة الچيروكية “واهنينوهي” التي أرسلت شكواها إلى مكتب الشؤون الهندية بالولايات المتحدة، وفقًا لموقع “التاريخ الرقمي Digital History”؛ حيث جاء بمقطع منها مايلي :
” تدمير أو تهجير! ربما يكون الأمر الأصح هو ( تدمير ثم تهجير في رحلة طويلة عبر البراري ) .هل يستطيع الصغار أن يتحملوها ؟ وماذا عن المرضى ؟ هل يستطيع كبار السن والضعفاء أن يتحملوا الرحلة الطويلة المرهقة ؟ هل يجب عليهم أن يرحلوا ؟ لقد كان هذا هو موطن أسلافهم منذ الأزل . وكل ما كان عزيزاً عليهم على الأرض كان هنا، فهل يجب عليهم الرحيل ؟
لقد كان من المقرر أن يزيح الرجل الأبيض قبور ذويهم المهجرّين . وبدا الهواء مليئاً بتيار خفي من الحزن والألم الذي لا يمكن التعبير عنه… حيث بقي بعض أفراد قبيلة چيروكي في منازلهم وعزموا على عدم المغادرة . وقد أرسلت جورجيا جنوداً إلى هناك، فجمعتهم وقادتهم تحت حراب البنادق إلى المعسكر مع الآخرين . ولم يُسمح لهم باصطحاب أي من أغراضهم المنزلية؛ بل أُرغموا على المغادرة كما هم، بملابسهم التي كانوا يرتدونها فقط . وحين طلب رجل عجوز طاعن السن للغاية من الجنود أن يسمحوا له بأداء الصلاة مرة أخرى مع أسرته في منزلهم القديم العزيز عليه قبل أن يتركه إلى الأبد؛ كانت الإجابة بنبرة وحشية: لا ! ليس هناك وقت للصلاة ؛ اذهب! . ودفعوه بعن*ف نحو الباب !!. فقد طُرد الهنود ودخل البيض، واستولوا على جميع ما تبقّى .” (التاريخ الرقمي، ص1)

إن شكوى واهنينوهي وقصة بورنيت تعتبران دقيقتان لأنهما مُثبتتان بتقارير أشخاص آخرين حصل لهم نفس الموقف أو بإجراءات مماثلة من جانب الحكومة الأمريكية لتهجير الأمريكيين الأصليين، سواء “مسيرة ناڤاهو الطويلة”(عام 1863 ـ 1866م)، أو تهجير الچايان ، والسيوكس ، والمودوك، أو العديد من الذين استولى المستعمرون الأمريكيون الأوروبيين على أراضيهم مقابل القليل من التعويض، أو دون تعويض إطلاقاً .

نصّ الحكاية
أُقتبس النّص من موقع أنكور: A North Carolina History Online Resource

أبنائي وبناتي :
هذا هو عيد ميلادي في الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول عام 1890م، حيث أبلغ اليوم من العمر ثمانون عاماً .
وُلدت في مصنع گينج آيرون في مقاطعة سوليڤان بولاية تينيسي، في الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول عام 1810م . ونشأت كرجل لصيد الأسماك في بيڤر كريك، والتجوال في الغابة لصيد الغزلان والخنازير البرّية وذئاب الغابات. وكثيراً ما كنت أقضي أسابيع وحيداً دون رفقة سوى بندقيتي و سكين صيد وفأس صغير أحمله في حزامي عند تجوالي في البرّية.
في رحلات الصيد الطويلة تلك، التقيت بالعديد من الهنود الچيروكيين وتعرّفت عليهم، حيث كنت أصطاد معهم أثناء النهار، وأنام بمحيط نيران معسكراتهم ليلاً . إذ تعلّمت التحدث بلغتهم، وعلموني فنون المطاردة ونصب الفخاخ والشراك. وفي إحدى رحلات الصيد الطويلة التي قمت بها في خريف عام 1829م، صادفت شاباً من قبيلة چيروكي مصاباً برصاصة من قبل مجموعة من الصيادين المتجولين، حيث تمكن الإفلات من مطارديه واختبأ خلف صخرة.
لقد كان المخلوق المسكين ضعيفاً و واهناً بسبب فقدانه قدر كبير من الدم، كما كان عطشاً وجائعاً لعدم قدرته على المشي ، فحملته إلى نبع قريب، ونظفّت جرحه ثم ضمّدته ، وبنيت له كوخاً من لحاء شجرة كستناء ميتة. كما قمت بإطعامه حبات الكستناء ولحم الغزال المشوي . وعندما تحسنت صحته ؛ رافقته إلى مكان قبيلته ، وبقيت لفترة طويلة هناك حتى شعرت بالتوهان . بحلول ذلك الوقت، كنت قد أصبحت خبيراً في الرماية ، وصياداً ماهراً ، و قضيت معظم أوقاتي في الغابة بحثاً عن الطرائد.

في عام 1838م كجندي خاص في الجيش الأميركي؛ وأنا في ريعان شبابي وجدت نفسي وسط حملة تهجير الهنود الچيروكيين من ديارهم التي عاشوا فيها طيلة حياتهم . وطالما أنني كنت أعرف الكثير من الهنود ، وأجيد التحدث بلغتهم بطلاقة؛ فقد أُرسِلتُ كمترجم إلى منطقة جبال سموكي في مايو/أيار من نفس العام ؛ حيث شهدت تنفيذ أكثر الأوامر وحشية في تاريخ الحرب الأميركية ، ذلك عندما رأيت الچيروكيين من كبار السن يُعتقلون ويُطردون من ديارهم ، ويساقون تحت سنان الحراب إلى معسكرات الحجز . وفي صباح يوم ممطر من أكتوبر/تشرين الأول؛ شاهدتهم مُحمّلين مثل الأبقار أو الخراف في ستمائة وخمسة وأربعين عربة ، وانطلقوا بهم نحو الغرب.

لا يمكن لأحد أن ينسى الحسرة والحزن الذي انتابهم ذلك الصباح عندما كان زعيمهم جون روس يصلّي بهم . ولمّا أطلق البوق صوته ؛ بدأت العربات تتحرك، و وقف العديد من الأطفال على أقدامهم ولوّحوا بأياديهم الصغيرة مودعين بيوتهم الجبلية؛ مدركين أنهم سوف يتركونها إلى الأبد. حيث لم يكن لدى العديد من هؤلاء البشر المسلوبي الإرادة أية أغطية تحميهم من قساوة البرد، والعديد منهم كانوا حفاة القدمين .

في صباح يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني؛ واجهتنا عاصفة ثلجية شديدة مع درجات حرارة من الانجماد، ومنذ ذلك اليوم وحتى وصولنا إلى نهاية الرحلة المشؤومة في 26 مارس/ آذار عام 1839م؛ كانت معاناة الچيروكيين م*روع*ة ؛ حيث كان درب المنفيين درب الموت . كان عليهم أن يناموا في العربات وعلى الأرض دون نار تمنحهم الدفء . كما عرفت أن ما يصل إلى اثنين وعشرين منهم قد ماتوا في ليلة واحدة من الالتهاب الرئوي؛ بسبب سوء المعاملة و البرد والارهاق . ومن بين هذا العدد كانت الزوجة المسيحية الجميلة للزعيم جون روس . فقد توفيت هذه المرأة الكريمة القلب، عندما تنازلت عن بطانيتها لتغطية طفلة مريضة، وبقيت بملابسها الخفيفة أثناء عاصفة ثلجية شديدة، حيث أصيبت بالالتهاب الرئوي ، وتوفيت في الساعات الهادئة من ليلة شتوية كئيبة، ورأسها مستنداً إلى سرج الملازم گريگ .

لقد قمت برحلة طويلة إلى الغرب مع قبيلة چيروكي وفعلت كل ما بوسع جندي عادي أن يفعله لتخفيف معاناتهم . وعندما كنت في مهمة الحراسة ليلاً، أخترق في نوبتي جموع المعذبين عدة مرات مرتدياً معطفي حتى يتمكن أي طفل مريض من الحصول على الدفء منّي ؛ حيث كنت في مهمة الحراسة ليلة وفاة السيدة روس . وبعد انتهاء نوبتي تلك في منتصف الليل، لم أغادر المكان ؛ بل بقيت قرب العربة تعاطفاً مع الزعيم روس . وعند شروق الشمس تم تكليفي من قبل الكابتن ماكليلان لمساعدة بقية الجنود في دفن زوجة روس وبقية الموتى الذين قضوا نحبهم أثناء هذه الرحلة اللعينة. حيث تم دفن جسدها النحيف في قبر غير عميق على جانب الطريق بعيداً عن موطنها الأصلي، ثم تحركت القافلة الحزينة صوب هدفها .
طالما كنت شابّاً، فقد كنت أختلط بحرّية مع الفتيات الصغيرات والشابات ، حيث قضيت معهن ساعات ممتعة عندما كان من المفترض أن أكون محتضناً بطانيتي . وقد غنين لي بتواصل مجموعة من أغانيهن الجبلية. وكان هذا كل ما بوسعهن فعله لرّد الجميل لي .
على الرغم من علاقتي بالفتيات الهنديات من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1829م وحتى 26 مارس/ آذار عام 1839م ؛ إلا أنني لم أقابل أية واحدة منهن وكانت فاسدة أخلاقياً؛ بل العكس فقد كنّ طيبات وحنونات القلب و أغلبهن من الجميلات .

المشكلة الوحيدة التي واجهتها طوال الرحلة إلى الغرب كانت مع سائق عربة نقل وحشي يُدعى بن ماكدونال، الذي كان يستخدم سوطه لضرب ثور عجوز يجرّ عربة چيروكية قديمة ومهلهلة ليجعله يستعجل المسير . وقد كان مشهد ذلك المخلوق العجوز الأعمى وهو يرتعش تحت سياط ماكدونال الذي لا يمكن أنا أن أتحمل منظره . حاولت إيقاف ماكدونال، لكن الأمر انتهى بعراك معه . حيث ضربني على وجهي، وأحدث طرف السلك الموجود في سوطه جرحاً بليغاً في جبهتي ؛ فانتقمت منه بضربة من فأسي الصغير الذي كنت أحمله في أيام الصيد عند حزامي، فسقط على الأرض مدمياً وفاقداً للوعي في مكان الحادث .
على إثر ذلك؛ تم حجزي في عربة تحت الحراسة . بيد أن الملازم هنري بولوك والجندي إلكانا ميلارد كانا شاهدين على الحادثة؛ فقاما بإبلاغ النقيب ماكليلان بالمشاجرة ولم يتم تقديمي للمحاكمة قط . وبعد سنوات التقيت الملازم الثاني رايلي والملازم بولوك في بريستول خلال استعراض جون روبنسون، وذكرّني بولوك مازحاً بأن هناك قضية ما زالت معلقة ضدي أمام محكمة عسكرية ، وأراد أن يعرف إلى متى يظل يؤجل محاكمتي ؟!

انتهت الرحلة الطويلة المؤلمة إلى الغرب في السادس والعشرين من مارس/آذار عام 1839م ، عندما امتد أربعة آلاف قبراً صامتاً من سفوح جبال سموكي وحتى ما يعرف بالأراضي الهندية في الغرب. حيث كان الطمع من جانب العرق الأبيض هو السبب وراء كل ما جرى لقبيلة چيروكي من معاناة . فمنذ أن قام فرديناند دي سوتو برحلته عبر بلاد الهنود في عام 1540م،؛ كان هناك اعتقاد بوجود منجم غني بالذهب في مكان ما من بلاد جبال سموكي، وفي تخميني أن هذا الأمر قد يكون حقيقياً؛ لأنه في أحد احتفالات عيد الميلاد الذي أقيم في إيكوتا ليلة عام 1829م، كنت قد عزفت الموسيقا ورقصت مع فتيات هنديات وهن يرتدن حُلي حول أعناقهن تشبه الذهب.
وفي عام 1828م، باع صبي هندي صغير يقطن منطقة وارد كرين قطعة من الذهب لتاجر أبيض، وكانت تلك القطعة سبباً في هلاك قبيلة چيروكي . وبعد وقت قصير، اجتاحت المنطقة مجموعة مسلحة من قطّاعي الطرق زعموا أنهم من الحكومة، ولم يأبهوا إلى حقوق الهنود الذين هم المالكين الشرعيين للأرض . وأُرتكبت الجرائم البشعة بحقهم التي كانت وصمة عار على حضارة الغرب. فقد أُطلِق الرصاص على الرجال بدم بارد، وصودرت الأراضي وأُحرِقت المنازل وطُرِد السكان على يد قطاّعي الطرق المتعطشين للذهب .

كان الزعيم الچيروكي جونالوسكا له معرفة شخصية بالرئيس الأمريكي ( السابع) أندرو جاكسون . وقد جمع جونالوسكا 500 زهرة من وديان چيروكي هدية له ، كما أنه دعم جاكسون في الانتصار بمعركة حدوة الحصان، تاركاً ثلاثة وثلاثين منهم ق*ت*لى في ميدان المعركة. وفي تلك المعركة، أنقذه جونالوسكا طعناً بفأسه لأحد محاربي الكريك، عندما كان جاكسون مستسلماً له وكاد أن يقضي عليه .
أرسل الزعيم جون روس جونالوسكا مبعوثاً إلى الرئيس جاكسون طالباً منه حماية شعبه من الرجل الأبيض، إلا أن جاكسون كان ليس متحمساً وغير مبالٍ تجاه ابن الغابة الشرس الذي أنقذ حياته. وقال له بفظاظة شديدة : “سيدي، لقد انتهى الاستماع إليك!! ليس هناك ما يمكنني فعله من أجلك !! “
لقد حُكِم على مصير قبيلة چيروكي بالتهجير. فقد أصدرت واشنطن العاصمة مرسوماً يقضي بطردهم غرباً، ومنح أراضيهم للرجل الأبيض . وفي مايو/أيارعام 1838م، توجّه جيش من أربعة آلاف جندي نظامي، وثلاثة آلاف جندي متطوع تحت قيادة الجنرال وينفيلد سكوت إلى بلاد الهنود وكتبوا الفصل الأكثر سواداً في صفحات التاريخ الأمريكي .
كان الرجال العاملون في الحقول يُعتقلون ويسوقون إلى معسكرات الإبعاد ، والنساء يُخرجن من منازلهن من قبل جنود لا يفهمون لغتهن . وكثيراً ما كان الأطفال يُنتزعون من أُسرهم ويُساقون إلى المعسكرات ، حيث كانت السماء بطانية والأرض وسادة. وغالباً ما كان يُدفع كبار السن والضعفاء بالحراب لتعجيلهم في الوصول إلى مكان احتجازهم . وفي أحد الأكواخ، حدثت وفاة أثناء الليل. فقد توفي طفل صغير حزين الوجه كان مستلقياً على سرير من جلد الدب، وكنً بعض النسوة يتحضرن لدفن جثة الصغير ؛ إلا أنه أُلقي القبض على الجميع وطردوا وتركوا الطفل في الكوخ!.. ولا أعرف من الذي دفن الجثة.
في منزل آخر كانت تعيش أم أرملة وضعيفة لديها ثلاثة أطفال صغار، أحدهم رضيعاً . وعندما قيل لها يجب أن ترحل؛ جمعت الأطفال عند قدميها، وأخذت تصلّي بلغتها ، ثم ربتت على رأس كلب العائلة العجوز، وودّعت المخلوق المخلص وهي تحمل طفلاً على ظهرها وتقود طفليها الآخرَين بكلتا يديها إلى منفاها. ولكن المهمة كانت أكبر من أن تتحملها تلك الأم المسكينة ؛ فقد خففت نوبة قلبية أصابتها جرّاء ثقل معاناتها؛ لتسقط ميتة بجسدها على الأرض ورضيعها على ظهرها، وطفلاها الآخران ممسكان بيديها !.
لقد شهد هذا المشهد الزعيم جونالوسكا الذي أنقذ حياة الرئيس جاكسون في معركة حدوة الحصان، وانهمرت الدموع على خديه ورفع قبعته وأدار وجهه نحو السماء وقال:
“يا إلهي ، لو كنت أعلم في معركة حدوة الحصان ما عرفته الآن، لكان التاريخ الأمريكي قد كتب بشكل مغاير”.

في هذا الوقت من عام 1890م، كنّا على وشك إبعاد قبيلة چيروكي، ولم يعد بوسع شبابنا أن يفهموا تماماً مدى فداحة الج#ريم*ة التي ارتُكبت ضد شعب عاجز. والواقع أن الحقائق تُخفى عن هذا الجيل. ولا يعرف تلاميذ المدارس اليوم أننا نعيش على أراضٍ قد انتُزعت من قوم ضعيف تحت تهديد السلاح لإرضاء جشع الرجل الأبيض .
إن الأجيال القادمة سوف تقرأ عن هذه الج#ريم*ة وتدينها. وأتمنى أن تتذكر أجيال المستقبل ؛ أن الجنود من أمثالي، والمحاربين الأربعة من قبيلة چيروكي الذين أجبرهم الجنرال سكوت بإطلاق النار على زعيم هندي مع عائلته ؛ لأننا كنّا مضطّرين إلى تنفيذ أوامر رؤسائنا. ولم يكن أمامنا خيار غير الطاعة .
بعد خمسة وعشرين عاماً من التهجير، كان من دواعي سروري أن ألتقي بسرية كبيرة من قبيلة چيروكي يرتدون زي الجيش الكونفدرالي تحت قيادة العقيد توماس . فقد كانوا معسكرين في زوليكوفر، وذهبت لرؤيتهم . وكان معظمهم مجرّد صبية وقت التهجير، لكنهم تعرّفوا عليّ فوراً باعتباري “الجندي الذي كان جيداً معنا”. لقد تمكنت من التحدث إليهم بلغتهم الأم، وأمضيت نهاراً رائعاً معهم . كما علمت منهم أن الزعيم جون روس لا يزال زعيماً للقبيلة في عام 1863م . وأتساءل الآن عمّا إذا كان لا يزال على قيد الحياة ، لقد كان رجلاً نبيل القلب وعانى كثيراً من أجل قومه.

في إحدى المرات، أُلقي القبض عليه وأودع في سجن قذر لمحاولة كسر روحه، لكنه ظل وفياً لشعبه في المنفى . كما ضحّت زوجته المسيحية بحياتها من أجل فتاة صغيرة كانت مصابة بالالتهاب الرئوي . وقام العرق الأبيض ببناء نصب تذكاري شاهق لتخليد قوة شجاعتها عندما تنازلت عن بطانيتها لطفلة مريضة . وبالمناسبة، فقد تعافت تلك الطفلة، لكن السيدة روس ترقد في قبر مجهول بعيداً عن موطنها الأصلي في جبال سموكي .
عندما غزا سكوت بلاد الهنود، فرّ بعض أفراد قبيلة چيروكي إلى الكهوف والمخابئ في الجبال ولم يتمكن أحد من القبض عليهم ، وهم هناك إلى اليوم . لقد كنت أنوي ومنذ فترة طويلة الذهاب هناك في محاولة العثور عليهم، لكنني أرجأت رحلتي من عام لآخر ، والآن أنا ضعيف للغاية ، و صحتي متدهورة بحيث لا أستطيع ركوب العربة.
لقد مرّت تلك السنوات الحزينة ، وتغلبت عليّ الشيخوخة. وأستطيع أن أقول بصدق أن بندقيتي وسكينتي لم تلطخا بدماء أي مواطن چيروكي .كما أستطيع القول وبكل صدق أيضاً؛ إنني بذلت قصارى جهدي من أجلهم عندما كانوا في حاجة ماسة إلى صديق . وبعد خمسة وعشرين عاماً من تهجيرهم ، ما زلت أعيش في ذكراهم باعتباري “الجندي الذي كان طيباً معنا”.
مع ذلك، فإن الق*ت*ل هو الق*ت*ل سواء ارتكبه الشرير المتسلل في الظلمة ، أو ارتكبه رجال يرتدون الزّي العسكري ويتقدمون على أنغام الموسيقى العسكرية .
إن الق*ت*ل هو الق*ت*ل، ولابد أن يفسّر أحد ما سبب نزيف الدماء في بلاد الهنود الحمر في صيف عام 1838م. ولابد أن يفسّر أحد ما سبب وجود أربعة آلاف قبر صامت على درب شعب چيروكي في طريقهم إلى المنفى .
أتمنى لو أستطع أن أنسى كل هذا، ولكن صورة ستمائة وخمس وأربعين عربة تجرّها الخيول على أرض متجمدة وهي تحمل بشراً مهانين؛ لا تزال عالقة في ذاكرتي .
فليروي لنا مؤرخ المستقبل القصة الحزينة بكل تنهداتها ودموعها وأنينها. وليحاسبنا القاضي العظيم على أفعالنا المشينة ويجازينا على أعمالنا الحسنة .
أبنائي وبناتي ـ هكذا تنتهي قصة عيد ميلادي الموعود. ذلك هو الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول عام 1890م ..

((إنتهى النّص))

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موقع التاريخ الرقمي ـ قصة درب الدموع والجندي جون جي . بورنيت ـ فبراير/ شباط 2025 .
روكسن دونبارـ أورتزـ تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية ـ بيكون للطباعة ـ 2015 .
جون أيل ـ نهوض وسقوط أمة چيروكي ـ ڤنتج للطباعة والنشر ـ 1997 .
أديل نوزيدار ـ موسوعة العناصر للأمريكيين الأصليين ـ 2012 .
آلان برينكلي ـ الأمة غير المكتملة: تاريخ موجز للشعب الأمريكي ـ ماكيگرو هيل للنشر ـ 2000 .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!