الحوار الهاديء

الراعي الصالح والملح الفاسد

لويس إقليمس

لويس إقليمس      

 

 

الراعي الصالح والملح الفاسد

عديدة هي الأمثال التي ضربها المسيح طيلة فترة رسالته الإلهية على الأرض، وهي تمثل شيئًا كبيرًا من تعاليمه لتلاميذه وأتباعهم من بعده، أي لعموم الكنيسة والعالم. من هنا، يمكن عدُّ ما يرد في هذه الأمثال حقائق إيمانية وروحية، بل ودستورًا مسيحيًا للاقتداء والعمل به. ففي بعض هذه الأمثال، تنجلي روح التعاليم المسيحية التي تجعل من أتباع المسيح خميرة صالحة في مجتمعهم وملحًا طيب النكهة في الأرض. ناهيك عن توصياته بما ينبغي أن يتسم به المؤتمَن على حفظ وديعة الإيمان كي ينال صفة الراعي الصالح بجدارة ويقود الرعية نحو المرعى الجيّد المثمر.

حسنًا يفعل البعضُ عندما يطلقون وصف “ملحِ الأرض” على المسيحيين بسببِ ما يتسمون به من مزايا وخصائص قلّما نجدها في سلوكيات غيرهم من المجتمعات لدى أديان أخرى، إلاّ ما ندر أو قد نجدها في أشخاص حققوا الاندماج الفعليّ في ذهنية المجتمعات المسيحية وفي طريقة أدائهم وسلوكهم اليومي في الحياة. فهذه السمة بل بالأحرى هذه الوصية قد سبق لربهم المسيح أن أوصاهم بها ليكونوا “ملح الأرض ونور العالم” (متى13:5) في تفاعلهم في المجتمع الذي يعيشون فيه. وانطلاقًا من هذا الوصف، يمكن اختزال رسالة المسيحي في المجتمع والعالم حيث ينبغي أن تسود كل مواصفات الإنسان الطيب الصالح بالتحلّي بالصدق والإخلاص والتواضع والوداعة والحرص والعطاء اللامتناهي والبذل في سبيل إنعاش المسيحية والأوطان والمجتمعات بموجب الصورة التي أرادها وبشّر بها المسيح. لكنّه خصّ أيضًا مَن يتولون الخدمة الإنجيلية العميقة أي الخدمة الكهنوتية بشيء متميّز كي يكونوا “رعاة حقيقيين يسهرون على مصالح القطيع” وإيمانهم، أي في أن يكونوا القدوة. والقدوة عادة تتجلّى في شخوص القائمين على المؤسسة الكنسية أكثر، أي في الإكليروس بصورة أخصّ قبل أن تكون منهاجًا لباقي أتباع المسيح، مهما كانت صفتُهم وأشكال عباداتهم ومرجعياتهم. والسبب، كون الاكليروس يمثل النخبة التي تتحمل الحرص والسهر المطلوبين في إدارة الرعية بموجب الثقة والصفة الكهنوتية الممنوحة لهؤلاء بكافة التراتبية التي يكونون فيها في حضن الكنيسة. والنخبة لا بدّ أن تتمثل فيها أروع صفات القائد، “الراعي الصالح” الذي تبع سيّدَه وقرّر ذات يوم السير على خطاه وتمثيلَه على الأرض يوم “مسحه بزيت الكهنوت على رتبة ملكيصاداق”.

عندما يتفاعل الراعي مع الرعية وفق شروط الخدمة أو الرسالة التي يقوم بها من دون امتعاض أو تذمّر أو تشكّ أو خروج عن القوانين الجارية في كنيسة أو جماعة، فهو حينذاك يمثل صفة الراعي الصالح الذي يرعى الخراف ويعرفُها بأسمائها ويقودها إلى المرعى الحسن والحظيرة الدافئة التي تأتي بثمار جمّة، في الدنيا والآخرة. هكذا عرفت المسيحية الأولى رعاتَها، بدءً من التلاميذ الاثني عشر وامتدادًا لما بعدهم مرورًا بالعديد من الاضطهادات التي ضربتها، لكنها صمدت لكونها مقامة على قاعدة صخرة صلبة لا تهتزّ ولا تتخلخل بمثل هذه الصعوبات وأعمال الترهيب والق*ت*ل والتهديد. ولنا في التاريخ أمثلة لمثل هذه الأحداث والوقائع والاضطهادات تعجز الكتب والمخطوطات عن سردها، وبقي فيها الرعاة صمودًا كالطود الذي لا يميل ولا يهتزّ. ولكن عندما يخرج “الراعي” عن الطريق القويم ويخرق القوانين الكنسية التي أقسم بالالتزام بها حين سيامته ويدخل دروبًا زمنية شاذة ويعصي الرئاسة ويتجاهل كلّ الأصوات الناصحة، مهما كانت الأسباب الموجبة لهذا العُقوق سلبًا أم إيجابًا، فإنّه حينئذٍ يفقد سمة “الراعي” الصالح في سلوكه وحياته. من ثمّة، لا يستحق حمل سمة القدوة والأبوّة والراعي، بل يصبح “حجرَ عثرة وخير له أنْ يُعلّقَ في عنقه حجر الرحى ويُلقى في البحر”.

هكذا يفقد الراعي مذاقه إذا فسدُ ملحُه أكثر من المؤمن البسيط، ولم يعد يصلح لإعطاء نكهة طيبة في رسالته ومهمته التي وعد بالسير بها في تكريس حياته للجماعة والكنيسة وليس لكنيسته التي ينتمي  إليها فحسب. فهو ملحٌ دائم النكهة أينما ذهب أو حلّ أو أوليَ مسؤولية الرسالة. فمثل هذا الراعي في قدوته وسيرة حياته الفاضلة سيبقى الأمل المبتغى في نظر الشعب المؤمن الذي يتطلع لذوبانه في وسطهم واندماجه مع متطلبات حياتهم الروحية والزمنية معًا. فالاثنان ينموان معًا من أجل تكوين ثمار طيبة فتخرج من أشجار صالحة تنقل البشرى والسعادة والصلاح وشذرات من الإيمان الضمني للغير وللأجيال.

دعوة للمراجعة والإصلاح في المؤسسة الاكليروسية

إن كنيسة المسيح، لا تنمو بكثرة تعدادها، كما اشار البابا فرنسيس في رحلته الأخيرة إلى المغرب، وهي دولة مسلمة محافظة، بل بالمثال الصالح ونوع العمل المتميّز الذي يعكس وجه التعاليم المسيحية الحقيقية ومدى الالتزام بها. فهذه الأخيرة أشدّ تأثيرًا في الكرازة والتبشير والدعوة. وهذا ينبغي أن ينسحب أولاً على الأشخاص المؤتمنين على صيانة تعاليم الكنيسة ودساتيرها وإيمان شعبها في نطاق الحياة الروحية التي تؤهلهم لنيل نعمة الالتزام بهذه جميعًا. فإذا كان قدوة الجماعة مِلحًا فاسدًا، فكيف به العمل وسط جماعة قد لا يشكل الإيمان العميق في حياتهم سلوكًا مسيحيًا صحيحًا وراسخًا؟ أي بمعنى آخر، حينما يكون الإيمان لدى الجماعة مهتزًّا ومتخلخلاً أصلاً، فكيف بمثل هذا “الراعي” غير المؤهل إيمانيًا وروحيًا وكنسيًا أن يتفاعل مع الجماعة ومع احتياجاتها الروحية والزمنية معًا؟ وكيف به يصون نفسه وجسده ويضع حدًّا لرغباته البشرية وحاجاته الطبيعية في زمن العولمة والتطوّر في كلّ شيء، حتى في نوع وشكل وصيغة الخدمة الكهنوتية التي يمارسها أحيانًا بعيدًا عن أعين الكنيسة؟ فمَن يضع يدَه على المحراث لا يلتفت وراءَه، بل الأجدر به إكمالُ المسيرة الرسولية وفق عهد الالتزام الذي قبله ووقّع عليه أمام الرئاسة والمؤمنين يوم تقبله الرسامة. وإنْ لم يفلح ولا يغدو تحمّل المسؤولية وعبء الرسالة، فالأحرى به الانسحاب من حقل الخدمة وترك الرسالة بدل البقاء أسير العقدة النفسية والجسدية وارتكاب الحماقات في لحظة ضعف بشريّ تكون فيه العاطفة والرغبة الجسدية أقوى من إرادته والعهد الذي قطعه أو الدرب الذي سلكه لمختلف الأسباب، إنْ كان بسبب الغيرة، أو اللهاث وراء امتياز، أو استغلال الرسالة وسيلة لقصد بلدان الاغتراب، أو جريًا لمنصب كنسيّ رفيع كما هي حال البعض من رعاتنا اليوم والتي يشهرونها في الخفاء والعلن.

هناك مَن يعيش تناقضات الحياة، “قدَمٌ في الجنّة وأخرى في النار”، كما يقول المثل. فالبعض من أمثال هذا الصنف سعى حثيثًا، وغيرُه مازال يسعى لغاية الساعة للاحتفاظ بشيء من مغريات الحياة ومتعها وتفاصيلها الزمنية. وفي ذات الوقت يجالد للإبقاء على نتفٍ من القشور الروحية التي تؤهله للبقاء في صف الإكليروس لما فيه وبه ومنه من احترام وامتياز لهذه الطبقة، تمامًا كما كانت عليه في الأزمنة المظلمة السابقة في حياة الكنيسة عندما كانت هذه الأخيرة جزءً من تركيبة الطبقة البرجوازية وطبقة النبلاء لعدد من المجتمعات، حتى الشرقية منها، قبل انحسارها وتحديد دورها بفضل الثورات الإصلاحية والرفض المجتمعي الثائر في حقب من التاريخ. فمَن يشتهي الكهنوت، فقد فعل الشيء الحسن، ومَن يشتهي الأسقفية فلا غبار عليه إن كان هذا ضمن التوصيفات والمؤهلات المطلوبة في الراعي الصالح. ونحن لا نشكّ أنّ في طريقة اختيار طالبي الكهنوت وترقية قساوسة إلى رتب أعلى أو فخرية سواءً في تاريخ الكنيسة القديم أو الحديث قد شابه المحسوبية والمنسوبية وشيئًا لا يخفى من العائلية والعشائرية والسيمونية ضمن ترتيبات الرئاسات والمجامع التي تتولى هذه المهمة العسيرة. وهذا ما يفسّر الفجوات والهفوات التي نسمع عنها ونراها ونشهدها حتى في مجتمعاتنا الشرقية. والأمثلة عديدة في العقود الأخيرة من تاريخ كنيسة العراق بصورة أكثر حصرًا. فما زلنا نسمع عن شذوذ شخصيّ وخروقات قائمة مستفحلة ومتلاحقة في صفوف الاكليروس والكنيسة الكاثوليكية بالذات، سواء من الرابضين المستميتين في أرض الآباء والأجداد، أو في صفوف الذين تدبروا أمرَهم وهجروا البلاد طمعًا برغبات في نفس عيسو.

إزاء هذه الصورة السلبية وغير المقبولة القائمة حاليا والمرصودة لدى نفرٍ من خُدّام الكلمة، حرّاس “الشعب المؤمن” وما يعنيه شكل هذه الصورة في عالم المتغيّرات والعولمة والانفتاح، لا بدّ من مراجعة حثيثة ووقفة جادة للقوانين والتشريعات الكنسية النافذة من أجل إعطاء توصيف أكثر قربًا للراعي من الرعية وبما يؤمّن له حياة طبيعية مريحة تبعده عن أيّ شذوذ أو تفكير أعمى خارجٍ عن سيطرة الإرادة والرغبة بحيث يكون مصيرُه واضحًا وشخصُه جليًّا وموقفُه صريحًا للعيان أمام الله والرئاسة الكنسية والشعب. فهو خادمٌ على مثال سيده المسيح، لكنه يبقى بالتالي عنصرًا بشريًّا يتكوّن من جسد ونفس، من لحمٍ ودم، من رغبة وروحٍ، من شهوة وطموح على غرار باقي البشر إنْ لم يستطع صون نفسه وكبتَ غرائزه وكبح جماح اهتماماته الجانبية، من عاطفة وتجارة وميسر ومجتمع أعمال وما سواها. وإلاّ سيبقى ما هو عليه من سلوك متناقض وعدم استقرار فكري ونفسي وجسدي وروحي ووظيفي، ضمن خانة التظاهر والنفاق والكذب على الذات وعلى الجماعة وعلى المؤسسة الكنسية.

من هنا، لا ينبغي لنا انتظار مصلحين جدد في هذا الصدد من أجل إصلاح المنظومة الكنسية قبل أن تعيد الكنيسة الكاثوليكية نفسُها خاصة، ومعها سائر الرئاسات الأخرى المعنية للنظر بجدّية وفاعلية وإرادة منفتحة ومن دون تشنّج أو تردّد أو خوف، بل بشجاعة الفرسان في دراسة الحيثيات والأسباب التي أوصلت بنيان بعض الكنائس وإكليروسها بكافة مناطقيّتهم ومذاهبهم وطوائفهم إلى ما هم عليه من أوضاع غير تفاؤلية ومن خروج عن المألوف والمعهود فيما تحمله هذه التداعيات المتزايدة في طيات القوانين الكنسية التي وُضعت أصلاً في “خدمة الإنسان، وليس الإنسان في خدمتها”. وكما صعدَ نجمُ التيار الإصلاحي البروتستانتي “الرافض” بعد العصر الوسيط الذي كانت تميّزت به الكثلكة على أيدي مصلحين غيارى من أمثال فيكليف وكالفن وهوس ولوثر ومَن على شاكلتهم، نعتقد بضرورة قيام صحوة إدارية وقانونية شاملة على غرار تلك الصحوة الإصلاحية التي أدارها هؤلاء بصدقية وإيمان بعد تفكير بضرورة الإصلاح والتغيير في النظام الكنسي المتهالك آنذاك، والذي كان من نتائجه حصول الانقسامات والتشظّي في الكنائس بين محافظٍ متباكٍ مستميتٍ ومصلحٍ ثائرٍ صارخٍ. وكلّ ذلك بسبب أخطاء لم تسعى المرجعيات الكنسية المتقدمة لتجاوزها قبل استفحالها ومعالجة حاجاتها وأخطائها بثورة إصلاحية واقعية شاملة بحسب العصر والزمان.

لقد مرّ على المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني “الإصلاحي” أكثر من خمسين عامًا، لكنّ جزءً مهمًّا من تعاليمه وتعليماته لم ترى النور كيفما ينبغي، ومنها مسألة مشاركة الشعب المؤمن في إدارة دفّة الكنيسة وتقديم العون حين الحاجة وتقديم شهادة الحضور الفاعل فيها. وستبقى المؤسسة الكنسية، أيًا كانت هويتُها، بحاجة لتفاعلٍ حثيث من قبل الجماعة المؤمنة، سواءً كان إيمانُ هذه الأخيرة صادقًا راسخًا أم سطحيًا ظاهرًا. وأيُّ نفورٍ غير مقبول أو امتعاض متشنّج في هذا المجال من قبل الرئاسات الكنسية بكافة تراتبياتها حتى القمّة منها ولاسيّما الرسولية الكاثوليكية، أو أي تصدٍّ لرسالة الجماعة والناشطين والمكرَّسين في المجال الرعوي والتبشيري والخدمي، فإنّ مثل هذا الفعل سيقابلهُ ردُّ فعلٍ صارم وحاسم أحيانًا. هذا إنْ لم يكن قد حصل مثل هذا الردّ القاسي في صفوف عدد من الجماعات الكنسية، سواء في دول الاغتراب والمهاجر البعيدة أو بين ظهرانينا في كنائسنا الشرقية المتنافرة لحدّ الغيرة والحسد والنفاق والسجال غير المجدي والإصرار على مواصلة الخروج عن الإجماع الشعبيّ في نشد الوحدة الكنسية في أقلّ ما تجتمع إليه مجملُها.

فهل سنرى، خطوات في اتجاه إصلاح ما يسعى الشعب المؤمن، على بساطة إيمان شرائح كبيرة فيه، للعودة إلى الجذور الإيمانية الأولى على بساطتها الرسولية الأولية مع شيء من تأوين وتحديث ما ينسجم مع روح العصرنة ويتماشى مع انشغالات الناس بأمور الحياة الأساسية التي لم تعد شؤونُ الكنيسة عمومًا من بين أولوياتها لأسباب عديدة ومبررات مختلفة؟

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!