مقالات عامة

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي ( الحلقة السادسة والعشرون )

لطيف عبد سالم    

 

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي
( الحلقة السادسة والعشرون )
لطيف عبد سالم
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلُّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
يمكن الجزم أنَّ مِنْ بَيْنَ أهمَ المقومات الهيكلية الَّتِي ارتكزت عَليها الإبداعية المائزة لتجربةِ السَّماويّ يحيى الأدبية، تمثلت فِي روعةِ نظمه الشِّعر وَعذوبة تقريضه، وَالمبهر مِنْ جماليةِ الصورة البلاغية، بالإضافةِ إلى خروجِ آليات نظم الشِّعر لَديه عَنْ المألوفِ فِي إثارةِ المتلقي، طالما أنَّ الشِّعرَ وَأساليبه – بحسبِه – فِي تطورٍ متأتٍ مِنْ كونَه ابن الحياة المتحركة، فالسَماويّ يحيى يرى أنَّ قصيدةَ النثر تمثل إضافة جديدة للأدبِ العربي، أو دماً جديداً لجسدِ القصيدة العربية، حيث أنَّه مَعَ كُلِّ جديد إبداعي، فالشِّعر بحسبِه : ” ليس الوزن والقافية، فلو كان الوزن وَالقافية وَاللغة السليمة تُشكل مستلزمات الشِّعر وَثوابته وَشروطه؛ لأصبحت ألفية ابن مالك ملحمة شِعْريَّة، بينما هي فِي حقيقتها لا تعدو كونها منظومة لغوية ليس فيها مِنْ بيدرِ الشِّعر ولو بمقدارِ حبة خردل “. يضاف إلى ذلك أنَّ مَا يهمّ السَماويّ فِي القصيدةِ هو حجم الشِعْريَّة وَليس شكل القصيدة، حيث يشير إلى هذه الجزئية المهمة بالقولِ : ” يعنيني مِن الثمرةِ لبّها وليس قشرتها الخارجية، وهذه الشِعْريَّة هي الَّتِي جعلتني أركض وراء نصوص محمد الماغوط وسرجون بولص وسيف الرحبي ووديع سعادة وناهض الخياط وهادي الناصر وعبد العظيم فنجان وماجد الشرع وكريم جخيور وشعراء بُهِرتُ بهم مؤخرا مثل علوان حسين وهبة هاني وطارق الحلفي وفائز الحداد ومثلائهم، بينما لا أعير مثل هذا الإهتمام للكثيرِ مِنْ شعرِ الشطرين والتفعيلة ولسببٍ جوهري، هو ندرة الشِعْريَّة فيه “. وَحولَ تعمده وضع جملة ” نصوص نثرية ” عَلَى بعضِ إصداراته، فإنَّ السَماويّ يحيى يعزو ذلك إلى سببينِ جوهريين، أولهما أنَّ نصوصَه لا تتوافر فيها كُلّ شروط قصيدة النثر كالتوهج وَاللازمنية وَالإقتصاد فِي الكلمات، حيث أنَّها أكثر مِنْ كونِها خواطر، لكنها فِي نفسِ الوقت أقلّ مِنْ كونِها شِعرا، فِيما يتمثل السبب الآخر بحبِه لتشكيلِه النثريّ وعدم خجله منه، الأمر الَّذِي يفرض عَلَيه عدم إلباسه ثوباً عَلَى غيرِ مقاسه؛ إذ أنَّ خلودَ النص بحسبِه ” ليس فِي فصيلةِ جنسه الأدبي، فالجاحظ مثلاً كتب النثر وَليس الشِّعر، ومع ذلك فقد عاش نثر الجاحظ بينما مات شعر كثيرين مِنْ مجايليه “.

الـلـيـلُ مـصـلـوبٌ عـلـى نـافـذتـي
والـفـجـرُ يـرتـدي عـبـاءةً مـن الـغـيـومْ
*
جَـفَّ بـريـقُ الـبـدرِ فـي عـيـنـيَّ
والـنـجـومْ
*
وهـا أنـا مـئـذنـةٌ صـامـتـةٌ
وضـحـكـةٌ حَـزَّ صـداهــا خـنـجـرُ الـوجـومْ
*
لابُـدَّ مـن خـمـرٍ جـديـدٍ
غـيـر خـمـرِ الـتـمـرِ والـتـفـاحِ والـكـرومْ
*
خـمـرٍ إذا شــربـتُـهُ أصـحـو
ولـكـنْ
تـسـكـرُ الـكـأسُ وتـنـجـلـي بـهِ الـهـمـومْ
*
عَـتَّـقَـنـي فـي طـيـشِـهِ أمـسـي
وعَـتَّـقـتُ غـدي فـي غـفـلـتـي
فـهـل أنـا ” ثـمـودُ “؟
أمْ ” سـدومْ “؟
***
المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ منجزَ السَّماويّ يحيى الإبداعيّ، ألزمه التحليق فِي فضاءاتٍ بعيدة اعتمد فِيهّا عَلَى حنكةِ إزميله اللغوي التصويري فِي نحتِه المثيرَ مِنْ أبياتِ الشِّعر، أو نقشه الأنيق مِنْ جملِ النثر. وَمِنْ هُنَا فإننَا لا نبعد عَنْ الصَوَابِ أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ قدرته عَلَى إيقاظِ الإحساس بالجمالِ لدى المتلقي، كان له أثره الإيجابي فِي المُسَاهَمَةِ باستعدادِ المتلقي التفاعلِ بشكلٍ وجدانيّ مَعَ نتاج الشاعر المترجم لَه؛ نتيجة شعور القارئ أو السامع بحالةٍ مِن الانتشاءِ الَّتِي ملؤها الاندهاش، وَرُبَّما الانبهار أو الذهول، وَالَّذِي يترك فِي النفسِ وَالذهن أثر الرضى وَالارتياح؛ لذا لا عجب مِنْ كثرةِ الباحثين أو الكُتَاب، وَكذلك النقاد الَّذين انهمكوا فِي دراسةِ القيمةِ الإبداعية وَالفَنِّيَّة لمنجزِ السَّماويّ الشِّعْريّ، حيث تناول نتاجه الكثيرَ مِن الدارسين وَالباحثين وَالنقاد بدراساتٍ تحليلية وَمقارنة وإحصائية، فضلاً عَنْ أبحاثٍ نقدية، وَرسائل ماجستير وَأطاريح دكتوراه، وَكَتب عَنه عشرات الأدباء وَالكتاب وَالشُّعراء فِيمَا تباين وَتعدد مِن : الدورياتِ وَالصحف وَالمنتديات وَالمواقع الإِلِيكْتُرُونِيَّة – المَحَلِّيَّة وَالعَرَبيَّة وَالعَالَميَّة – مواضيع بمختلفِ المحاور الخاصة بتجربتِه الأدبية المتميزة، بالإضافةِ إلى تَرجمةِ مختارات مِنْ شعره للغاتٍ عدة، لعلَّ مِنْ بَيْنَها الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الفارسية، الإيطالية، الأوردية، الصربية، الكردية وَالهندية. كذلك ساهم السَّماويّ فِي تأسيسِ العديد مِن الروابطِ وَالمنتديات الثقافيَّة، إلى جانبِ إيجابية المشاركة فِي فعالياتِها. وَمِنْ بَيْنَ البحوث وَالدراسات الكثيرة الَّتِي كتبت عَنْ خطابِ السَماويّ يحيى الشعري، وصلني مؤخراً مؤلف الدكتور باسم خيري الموسوم ” التماسك النصي في شعر يحيى السماوي – نحو منهج في التحليل النصي للخطاب الشعري – ديوان أطفئيني بنارك أنموذجاً ” وَالَّذِي سجل فِي مقدمته مَا نصه ” حاولت أن أغوص في نصٍّ عالٍ، حمل في طياته تأريخ وطن، ومعاناة شاعر لم ينعم بوطنه، أجبر على مغادرته، فحمل وطنه معه في وجدانه، لم يتحمل فراق وطنه، فكان تميمته التي لا تغادره، كان وطنه حبيبته التي يسعى للفوز بدفء فراشها، كان وطنه أمه التي لم يمل قبلاتها على جبينه، كان وطنه شقوق أرجل والده الذي أعياه طول الزمان وتعاور الظالمين. أبحرت في هذا المبحث في لغة شعرية عاشقة، ومعجم قلَّ ما نجد مثل شفافيته وتميزه، فكانت قصائده كمنبع صاف ينهل منه العاشقون، ويرتوي منه الظمآن، يرتوي منه من أعياه فراق الأهل والأحبة، ولا يجد سوى كلمات السماوي ملجأ يأوي إليه. لقد مثل السماوي في شعره عودة للشعر الرومانسي الهادف، فكانت قصائده تحاكي حبيبة، وتناجي وطنا “.

تـعِـبـتُ مـن الـوقـوفِ عـلـى رصـيـفِ الـلـيـلِ
مـشـلـولَ الـخـطـى والـدربِ
أعـمـى الـقـلـبِ لا الـبَـصَـرِِ
*
وأتـعَـبَـنـي الـسـؤالُ الـصـعـبُ :
كـيـفَ غـدوتُ فـي عِـشـقٍ عـلـى كِـبَـرِ؟
*
سَـلـي واديـكِ يـامـعـصـومـةَ الـبـسـتـانِ
عـن مـطـري
*
أمـثـلـي فـي الـهـوى صُـبـحٌ ضَـحـوكُ الـشـمـسِ دافـئـهـا
ولـيـلٌ راقـصُ الـقـمـرِ؟
*
ومـثـلُ رغـيـفِ تـنـوري وكـوثـرِ جـدولـي؟
مـثـلـي نـديـمٌ سـاحـرُ الـسَّـمـرِ؟
*
وهـل رمـحٌ كـرمـحـي عـنـد مُـشـتَـجَـرِ؟
*
وهـل طـيـشٌ كـطـيـشـي أو حـيـاءٌ مـثـلـمـا خَـفَـري؟
*
ومـثـلُ تـبـتُّـلـي فـي غـرَّةِ الـسَّـحَـرِ؟
*
بـلـى قـدَرٌ
ولا مـنـجـىً مـن الـقَـدَرِ !
*
مِنْ المعلومِ أنَّ مدينةَ السَماوة تُعَدُّ بوصفِها الرَّحم الذي أنجبَ السَّماويّ يحيى، فضلاً عَنْ كونها بحسبِه جنته وَجحيمه معاً، لكنها عَلَى الرغمِ مِنْ أثرِ معطياتها فِي بلورةِ شخصيته، لَمْ تُنجب شاعريته، فالَّذِي أنجبها – بحسبِه – هو ” الفقر وَالشعور بغيابِ العدالة فِي ” وطنٍ يغفو عَلَى بحيرةِ نفط، إلآ أنَّ فقراءه مازالوا يستخدمون روث البقر وَسعف النخيل وقوداً للطبخِ والتدفئة، وطن سوط الحاكم فِيه أطول مِنْ يدِ العدالة، وَالحزب الحاكم فِيه وَحده المبشّر بجنةِ النعيم السحت وَجميع الإمتيازات “. وَيعبر السَّماويّ عَنْ آهاتِ السواد الأعظم مِنْ شعبِه، وَمَا يعانيه مِنْ قسوةِ الأنظمة الحاكمة بشكلٍ دقيق بقولِه : ” أنا ابن أمٍ قروية وأبٍ بقال، أطلقت أوّل صرخة بكاء حين طردتني أمي مِنْ رحمِها ظهيرة يوم ربيعي فِي بيتٍ طينيّ، وما زلتُ أواصل صراخي احتجاجاً على الفقرِ في وطنٍ يغفو عَلَى بحيرةِ نفط لا يمتلك مِنه الفقراء إلآ السّخام، وإدانة لساسةٍ وَعدونَا بالفردوس، فقادونا نحو الجحيم “. وَبنبرة وجدانية مؤثرة ﺗﺟﺳّد مواطنته بمسحةٍ عاطفية قال السَّماويّ يحيى ذات أديلايد : ” غادرت وطني قبل نحو ربع قرن هرباً مِنْ حبلِ مشنقة، لكنني بقيت مشدوداً إلى رحمِه بأكثرِ مِنْ حبِل مشيمة “. وَليسَ أدل عَلَى ذلك مِمَا يحضرني الآن مِنْ حادثةٍ مؤثرةٍ رواها ليّ السَّماويّ منذ سنوات، حيث اشترى محدثي بيتاً فِي أستراليا، وأصبح لَه حق التصرف بحديقةِ المنزل، فَعمدَ إلى شراء فسيلة نخلة، وَاضطر لتوفيرِ مناخٍ لها كالَّذِي فِي بساتينِ البصرة أو السَماوة، فضلاً عَنْ رعايتِه لهَا كما ترعى الأم وليدها البكر وَالوحيد، حتى كبرت وَازدادت طولاً، حيث صارت بحسبِه ” أطول منه، وأضحى عمرها أكبر مِنْ عمرِ ابنته سارة “، وَالغريب فِي أمرِ نخلته المدللة أنَّها أصبحت لها أعذاق، بَيْدَ أنَّها لَمْ تثمر أبداً، حتى غضب عليها يوماً وَاستأصلها بعد أنْ عرفَ مِنْ فلاحٍ أسترالي محترف، أنَّه إذا كان الحصى يصبح ياقوتاً، فإنَّ النخلة هذه ستثمر رطبا. وَلا رَيْبَ أَنَّ السَّماويّ يحيى – الَّذِي نزف مِنْ روحه وقلبه الكثير ليمنح الثقافة مِنْ ألقِ الشعر الرائع والمحلق في فضاء الإنسانية عبر السنين بحسبِ الشاعر جعفر المهاجر – حين يذكر حادثة النخلة الأسترالية، فإنَّه يريد التعبير عَمَا يتصل بِهَا مِنْ مغزى عميق لَه دلالاته الرمزية الَّتِي عبرَ عَنهَا صراحة بقولِه : ” أنا كالنخلة العراقية، لَنْ تصبحَ نخلة حقيقية، إلآ في أرضها – وَمَا اعتزامي شراء حفنة أمتار مربعة فِي مقبرةِ وادي السلام إلآ لأنني لا أريد أنْ أتوسّد غير أرض العراق حين يتحتم عليّ التدثر بلحافٍ مِن التراب “، وكان حينها قد عقد العزم عَلَى طيّ خيمته فِي آخر شبر مِن اليابسة، والشروع فِي نصبِها بفضاءٍ ولو صغير فِي جنتِه الأرضية – مدينة السَماوة – بإذنه تبارك وَتعالى، إلا أَّنَّ ظرفاً قاهراً أفسدَ عَلَيه مَا كان – وَمَا يزال – يتمناه.

***
أنـا جـمـري خـرافـيٌّ
ولـكـنْ
نـاعـمٌ كـنـدى زهـور الـلـوزِ فـي وادي الـمـنـى
شـرَري
*
أنـا بـشـرٌ
ولـكـنـي بـعـشـقـي لـسـتُ مـثـلَ بـقـيَّـةِ الـبـشَـرِ
*
نـبـذتُ الـدربَ مـألـوفـاً بـلا خـطـرِ
*
فـمـا الـبـسـتـانُ إنْ أضـحـى بـلا شَــجَـرِ؟
*
ومـا مـعـنـى الـرَّبـابـةِ حـيـنـمـا تـغـدو بـلا وَتَـر؟
*
تـريـديـن الـجـوابَ عـن الـسـؤالِ الـصـعـبِ
كـيـفَ مَـلَـكْـتِـنـي قـلـبـاً وأحـداقـاً وقـافـيـةً؟
جـوابـي : صـمـتـيَ الـحـجـري !
***
لعلَّ المذهلَ فِي أمرِ السَّماويّ يحيى أَنَّه خلال وجوده فِي العراق كان يحلم بالمنفى، لَكنهُ حين وصلَ المنفى بقيَ لا يحلم إلآ بالعراق، فهو القائل : ” العراق وطني وَمنفاي فِي ذات الوقت “. وَتدعيما لِمَا ذكر، فإنَّ مَنْ يبحر فِي روائعِ ديوانه السادس ” عيناك لي وطن ومنفى ” يتلمس حقيقة وَصفه الَّذِي أعلنه أكثر مِنْ مرة فِي مواضعٍ وَمناسباتٍ عدة بقولِه : ” قصائد الديوان تتحدث عَنْ وطنٍ هو جنتي وجحيمي معا “. وَبحسبِ الشَّاعِر السوري علي فرحان الدندح، فإنَّ الديوانَ المذكور آنفاً ” يضمّ بقايا رماد حروف السَماويّ يحيى المكونة مِنْ ثلاثين قصيدة، تجمع بين الشعر العربي الموروث والحداثة، فالقصيدة عنده برزخ بين الأصالة والحداثة “. وَمِنْ هُنَا يمكن القول إنَّ المعاناةَ الهبت شاعرية السَّماويّ الَّذِي يتمتع بموهبةٍ شِعْريَّة وَ فَنِّيَّة فذة غنية بالإِبْداعِ الجميل، فكانت دلالاتها واضحة فِي منجزِه الشِّعْري. وَلعَلَّ مِنْ بَيْنَ الأمثلة عَلَى مَا أشرنا إليه فِيمَا تقدم بخصوصِ قوةِ لغة السَماويّ الشِعْريَّة وَرقة إحساسه، هو مَا عبرت عَنه الشاعرة وَالروائية ” الرقية ” السورية فوزية المرعي بالقولِ ” نشعر بالشموخِ كلما لاحَ اسم السَماويّ يومض فِي سماءِ الشِّعْر أو النقد، فهو شَّاعِر متجدد فِي طرحِ أفكارٍ جديدة فِي عالمِ الشِّعْر، وأكثر ما ألهب مشاعري فِي شعره ذاك المنهج الصوفي الذي رتله بطريقةٍ جديدة لم يسبقه إليها أحد مِنْ قبل فِي نمطٍ جديد ملفت للنظرِ ومطرب للنفسِ التوّاقة لكل تهجدات الشِّعْر، فلا يشعر عشاق الشِّعْر بالمللِ أو بالسأم حين يعبرون خمائل السَماوي الشعرية، بل تنتابهم اختلاجات قد لا يستطيعون نقل ايقاعها فِي أيّ تعبيرٍ مهما حاولوا وأنا واحدة منهم. حين أقرأ قصائده وخاصة الصوفية أحلق بعيداً عني، وأدخل فِي ملكوتِ محرابه الإبداعي أتنسم رائحة البخور، وأميد علَى دق الدفوف، وأدور ..أدور.. وأحلق عالياً علني أقطف حبات مِنْ كرمِ إبداعه. يغشى عينيّ وهج القوافي، أرفع يدي للواهبِ بالدعاء : اللهم احفظ شاعرنا مِنْ كُلِّ مكروه، فهو أحد ملائكة الله عَلَى الأرضِ أرسله المولى وباركه بموهبةٍ قد لا تتكرر “. كذلك تشير الدكتورة مها عبد النبي إلى السَماويّ بعبارةٍ موجزة، لكنها بليغة فِي وصفِها بالقولِ ” السَماوي مَعلَم ومُعلِم، يكتب بأنفاسِ رهطٍ مِنْ الشعراء عَلَى اختلافِ مشاربهم “.

أمـسِ ـ انـتـصـافَ الـلـيـلِ ـ جَـفَّ دمـي
وشَــبَّ حـريـقُ شــوقـي
فـاسْــتـغــثـتُ
بـمـاءِ ” زمـزمِ ” بـئـرِكِ الـضـوئـيِّ فـي الـوادي الـسـحـيـقِ
مُـيَـمِّـمـاً وجـهـي لِـخِـدرِكِ
لا دلـيـلَ سِـوى سَــنـاكْ
*
مُـتـبـتِّـلاً حـيـنـاً وحـيـنـاً كـافـراً بـالــبُـعــدِ
بـيـنَ الـجـذرِ فـي كـهـفـي
وبـيـنَ قـطـوفِ أغـصـانـي الأثـيـرةِ فـي سَــمــاكْ
*
فـرشـفـتُ قـبـلَ دخـولـيَ الـفـردوسَ كـأسـاً مـن زفـيـرِكِ
فـانـتـشـيـتُ
وخِـلـتُـنـي قـبَّـلـتُ فـاكْ
*
فـسـألـتُ ربـي أنْ يُـزيـدَ مـن الـظـلامِ
وكـنـتُ قـابَ قـمـيـصِ نـومِـكِ مـن سـريـركِ ..
ربـمـا أدنـى ..
وأطـبَـقـتُ الـضـلـوعَ عـلـى الـضـلـوعِ
فـفـرَّ ثـغـري نـحـو ثـغـركِ حـاطِـبـاً قُـبَـلاً
وفـزّتْ مـقـلـتـاكْ
*
وانـزاحَ عـن سـاقـيـكِ ثـوبُـكِ
فـاسْـتـفـزَّتْ بـيْ مُـجـونـاً رُكْـبَـتـاكْ
*
أوشـكـتُ أنْ ….. !
فـإذا بـشـيـطـانـي يـعـودُ فـتـىً مـلاكْ
*
حـتـى إذا نـادى الأذانُ الـى صـلاةِ الـفـجـرِ
أغـوانـي نُـعـاسُــكِ بـاقـتـطـافِ الـتـيـنِ والـتـفـاحِ
مـن حـقـلِ الأنـوثـةِ
وارتـشـافِ نـدى زهـورِ الـلـوزِ خـالَـطَـهُ شــذاكْ
*
فـدخـلـتُ واديـكِ الـبـعـيـدَ
وهـا أنـا ثـمِـلٌ فـمـا أدري
أأسْـكَـرَنـي رحـيـقُ الـفُـلِّ والـريـحـانِ فـي حـقـلِ الأنـوثـةِ؟
أمْ نـداكْ؟
***
فِي دراستِه الموسومة ” يحيى السماوي الامتداد العضوي لفخامةِ القصيدة العمودية “، يشير الشَّاعِر العراقي عبد الستار نور علي المقيم فِي السويد، إلى ” إن المتابع لشعرِ السماوي يجد عنده المحافظة الصارمة على شكل القصيدة العمودية بشروطها الفنية من خيال وعاطفة متأججة واسلوب راقٍ يحافظ على السلامة اللغوية والجزالة اللفظية والفخامة التعبيرية والشكلية المعتمدة على الوزن والقافية واللغة السليمة الحريصة على النحو والصرف والبلاغة العالية التأثير. وللعلم فإن شاعرنا الكبير يكتب أيضاً شعراً حراً – شعر التفعيلة – مع المحافظة على الوزن والقافية والجزالة وقوة السبك والمبنى اللغوي “. وحول مَا يطرقه السَّماويّ يحيى مِنْ موضوعاتٍ فِي منظومتِه الشِعْريَّة يقول علي أيضاً ” يتناول شاعرنا الكثير من الموضوعات بجمالية عالية التأثير من خلال خيال خصب ولغة جميلة جزلة فخمة الايقاع ووزن يتناسب مع المضمون. تناول الحنين الى الوطن، ومعاناة الغربة، مقارعة الاحتلال والفساد السياسي، الدفاع عن الوطن والأمة. ومن أجمل ما يمكن أن نقرأ له هو الغزل أيضا. ففي غزلياته نجده فتىً غِرّاً مليئاً بالعاطفة الحارة الملتهبة حد الرغبة الجامحة المندفعة. فلو لم نعرف أنه كهلٌ اشتعل رأسه شيباً لقلنا نحن أمام صبيٍّ فتنه العشق وسلبَ لبهُ الغرام وأشعلَ صدره الهيام فأهاج بلابله “. وَلا يسعني هُنَا إلا القول : بأنيّ استمتعت بقراءةِ تلك الدراسة المبهرة، وَالَّتِي أقطف مِنْها أيضاً بحدودِ البحث مَا نصه ” الشاعر الكبير يحيى السماوي المواصل خط عالم وفن عمود الشعر، مع انه مجددٌ فيما يستخدم من مضمون وشكل يتسم كثيراً بالرقة في اختيار اللفظة، وبالحديث في تناول المضامين. وفي كل ذلك تسعفه موهبة فذة وشاعرية متألقة وثقافة تراثية غزيرة وتمكّن من اللغة كبير. وشعره واسع لا تكفيه هكذا عجالة في التناول “.

ســألـتـنـي ربَّـةُ الـحـانـةِ والـمـحـرابِ
والـمـشـحـوفِ والـنـهــرِ الأنـوثـيِّ الـذي شاربُـهُ
يُـبـعَـثُ حَـيَّـاً إنْ هَـلَـكْ :

كـيـفَ جِـزتَ الأبـحـرَ .. الأنـهــرَ ..
والـبـيـدَ الـصـحـارى ..
أبــســاطُ الـريـحِ نـحـوي حَـمَـلَـكْ ؟

أمْ هـو الـحُـلـمُ
وقـد ” شُــبِّـهَ لـكْ ” ؟

ولـمـاذا جـئـتـنـي فـي آخـرِ الـعـمـرِ
لـتـغـوي بـتـلـتـي الـمـعـصـومـةَ الـلـوز ؟
أجِـبـنـي : مـا الـذي أعـنـيـهِ لـكْ ؟

قـلـتُ :
يـا مـولاتـيَ الـمـائـيَّـةَ الـنـيـرانِ
أسـرى بـيْ الـى فـردوسِــكِ الـعــشــقُ
وهـا قـلـبـي عـلـى شـرفـةِ عـيـنـيـك
فـهـل تـأذنُ مـولاتيْ فـآوي
مـنـزلَـكْ ؟

أنـا ـ يا ســبـحـانَ مَـنْ قـبـلَ وصـولـي قـمَّـة الـعـمـرِ ـ
بـعـيـنِـي أنْـزَلـكْ

ضـائـعٌ مـن قـبـلِ أنْ أُولَـدَ ..
حـيٌّ وقـتـيـلٌ ..
فـعـسـى أنَّ الـذي يـعـرفُ مـا أُخـفـي
لأجـلـي أنـزلّـكْ

قِـبـلَـةً لـلـقـلـبِ
تُـفـضـي بـيْ الـى شـمـسٍ تُـضـيءُ الـدربَ
إنْ حـاصَـرَنـي ذئـبُ الـحُـلَـكْ

فـأعـادتْ قـولـهـا
مـن خـلـفِ شِــقِّ الـبـابِ ـ أو سِــتِّ سـمـاواتٍ :
أجِـبـنـي مـا الـذي أعـنـيـهِ لـكْ ؟

قـلـتُ :
شـمـسٌ وأنـا مـن حـولِـهـا جُـرمٌ ” سـمـاويٌّ ” صـغـيـرٌ
يـا مَـلَـكْ

و” بُـراقٌ ” يـعـرفُ الـدربَ الـى الـفـردوسِ
لـكـنْ
مـن ضــيــاءٍ لا كـمـا بـاقـي الـفَـلَـكْ

فـإذا صـوتٌ كـمـا الـوحـيُ
أتـانـي مـن وراءِ الـبـابِ
نـادانـي :
لِـتـدخـلْ فـأنـا قـد ” هَـيْـتُ لـكْ “

فـاقـتَـطِـفْ مـا شـئـتَ مـن فـاكـهـتـي
واشــربْ نـمـيـري واتَّـخِـذْنـي دون أنـهـارِ الـغـوانـي
مـنـهَـلَـكْ

واحـتـرسْ
مـن غـضـبِ الـنـحـلـةِ
إنْ خـنـتَ شــذا وادي زهـورِ الـلـوزِ
واحـذرْ
إنَّ إيـنـانـا إذا جـزتَ مَـداهـا
تـمـسـكُ الـمـاءَ عـن الـحـقـلِ وتُـظـمـي جـدولَـكْ
***
الناقد وَالمفكر العراقي البارز الدكتور حسين سرمك حسن كشف فِي دراستِه الموسومة ” يحيى السماوي وفن البساطة المربكة “، أموراً مهمة وَمثيرة عَنْ مَا يجول فِي خاطرِ البعض مِنْ أنَّ السَّماويّ يحيى قد كَتبَ نصوصاً شِعْريَّة متأثرة بـ ” سفر نشيد الأناشيد “، فضلاً عَنْ إثراءِ سرمك المشهد الثقافيّ بحقيقةِ وأصل تلك الأناشيد كما سنرى فِي السطورِ التالية. وَفِي هَذَا السياق يقول سرمك : ” عندما تسمع أنَّ الشاعرَ يحيى السَماويّ قد كَتبَ نصوصاً شِعْريَّة متأثرة بـ ” سفر نشيد الأناشيد، فإنك سوف تتساءل عَن التأثيراتِ الَّتِي خضعَ لها يحيى فِي كتابته لهذه النصوص؛ فهو ليس يهودياً، وَلَمْ يترعرع في بيئةٍ تقرأ الكتاب المقدس أو السفر المعني، وَلا تحتفظ مكتبتهم العائلية بنسخةٍ مِنه فِي حدودِ علمنا. فهو مسلم مِنْ مدينةِ السَماوة وأبوه الحاج عبّاس، نشأ وترعرع فِي بيئةٍ دينية محافظة عَلَى تقاليدها وموروثها الديني الإسلامي، ولا توفر ثقافة أبيه الإسلامية والمحيط الَّذِي نما فِيه وتمسك بطقوسِه أيّ فرصة لقراءةِ الكتاب المقدس لأبنائِه، فما بالك بالعهدِ العتيق والأكثر تمأزقا، مَا بالك بسفرِ نشيد الإنشاد بلغته المعقدة وإيحاءاته الجنسية والغزلية. فهذا النص لا يُمكن أن يُعَدّ نصاً دينياً أبداً، وقد فشلت كُلّ محاولات المرجعيات الدينية اليهودية والمسيحية فِي تبريرِ وجوده فِي العهدِ العتيق وترقيع دلالاته الروحية والدينية، فهو نص حسّي ملفّق ولا علاقة له بالآلهةِ ولا بالأنبياءِ ولا بالعباداتِ ولا بالطقوسِ التوراتية، بل هو ضدها فِي بعضِ المواقف والإستعارات المأخوذة مِنْ شعوبٍ يسخط عليها ” يهوه ” ويذمها ويدعو أبناءه إلى الانعزالِ عَنها وَنبذها “. وَيستمر الناقد سرمك فِي بحثِه قائلاً ” قد يعترض قارئ مقتدر بالقولِ إنَّ الكثيرَ مِن الشُّعراءِ يقرؤون مصادر معينة وَيتأثرون بِها. ثم هناك مخزون لاشعور الشَّاعِر الجمعي الَّذِي يتجاوز حدود الجغرافيا المَحَلِّيَّة وَيستند إلى رموزٍ ومكونات وتجارب مشتركة بَيْنَ جميع أبناء البشر. وأقول هذا صحيح .. ولكن أليس الأولى بشَّاعِرٍ عراقي مِنْ أهلِ السَماوة وهي تقع فِي دائرةِ حضارة سومر أنْ يحتفظ لا شعوره الجمعي بمخزونِ الحضارة الَّتِي نشأ وترعرع عَلَى أرضِها، وأحاطت بنشأتِه مؤثراتها وتفتحت ذائقته الثقافيَّة عَلَى منجزاتِها؟. وَهل سنصدم هَذَا القارئ المحق فِي تساؤلِه إذا قلنا إنَّ نشيدَ الأناشيد المكون مِنْ سبعِ صفحات مِن القطعِ الصغير، وحظى بتلالٍ مِن الكتبِ والبحوث والدراسات الَّتِي لم يحظَ بِمثلِها أيّ نص ” ديني ” قصير آخر، مأخوذ – بشهادةِ الكثير مِن الباحثين أو ” مسروق ” – مِنْ تراثِ سومر وتحديدا من ” أناشيد الحب السومرية ” وخصوصا أناشيد الزواج الإلهي على الرغم من أنني لأ أميل إلى تسميتها بتسمية ” أناشيد ” المتأخرة المأخوذة مِن التوراةِ وأفضّل تسميتها الأصلية : ” قصائد أو نصوص أو غنائيات سومرية “. ويؤكد سرمك بأسلوبِ المقارنة أنْ لا صلة لنصوصِ يحيى عباس السماوي بسفرِ نشيد الأناشيد، لا من الناحية اللغوية ولا التصويرية ولا المضمونية ولا الجمالية؛ إذ أنَّ بنيةَ الصوتين المتحاورين ” الحبيب والحبيبة ” فِي نشيدِ الأناشيد غير موجودة – بحسبِه – فِي نصوص يحيى مطلقا، فالنصوص كلّها قائمة عَلَى الصوتِ الواحد ” ضمير المتكلم “، وهذا حال الأغلبية المطلقة لقصائدِ السَماويّ يحيى عبر حياته الشعرية المديدة، وقد تكون نرجسيته الشِعْريَّة واحداً مِنْ أهمِ العوامل وراء هَذِه السمة الأسلوبية.

يـا أنـتِ
يـا مِـشـكـاتـيَ الـدُّريَّـةَ الأنـوارِ فـي لـيـلِ الـصَّـبـابـةِ
يـا أنـا
يـا كـوكـبـيْ الأرضـيَّ
يـا محـرابَ شِـعـري واعـتـكـافـي

يـا أوّل الـخـطـواتِ
فـي إســراءِ قـلـبـي نـحـو فـردوسِ الـهـوى :
مـن أيـن يـدخـلُ حـقـلـنـا
ذئـبُ الـتـجـافـي ؟

نـحـن ابـتـكـرْنـا لـلـهـوى لـغـةَ الـمـودَّةِ والـتـبـتُّـلِ
والـتـصـافـي

الـغـصـنُ لا يـجـفـو الـجـذورَ
ولــيــسَ مـن طــبــعِ الــضـفـافِ

أنْ تـرتـدي ثـوبَ الـرَّحـيـلِ
إذا تـعـرّى الـنـهـرُ مـن أمـواجـهِ بـعـدَ الـجـفـافِ

عـلَّـمْـتِـني الـتـحـلـيـقَ مـا بـيـن الـطِـبـاقِ
وكـنـتِ مـن صـدري وأجـنـحـتـي الـقـوادمَ والـخَـوافـي

أكـمـلـتُ سـِـتَّـاً فـي ســمـاواتِ الـطـوافِ
ولا يـزالُ الـقـلـبُ فـي بـدءِ الـطـوافِ

حـيـنـاً أسَــبِّـحُ مُـسـتـعـيـذاً بـالـقـطـوفِ الـدّانـيـاتِ
مـن الـفـيـافـي

وأفـيـضُ حـيـنـاً بـالـغـنـاءِ عـلـى مـقـام الـلـثـمِ
طـفـلاً يـرتـدي ثـوبـاً
مـن الـفـرَحِ الـخـرافـي

كـفـرَتْ بـغـيـرِ نـدى زهـورِ الـلـوزِ
كـاسـاتُ ارتـشـافـي

وكـفـرْتِ إلآ بـالـوفـاءِ
وبـالـعـفـافِ

مـتـلازمـانِ
كـمـا الـمُـضـافُ إلـيـهِ يُـلـزَمُ
بـالـمُـضـافِ

لـولاكِ لـم تـعـرفْ رغـيـفَ الـعـشـقِ مـائـدتـي
ولا اسـتـعـذبـتُ قـبـلـكِ مـتـعـةَ الإســراءِ مـن خـمـر الـضَّـيـاعِ
الى يـنـابـيـعِ الـسُّـلافِ

وكـتـبـتُ بـالـمـحـراثِ فـي تـنُّـورِ واديـكِ
اعـتـرافـي:

شـفـتـاكِ بـسـتـانـانِ مـن شـجَـر الـبـلاغـةِ
والـقـوافـي

فـأنـا وأنـتِ الـصَّـخـرتـانِ
وعـشـقـنـا ـ لا السـفـحُ ـ ثـالـثـةُ الأثـافـي
***
مَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ إنَّ السَّماويَّ يحيى شَّاعِرٌ سامق، وَتربويّ حاذق، وَوطَنِيّ أصيل، وَإنْسَانٌ ثائرٌ عَلَى الظلمِ وَالظلام، حملته صلابته وعشقه للحياةِ وَحبه للجمالِ مواجهة الأهوال، فقد ركب موجتي الأدب وَالسِّياسَة مبكراً مستعيناً بشِّعْرِه المتميز، وَفضاء الصحافة والإعلام الَّذِي تمددت آفاقه بشكلٍ واسع فِي محطاتِ الغربة؛ لأجلِ الإفصاحِ عَنْ معاناةِ الذات، فضلاً عَمَا يحمله الشَّاعِر السومريّ المهووس بعشقِ فراتي العراق ونخيله مِنْ همٍ إنسانيّ مرده إلى معاناةِ شعبٍ جهد سواده الأعم – وَمَا يَزال لليومِ يجهد – فِي البحثِ عَنْ هويته الإنسانيَّة المسلوبة قصد استعادتها. وَتدعيماً لِمَا ذكر حول وَطنية السَماويّ يحيى، مِن المناسبِ أنْ نشير إلى مَا توصلت إليه الباحثة السعودية إنصاف فيصل الحسني فِي رسالتها الموسومة ” شعر يحيى السماوي بين الرؤيا والإبداع ” الَّتِي نالت بموجبها درجة الماجستير فِي الأدبِ والنقد بتقدير امتياز مِنْ قسمِ اللغة العربية فِي جامعةِ أم القرى؛ إذ سجلت الباحثة ضمن نتائج الدراسة المذكورة مَا نَصه ” كان السماوي شاعراً وطنياً من الطراز الأول، وحتى مع تنوّع رؤاه الشعرية فإنها تدور حول نقطة واحدة هي الوطن، هو يحبه ويتغزّل فيه ويحنّ إليه ويشخّص أدواءه، ويقترح علاجات لها، ويستعرض مزاياه ويهاجم أعداءه، ويبكي ماضيه وحاضره ويأمل في مستقبله، وقد استطاع الشاعر بجدارة أن يحوّل حرقته وألمه إلى فنٍّ موظَّف في السياسة فاستغلّ واقعه وواقع شعبه المحاصر لإدانة النظام الحاكم بوجهه السياسي “. وَلعلَّ المذهلَ فِي الأمرِ أَنَّ السَّماويّ يحيى بالاستنادِ إلى معطياتِ سيرته الذاتية ” عاش الكهولة فِي صباه وَالشيخوخة في شبابه “، أمّا الطُفولة ” فَلَمْ يعشها – بحسبِه – كما ينبغي للطُفولة أنْ تُعاش “. وَفِي هَذَا السياق يقول السَّماويّ : ” لأنني لم أعش الطُفولة فِي الأمسِ البعيد، فقد بدأت أعيشها فِي حاضريّ منذ أنبتَ لي التبتّل جناحين خرافيين حلّقا بي وراء الأفق والمدى اللامتناهي، لأجدني في معبدِ إينانا السومريّ حينا، وفِي السماء السادسة حيناً آخر، فلا شيء أقاوم به شيخوخة المكان والزمان كالطفولة “. وَمِمَا هو جدير بالإشارةِ أنَّ السَّماويَّ دخلَ معترك الإعلام وَخاض غمار أمواجه المتلاطمة الصاخبة، فعزز فِي نفسِه بوادر التمرد وَالثورة عَلَى كُلِ مَا هو منتسب للقبح وَالظلام، وَفِي هَذَا السياق يقول السَّماويَّ يحيى أو ” شَّاعِر النهرين الَّذِي اختبرته الأيام، وَتوالت عليه المحن ” بحسبِ الأديبة ذكرى لعيبي مَا نصه : ” … نفعني الإعلام فِي الانتقالِ مِنْ فضاءِ الأحلام إلى صخرِ الواقع، أعني مِن الرومانسي الحالم إلى المنشغلِ بهمومِ المهمومين “. وتدعيماً لِمَا ذكر فإن السَّماويَّ عمل محرراً وَمسؤولاً للقسمِ السياسي وَالأدبي فِي إذاعةِ ” صوت الشعب العراقي ” المعارضة للنظام الديكتاتوري، وَقد وظف ذلك فِي قصائدِه وَنصوصه وَبرامجه لتكون أكثر تعبيراً عَنْ المعاناةِ الإنسانيَّة وَليس عَنْ همومِه الذاتية، مَعَ العرضِ أنَّ المثقفَ وَالأديب وَالفنان ملزم بعيشِ قضايا وطنه، وَعكس معاناة شعبه، فلا عجب أنْ يكون نتاجَه قراءة لِهَمِ الشعب.

بـهــواكِ لا بـالـشــمــسِ والــقَــمَــرِ
شـعَّ الـضـحـى واللـيـلُ في نـظـري

أعْـشَـبْـتِ صحـرائي بـمـا حـلُـمَــتْ
نــفــسـي بِــنـهــر الــودِّ والــشَـجَــرِ

لُـغـتـي ـ قُـبَـيـلَ هــواكِ ـ مُــبْـهَـمَــةً
كـانـتْ .. وطِــيـنـاً مُـهْــمَــلاً دُرَري

لَــكـأنــكِ الــفــردوسُ … ســاكِــنُــهُ
يـحـيــا عـلـى مـا شــاءَ مِــن صُــوَرِ

مـا زاغ مــنــهـــا نــحــوَ فـاحــشــةٍ
خـطــوٌ ولا ســارتْ عــلــى عَـــثَــرِ

شَــبَّـتْ عــلـى طُـهــرٍ فــحِـلْــيَــتُـهــا
ذَهَــبُ الـعــفـافِ وفِــضَّـــةُ الـخَــفَــرِ

ولـهـا اسْــمــرارُ الـخـبـزِ أنْــضَـجَــهُ
ربُّ الــرغــيـفِ ومُــنــزِلُ الـمَــطــرِ

تُــرْجـى ولا تَــرجـو .. كــأنَّ بــهــا
فـي مَـغْـــنَــمٍ عَــفٍّ عــن الــبَــشَـــرِ

بــيــنـي وبــيــن زهــور روضـتـهـا
مـا بــيــنَ مِــحــرابٍ ومُــعْـــتَـــمِــرِ

بَـلـغَـتْ مـكانَ الــضـوءِ مـن مُـقَـلـي
وبَــلـغْــتُ مـنـهــا غــايــةَ الـسَّـــفَــرِ

يَـهــمـي عــلـى أعـــنــابِ واحــتِـهــا
مَــطــري فَــيُـعــشِــبُ لــذّةً وطَــري
***
الأديب حافظ محفوظ المقيم فِي لندن كتب دراسة عَنْ ديوانِ السَماويّ يحيى الثالث عشر، وَالفائز بـ ” جائزةِ البابطين لأفضل ديوان شِّعْر ” الموسوم ” نقوش على جذع نخلة “، وَنشرها فِي مجلةِ ” الحوادث اللندنية “، وِمِنْ بَيْن مَا سجله محفوظ نقتطف مَا نصه ” في كل قصائد الديوان، يتفجر يحيى السماوي وطنية صادقة وغضباً مقدساَ على الظالمين وتجسيدا حياً للمظالمِ والمجازر البشعة التي شهدتها المدن العراقية، والتي يندى لها جبين الإنسانية خجلاً. وقد عبّر الشاعر يحيى السماوي عن معاناته بشعرٍ راقٍ وموهبة متألقة ومشاعر عفوية ورؤية عميقة صادقة لواقعِ وطنه الذبيح وحمّامات الدم اليومية التي تغسل أرض العراق الطاهرة “. كذلك أشار محفوظ فِي موضعٍ آخر مِن الدراسةِ قائلاً ” الديوان الذي تمتاز قصائده كلها ببهاءِ الشكل والمضمون وشفافية البوح وعمق الجرح الوطني والقومي والإنساني، لا يخلو من زوايا خاصة بالقلبِ العاشق والصائم على باب الهوى، كما في – صوتك مزماري، خذي بأمري وإغنميني – وسواها من القصائد، يقرع يحيى السماوي ناقوس العاطفة بيد رقيقة وعيون دامعة ومشاعر نبيلة وعشق راقٍ، وغربة عن الوطن والأحبة، لعله يعود ذات يوم إلى العراق حين يصبح معافى، ليقضي فيه بقية عمره، ويتحفنا بمزيد من إبداعاته الغنية المضاءة بوهج موهبته المتدفقة كالينابيع “. وَفي السياق ذاته نعود ثانية إلى الشَّاعِر السوري علي فرحان الدندح؛ لأجلِ تصفح دراستِه الموسومة ” الوطن في غربة الشاعر العراقي يحيى السماوي “، وَالَّتِي يذكر فِي متنها مَا نصه ” الشاعر السماوي يحاول من خلال أشعاره في غربته أن يقدم شعراً معارضا للديكتاتورية مقاوما للاحتلال، يقوم على غنائية محببة، ونظم عمودي وتفعيلي بعيد عن الخطابية، مثلما هو بعيد عن تقليد شعراء النخبة. وهو من خلال ذلك يريد العودة بالشعرِ إلى عفويته الأولى عبر وضوحٍ وسهولةٍ تعيدان الاتصال بين الشعر والشعب، فشعراء المقاومة كثر، أمثال لويس أراغون وبول إيلوار وخير الدين الزركلي، هؤلاء الذين أججوا روح الثورة لدى شعوبهم وأعطى كل واحد منهم أروع ما عنده في الحب الغنائي. والسماوي واحد من هؤلاء، بل تماهى في ذلك حتى غدت المرأة عنده هي الوطن، والوطن يطل من عيني المعشوقة، هو شاعر الحب، شاعر اليدين الممدودتين إلى الوطن؛ لأنهما إذ تحتضنان الوطن إنما تحتضنان ذات الشاعر التي ذابت متماهية بذات الجماعة … وهكذا نرى أنّ الكلمات لدى الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي، مؤثرة بما تحمل من شحناتٍ شعورية قوية، فهي تهز الوجدان، وتـُشـعر الروح بالطمأنينة “. وَيضيف الدندح قائلاً ” لا يخفى أنّ ليلى المح*بو-بة لدى الشاعر هي الوطن الأم ” العراق ” الذي يهيم به كما هام المجنون بليلاه .. ومع أنه ابتعد عن وطنه مرغماً وحاول أن يُغـَيّـِب صورة وطنه التي تبعث في نفسه الألم والحسرة، إلآ أنها كانت تتسرب إلى روحه ، وتحتل قلبه “. وَيختم الباحث مباحث دراسته هَذِه بالحديثِ عَنْ قوةِ شاعرية السَماوي يحيى ورؤيته إلى القصيدةِ بالقول ” يبدو جلياً كمبدع، تمكنه من انتقاء كلماته ونظمها في نسق موحٍ، فالقصيدة في مفهومه، ليست صورة فوتوغرافية للعالم كما هو كائن ننشرها في صحيفة أو كتاب، بل هي صورة لما يجب أن يكون عليه العالم، صورة يبدعها الشاعر مستعيناً بالبيان عبر محاولة لتجديده وإحياء ما انطفأ منه “. وَيخلص الدندح فِي ورقته البحثية إلى ” إنَّ شعرَ يحيى السماوي يشكل إضافة جديدة للشعر العربي المعاصر، تنير للأجيال دروب حلّ المعادلة الصعبة بين الاستسلام لتقليد الوافد الجديد أو الركون إلى سحر التراث “.

***
تَــعِــبَ الــهــوى مِــمّــا نُــحَــمِّــلُــهُ
مـا لا يُــطــيــقُ الـسُّـهْــدُ مـن سَــهَــرِ

يَــمَّــمْــتُ قــلــبـي يــومَ مــولِــدِهـــا
فَـوُلِـدْتُ طِـفـلَ الـعِـشــقِ فـي كِــبَـري

حُــبٌّ ـ ولا مِـــثــلٌ ـ سَــــمَــوتُ بــهِ
بــيــن الـــثــرى والأنــجُــمِ الــزُّهُــرِ

هـامَــتْ بـمـا أُخـفـي وهِــمْــتُ بــمــا
جَـهَــرَتْ بــمـاءِ عـفـافِـهـا الخَــصِــرِ

وحـدي بــهــا والـعــشــقُ ثــالِــثُــنــا
نَـسْـتـافُ طِـيـبَ الـمُـزهِــرِ الـنَّـضِـرِ

مَـلَّــكْــتُـهــا أمـرَ الأســيــرِ ســعــى
لـلأسْــرِ ســعـيَ الـعــزمِ لـلــظَــفَــرِ

لـيْ بَــيْـدَرٌ .. لــولا سَـــنــابــلُــهـــا
مـا كـان ذا حَــصْــدٍ لِــمُــنــتَــظــِـرِ

مَحَـضَـتْ كـؤوسي خَـمْـرَ كُـرمَـتِـهـا
ومَـحَـضْـتُ حَـقــلَ وفــائِـهـا غُـدُري

يــومـي بــهــا جِـــيــلانِ مِــن فَــرَحٍ
بـعـضُ الـهـوى مـن رِزقِ مُــقــتـدرِ

تـا لــلــهِ لا مـعــنــىً لِــمُــبْــتَــدَئــي
إلآ وسِـــفْـــرُ هُــيــامِــهـــا خَــبَــري

لقد قُدِّر للسَماويّ يحيى أنْ يعيشَ محنة اغتراب مريرة، بعد أنْ رحلَ عَنْ وطنِه، مخلفاً وراءه أحبة وَذكريات طُفولة وَشقاوة صبى، وَحاملاً فِي ذاتِه معاناته الَّتِي ألجأته إلى الاغترابِ عَنْ ذويه وَعذب فرات سَماوتِه وَفَيْء نخليها الَّذِي لا يظن أنَّه سوف يرى مثله فِي غيرِ مدينته أو جنته الأرضية مثلمَا يشير إليها بشكلٍ دائم مِنْ منفَاه القسريّ، فضلاً عَمَا استجد مْنْ ألمٍ وَمعاناة فِي بلدانِ المهجر؛ إذ ليس هناك مَا هو أشد مرارة عَلَى المرءِ مِنْ تركِ وطنه وَمسقط رأسه مكرهاً، فلا غرو أنْ يعكس عشقه وطنه بمدادٍ يرسم مِنْ خلالِه لوحاتٍ بارعة التشكيل، أنيقة ألوان الوجد، محكمة ظلال الرُؤْيَة؛ لأنَّ مفرداتِ شعره تخرج صافية مِنْ أعماقِ قلبٍ جُبِل صاحبه عَلَى حبِ وطنه، حيث يمكن الجزم بأنَّ مدحَ السَماويّ يحيى وطنه بالمعبرِ والجميل مِنْ القريضِ، وتخليده مآثر شعبه وَأمجاده بقصائدَ شعريةٍ طافحة بألحانٍ وإيقاعات وجدانية فِيها عذوبة وَحلاوة، إلى جانبِ اعتماده مَا ينتمي إلى مدرسةِ ” السهل الممتنع “، وَالَّذِي ساهم فِي بلوغِه عتبةً عالية مِنْ الشاعريةِ وَالعمق وَالبلاغة اللغوية، يعبر فِي مجمله عَنْ الإحساسِ بالانتماءِ للوطن. وَهي مناسبة لتذكيرِ الأدباءِ وَالكتاب وَالفنانين وَغيرهم مِن النخبِ الثقافيَّة حول ضرورةِ الشروع بِإِنْتَاجِ أعمالٍ ثقافيَّة وَفَنِّيَّة بوسعِ مضامينها المُسَاهَمَة فِي تعزيزِ الثَّقَافَة الوَطَنيّة وَترسيخِ قيم التماسك الاجْتِمَاعِيّ، بالإضافةِ إلى استحضارِ كُلِّ مَا مِنْ شأنِه المعاونة فِي تعزيزِ اللحمة الوَطَنيّة، وَغرس مشاعر الألفة وَالولاء وَالانتماء الوَطَنِيّ فِي نفوسِ النشء الجديد. وَلا نبعد عَنْ الصَوَابِ إذا قُلْنَا إنَّ نتاج السَماويّ خلد حب الوطن فِي الكثيرِ مِنْ قصائده، ولعلَّ مِنْ بَيْنَ الدراسات الأكاديمية الكثيرة الَّتِي تناولت هذه الجزئية المهمة، هي دراسة الباحثة العراقية هدى مصطفى طالب الأمين لنيل شهادة الماجستير الموسومة ” البنية الدرامية في شعر يحيى السَماويّ “، وَالَّتِي مِنْ بَيْنَ نتائجها الأربعة عشر، مَا يعزز بحثنا فِي هَذِه الفقرة بالذات، حيث خلصت الأمين فِي إحدى النتائج المتحصلة مِنْ دراستها المذكورة آنفاً إلى مَا نصه ” يتضح الصراع الخارجي في إشكاليته مع الاحتلال والسلطة الحاكمة وضياع الوطن والشباب، ومما يلفت الانتباه إن الوطن يمكن أن يكون محور الصراعين الداخلي والخارجي، حيث تتصل المرأة اتصالاً وثيقاً بالوطن ويصعب الفصل بينهما، وكذلك نجد التماهي بين المرأة والوطن، ويمكن أن نعده مظهراً من مظاهر الصراع الخارجي، حيث يرفض الاحتلال أو ضياعه على أيدي الحكام المستبدين، فضلاً عن ذلك يجسد الشاعر الصراعين – الداخلي والخارجي – وذلك من خلال تقنية المفارقة والمونتاج “. ولعلّ مِن المناسبِ أنْ أشير هُنَا إلى مَا سجلته الأمين فِي مقدمة رسالتها آنفاً، وَالَّتِي جاء فِيها تالياً ” إنَ للشاعر العراقي يحيى السماوي مكانة متميزة في الحياة الثقافية العربية المعاصرة، حيث يتمتع هذا الشاعر بذكاء وحذق شعريين مكناه من النهوض ببنية قصيدته إلى درجة عالية من الفنية والتميز، إذ مكنته مواهبه المتعددة في كتابة – الدراما – من أن ينجز نكهة خاصة امتاز بها عمله دائماً، ولاسيما أن معظم أعماله جاءت نتيجة لهذا المسعى المحفوف بالمخاطر الإبداعية بين هموم الحياة وطموح الكتابة، للارتقاء باللغة العربية وإن كان شكلياً إلى مجاراة العصر، وقد مكنه ذلك من أن يقدم نفسه للقارئ بوصفه شاعراً مجدداً وعلى أكثر من صعيد ” وتضيف الأمين أيضاً مَا نصه ” تكتنز نصوص يحيى السماوي عناصر الدراما نتيجة لامتلاكه هذه الرؤية المركبة في الشعر والدراما، مما يطبع نصوصه بطابع خاص فيه الكثير من المميزات المستقلة المشبعة بالدراما “.
بُــلِــيْــتُ بـمُــسـتــلــذَّاتِ الـلــيــالـي
فـكـنـتُ ضـحِـيَّــتـي .. فـأنـا وَبـالـي
*
وأغـوانـي الـشــبـابُ .. فـلـيـتَ أنـي
قـفـزتُ مـن الـشـبـابِ الـى اكـتـهـالِ
*
تـحَــرِّضـنـي خـطـايَ عـلـى دروبٍ
تُــقــايــضــنـي الـحـجـارةَ بـالـلآلـي
*
لَـهَـوْتُ عـن الـصـبـاحِ بـأنـسِ لـيـلٍ
وبـالــكـأسِ الــسَّـرابِ عـن الــزلالِ
***
الشَّاعِرُ وَالناقد وَالروائي الراحل الدكتور غازي القصيبي ” طيب الله ثراه “، ضمن كتابه النقدي ” صوت من الخليج “، دراسة قيمة عَنْ شاعريةِ السَماويّ يحيى وَسمها بـ ” يحيى السماوي هذا الطائر الجريح المغرد “. ولأهميةِ هَذِه الدراسة، أجدني بعد أنْ استسلمت لدموعي شغوفاً للفتِ انتباه القارئ الكريم بمضمونها وَكما مبين تالياً ” منذ سنين طويلة، وأحسبني كنت في المدرسة الثانوية وقتها، قرأت في كتاب مثير من كتب الناقد الساخر مارون عبود عبارة مثيرة نسبها إلى أديب فرنسي شهير. سقط أسم الكتاب، وإسم الأديب الفرنسي، من ثقوب الذاكرة وبقيت العبارة ” الشعراء الكبار نادرون، بل انهم أندر من العلماء الكبار “، وصف ” الكبار” يخيفني، فالشاعر قد يكون كبيراً في الحجم، ولا مبرر للأمثلة!، وقد يكون كبير المقام، والأمثلة كثيرة. كما أن تعريف ” الشعراء ” قد يكون محل أخذ ورد، وبالتعريف الواسع، لا توجد ندرة في الشعراء بين العرب. مؤخرا، أعلن القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية عن مسابقة للشعر فتقدم اليها مئات الشعراء من أقصى الوطن العربي الى أقصاه. وعدد الأمسيات الشعرية في الأمة العربية لا يكاد يعادله إلا عدد المؤامرات على هذه الأمة. فلنعدل إذن عبارة صاحبنا الفرنسي الذي ضاع إسمه ولنقل : أن ” الشعر الحقيقي نادر “. من هنا يجيء فرحي كمتذوق يتوهم انه يستطيع التفرقة عفويا بين النظم والشعر إذا إلتقيت ببيت رائع، أو مقطع مؤثر، أو قصيدة نابضة. ومن هنا يجيء حرصي على أن يشاركني الفرح أكبر عدد ممكن من الناس. إليك إذن أيها القارئ العزيز باقة من الشعر، الشعر الحقيقي النادر، من بستان الشاعر العراقي يحيى السماوي. أنظر كيف تتفجر الغربة شعراً في قوله :
أكاد حتى رفات الميت أحسده
غداة يملك أرض القبر في بـلــدي
وقوله :
وطني؟! يُقال بأن لي وطناً فما
أبصرته.. إلا وقيدي في يــــدي
وأراه أحيانا ينام كطعـنـــةٍ
فوق الخرائط.. أو بصوتِ المنشد
قال أبو سهيل : اذهب أيها السماوي فلم يسبقك إلى ” طعنة فوق الخرائط ” أحد!. وأسمع خوف الشاعر إذا عاد إلى وطنه في يوم لا ريب فيه، بإذن الله، فلم يعرفه أحد :
أتعرف عاشقا قد كان طفلاً غداة مضى.. وجاء به المـشيبُ؟!
غـداً آتي.. فلا شفة تغني مواويلي.. وتنكرني الـــدروبُ
وتطفـأ ضحكة كحفيف زهرٍ ويومـئُ نازل ” هذا غريــبُ “!
وفي الغربة يقدم الشاعر النازح أروع التحيةِ الى الوطن المعطاء الذي أستضافه شقيقا قريبا من شغاف القلب.
يقول عن مكة المكرمة :
حجَـت لها قبل الأنام سماؤها بحجيج ســجيل على سُلابهــا
أرض تكاد لفرط عزة رملهـا يروي عطاشى الماء وهِجُ سرابها
قال أبو سهيل : ولم يسبقك أحد من شعراء أم القرى ولا من حولها في “حجيج السَجيل “
ويقول عن أبها الحسناء :
نسلت من الشجر الوريق ضفيرة ومن الجبال الشاهقات ســريرا
ومــن النجوم قلادة بدويــة ومن الغيوم الطيبات بخـــورا
قال أبو سهيل : لا يُقدر الشطر الأول من البيت الأول قدره إلا أهل الخليج الذين يتحدثون، حتى بلغتهم العامية، عن فتاة “تنسل شعرها“.
ماذا عن قلب العاشق في الغربة؟!
يدعي شاعرنا أنه لا يستطيع أن يحب إمرأة ما دام بعيدا عن وطنه، وأنه سيؤجل الحب حتى العودة :
لو كان لي بيتي ولي وطني لم أتخذ غير الهوى نسبا
إلا أن إدعاء الشاعر يذكرنا بتصريح الأخطل الصغير :
كذب الواشي وخـــاب من رأى الشاعر تــاب ؟!
وصدق الأخطل الصغير !
هذا هو شاعرنا ينظر إلى إبنة العشرين متحسراً :
وأوَاه كم يؤلم هذا الشجن هنا :
قد اعتنقتِ من الدنيا مباهجهـا اما أنا فهموم النـاس أعتــنقُ
لقد شربتُ.. ولكن لا كما شربوا وقد عشقتُ.. ولكن لا كما عشقوا
وهنا :
فإذا إق*ت*لعت الرمح من جسدي غرس الأسى رمحين..والوطن
أفكلما نفّضت مركبتــــي ……. نفضت عليَّ جراحها المُـدُن ؟!
وبعد :
تحية شكر عميق للأديب الصديق عبد المقصود خوجه الذي نشر للشاعر مجموعة ” قلبي على وطني “. وتحية شكر عميق لنادي أبها الأدبي الذي نشر مجموعة الشاعر الأخرى ” من أغاني المشرَد “.
أما أنت أيها الطائر الجريح فقد أوشكت عيني تدمع وأنا أقرأ :
غداً إذا غفوتَ…من يا ترى يسقي حقول الورد من بعدي ؟!
لا أدري يا أخي…
لا أدري !
جرّبتِ عاج الموسرين..فجربـي طين الفقير.. وإن جفاه بريـقُ
أغويتني بالحسن.. وهو طريدتي فطرقتُ.. لكن صدني المطروق
فرقتِ ما بيني وبيني فاجمــعي بعضي إليَّ.. أضرني التفـريق
قال أبو سهيل : لا يلومن كهل أحب إبنة العشرين إلا نفسه !
وإليك هذا المشهد الطريف في الطائرة :
كشفت لترشف قهوة فإذا الدجى صبحُ طري الضوء غض المنهل
وجه يفيض عليه نهرُ أنوثــة ونسيمُ غاباتٍ.. وشقرة ســنبل
صرخ شاعرنا في المضيف :
بالله يا هذا المضيف.. لحظــة ! زدني ! ولا تبخل علي فأجمـل !
لا لن أخضَ يدي سأشرب “دلة” إن كنت في فنجانها ستصب لـي
لا أدري ما فعل المضيف، ولا ما فعلت ” الدلة ” ولكني أعرف أن هذه الأبيات تكاد تكون الابتسامة الوحيدة في ” ليل الشجن ” كما يقول شاعرنا محمد الفهد العيسى.
ترى لو أمد الله تعالى بعمرِ القصيبي، فماذا سيكتب لو قدّر له أنْ يقرأ بوح السَماويّ فِي سداسيته التالية ؟:

يــا مَــنْ لُـــمــاهُ قـــرَنْـــفُـــلٌ وخُــزامــى
أنــا مــا طــلـــبْـــتُ سُـــلافــةً ومُــدامــا

قـد جــئــتُ أســتـجـدي زفــيـرَكَ لا طِـلاً
وعــصــيــرَ أعـــنــابٍ تـعَــتَّــقَ عــامــا

أدمــنــتُ فــيــكَ تـــبـــتُّــلاً فــأنــا امــرؤٌ
عَـــفٌّ … ومـــثــلـــكَ أنــبـــذُ الآثــامـــا

إنْ كـانـتِ الـقُــبُـلاتُ تـُـفـطـِـرُ صـائــمــاً
أو كـانَ رشـــفُ نـدى الــشـفــاهِ حَـرامــا

فهـلِ الـعـنـاقُ ضُحىً سَــيُـفـسِـدُ مُـمْـسِـكـاً
مـا ذاقَ مـن بـعــدِ الــسـحـورِ طـعــامــا ؟

فــتـوايَ : شَــمُّ الـوردِ لـيـسَ بِـمُــبـطِــلٍ
فـي شــرعِ عـشَّـاقِ الــورودِ صِــيــامـا
فِي عامِ 2008م، صدر عَنْ مؤسسةِ اليمامة الصحفية كتاب الشاعرة وَالناقدة السعودية الدكتورة فاطمة القرني الموسوم ” الشعر العراقي في المنفى… السماوي أنموذجا “، مَعَ العرضِ أنَّ أصل هَذَا الكتاب الَّذِي يقع في أكثر مِنْ ثلاثمائةِ صفحة هو بحث أكاديمي لنيل درجة الأستاذية فِي النقدِ الأدبي. وحسبنَا مَا سجلته القرني عَلَى غلافِ كتابها، وَالَّذِي نصه ” لا شك في أن الإبداع كممارسة محصّـلة لحال من الإنتفاء اللاإرادي للذات المبدعة.. حال تتجرد فيها تلك الذات من كل موجودات المحيط المُحاصِر لها أحياءً وأشياءً على السواء، لا لتتنكر لتلك الموجودات المُشـَكـِّلة لكيانها هي أصلاً، وإنما لتحقق نوعا من أنواع الإخلاص في النظر إليها وتأملها واستنطاقها للبوح بما هو أصدق وأغـنى في التعبير عن كل أطراف المخاض الإبداعي – الأنا… والآخر القريب والبعيد… والقول الشعري نفسه – تعبيرا مجسّداً لأحد ملامحها جميعا… موضوعاً ومكاناً، وزماناً كذلك.. وإذا ما قـُدِّر لمبدع ما أن يكابد أزمة محتدمة كهذه في حميم نفي خارجي قسري من سلطة غاشمة أو نظام ظالم – كما هي حال يحيى السماوي – فإن إنسانية التجربة.. تجاوزها.. ولا نهائيتها ستسفـر عن غـنىً إبداعي موّار لا سقف لامتداد أبعاده، ولا قاع يمكن تصوره لوقدها المحفـِّز لإنسان هذه الأرض.. وهذه الدراسة تتلمس طريقها مخلصة لتحسس التنويعات التي انبنت عليها تقاسيم صوت السماوي.. نافياً.. منفياً.. مفتوناً بالعراق ومُفتتناً عنه.. مستعيداً ومُشكـِّلاً من خلال المرأة، من منفاه وبمنفاه تفاصيل الوطن – النموذج – الحلم البهيّ الذي لم يفلح رغد البدائل – وما أكثرها – في تسكين جذوته أو ترميد ألقه “.

أرَضَعـتِ مـن مُـقـلِ الزهـور عـطورا ؟
أمْ كـان مـهــدُكِ يــا بــتــولُ زهـــورا ؟

أثـمَـلـتِـني برحـيـقِ صـوتِـكِ فانـتـشـتْ
روحٌ تــنــفّـــسَــتِ الــدخــانَ دُهـــورا

أمـسَـيْـتُ مـمـسـوسـاً وكـنـتُ عَـهِـدتُني
جَـلِــداً عـلـى أمــرِ الـهــيــامِ صَـبـورا

لا تـحـذري نـاري فـإنّ أضــالــعــي
حَـطـبي ولـسـتُ بـمَـنْ يخونُ ضَـميرا

أدريـكِ طـاهـرةً .. وحـسـبـي أنـنـي
عـاهــدتُ ربـي أنْ أمــوتَ طـهــورا

فـتـدَبَّــري أمْــرَ الــغــريـبِ فـإنــهُ
طـفـلُ الـمـنى لا يـحـسِـنُ الـتـدبـيـرا
***
دراستان كتبت فصولهما مَا بَيْنَ تونس وبغداد، قاسمهما المشترك مثابرة السَماويّ يحيى وَحبه وطنه وَحضوره فِي وجدانِ المتلقي، هو أحدث مَا اطلعت عَلَيه عَنْ تجربته الشعرية، أولهما دراسة الكاتب وَالباحث التونسي د . محسن العوني الموسومة ” الوطن منشوداً وموجوداً في شعر يحيى السماوي “، وَالَّتِي بدأها بمقدمةٍ عَنْ ثلاثيةِ الوطن، الإنسان والحلم قائلاً ” الوطن بلا إنسان لا يعدو أن يكون قطعة أرض تحت سماء، أو دُونَمَا سماء؛ ذلك أنّ العلاقة والحميميّة والذاكرة هي التي تصنع الوطن وتنشئ الارتباط، إذا انقطع الحلم وَقَعْنَا في العَدَم، والإنسان مدعو إلى أن يبقى طول حياته وحتى آخر لحظة بحالة حُلْمٍ أو على قيد الحلم. الحُلْمُ هو الحقيقة التي ستأتي، إن لم يكن هنا فَهُنَاكَ، وإن لم يكن في هذه ففي تلك. أَحْلاَمٌ تَتَحَققُ وأُّخرى تسقطُ وتُسْتبدل بغيرها، ويبقى الحُلْمُ “. ولأجلِ تفصيل غاية بحثه بحدودِ مشكلة البحث ينتقل العوني إلى الغوصِ فِي تجربةِ السَماوي الشعرية، وَالَّتِي نقتطف مِنها النص التالي ” المدوّنة الشّعريّة للشاعر العربي الكبير يحيى السّماوي تُؤكّد هذا التوجّه وتُزكّي هذه القراءة، فقد ظلّ الوطن لديه حُلْمًا ماثِلاً في مخيّلته أكثر مِمَّا هو حقيقة على الأرض وواقعًا، صرْخَتُهُ المُدويُّة المُوجعَة في قصيدته – لا تذبحوا حبيبنا العراق – لا تُفهَمُ إلاّ على هذا الأساس، العراق مَنْشُودًا ومَأمُولاً، العراق الحلم.. لا العراق الواقع “. وَيسجل العوني فِي ثنايا دراسته مَا يساهم فِي توضيحِ ثيمة البحث بالاستناد إلى أدلةٍ واضحة، مستعيناً بمنتخباتٍ مِنْ أبجدية السَماويّ يحيى حيال بعض مَا مضى مِنْ وقائع، وَالَّذِي اخترنا مِنه قوله ” إنّ الدارسَ لأعمال الشّاعر يحيى السماوي لا بدّ وأن يتوقف عند ظاهرة لافتة وهي كثرة الدّواوين التي خصّ بها وطنه العراق بشكل مباشر، بقطع النظر عن الجوائز التي استحقها الشاعر بجدارة لقاء بعض أعماله الشعريّة، فإنّ جائزته الحقيقيّة الكبرى وتتويجه هي إقبال القرّاء والباحثين والدّارسين على أعماله وهذا الاحتفاء الذي يقابل به حيثما حلّ والحالة الوجدانيّة التي أنشأها وجعلت القلوب والعقول والعيون تّتجه نحو العراق وتتعاطف معه بفعل الحبّ الذي زرعته نُصُوصه وحوّلته إلى رمز من رموز بلاد الرافدين تماما كالنّخل والجنائن المعلّقة “. وقد ختم الباحث مبحثه الأول بحسبِ منهجية البحث المعتادة بعبارة بليغة وَمعبرة، يقول فِيها ” شعر يحيى السماوي قلادة على صدر العراق، لم تصنعها أكبر دور المجوهرات في العالم، ولا يمكنها أن تفعل؛ إنّها قلادة حبّ وجمال وولاء وفداء.. وهنيئاً للعراق “. أما الأخرى، فهي دراسة نقدية عَنْ ديوانِ السَماويّ يحيى ” حديقة من زهور الكلمات ” الَّتِي كتبها الناقد العراقي احمد فاضل وَوسمها بـ ” جولة في حديقة شاعر “. وقد تطرقت هذه الدراسة إلى جملةٍ مِن السماتِ الَّتِي ساهمت فِي تشكيلِ خصوصية تجربة السَماويّ الشعرية باستعراض العديد مِنْ المواضيعِ الَّتِي نذكر مِنها هُنَا ثلاثة إضاءات، أولها اهتمامه بالموروث الشعبي الَّذِي يشير إليه فاضل بالقول ” السَماويّ بشهادة جمهرة واسعة من النقاد، يعتبر الأكثر ثراءً في توظيف الفولكلور الشعبي باستخدامه لأبجدية حروفه الأقرب للمتلقي من حيث التأثير، ساعدته في ذلك سعة اطلاعه على مراجع أدبية كثيرة بحكم دراسته في الجامعة وقراءاته العديدة للملاحم الشعرية العربية والفارسية القديمة “. وثانيها أنَّ السَماويَّ يُعَدّ أكثر شعراء عصره المحدثين إنجازاً وأكثرهم قراءة، وكما يقول فاضل ” لم تخلُ نصوصه من العاطفة والوجدان، الأسطورة والرمز، الظواهر الحياتية والدين، والثيوصوفي المتصل بأحوال الصوفية، فممارساته العديدة في كتابة نص مبتكر جعلت من قصائده تعيش أجواءً متحركة غير جامدة “، فِيما يشكل السهل الممتنع ثالث أغراض الدراسة، حيث يشير فاضل إلى ذلك بالقول ” السَماويّ يدرك المعاني الممكنة لكلمات قصائده فيضع لها قواعدها لتأخذ أبعاداً حقيقية ممزوجة بخيالية سحرية ورمزية غير معقدة “

***
ماذا أريـدُ ؟ سَـلي نـمـيـرَكِ مـا الذي
يـرجـوهُ عـشـبٌ لا يـطـيـقُ سَـعـيــرا

وسَـلي قطوفـكِ صبحَ وجهِـكِ واسألي
لــيـلاً يـتـيـمَ الـنـجـمِ شَــلَّ بـصـيـرا

يـعـدو وراءَ هـديـلِ صـوتِـكِ حـامـلاً
قـلــبــاً بــريءَ الـعــنــفــوانِ غــريـرا

أمْـسَــكـتِ عـنـهُ قـرنـفــلاً وربـابـةً
ورغــيـفَ صـحـنِ مـودَّةٍ ونــمــيـرا

لا تـحـرمـيـنـي لــذّةَ الـمـوتِ الـذي
أحـيـا بـهِ فـي الـعـاشـقــيـنَ دهـورا

لو تعلميـنَ بـمـا كـتـمتُ عـذَرتِـنـي
وغـدوتِ ليْ في اللائـمـيـنَ عـذيـرا
***
يذكرُ الناقد السوري عصام شرتح فِي آخرِ فصول مؤلفه الموسوم ” آفاق الشعرية – دراسة في شعر يحيى السماوي “، وَكأنَّه أراد به مسك الختام لوليده النقدي مَا نصه ” هذه باختصار رؤانا عن شاعرية يحيى السماوي… إننا لن نقول كما قال غيرنا إنه شاعر غنّى فأبدع، بل نقول : إنه شاعر جمالي يعزف على الجمال… خبزه الطيبة، وروحه الشفافية الإنسانية الطاهرة، ولحنه صوته الدافئ وتراكيبه العذبة. إنه السمو الجمالي بكل شيء. هذا هو السماوي كما وجدته في ثنايا قصائده؛ محلّقا في فضاء الشعرية وألقها المستمر على الدوام “.
لَمْ يكن بوسعِ الشَّاعِر العراقي زاحم جهاد مطر، كتم إعجابه حيال روعة شعْر السَماويّ يحيى وَرونقه وَعذوبة معانيه، فانبرى ذات مساء يصف جمالية إحدى قصائده قائلًا ” ادخلتنا كعادتك في عوالمٍ روحية وفضاءات واسعة من الجمالِ اللامتناهي والزاخر بأعاجيبِ التصاوير وَنوادر التعابير وَلطائف الجمل والاقوال؛ انها عوالم من البهجة والتوهج حيث تتآلف الاشياء في بوتقتك وتنحني لنحت ازميلك الحريري وتهدأ العواصف والاعاصير على شواطئك لتغدو نسائم تداعب وجه الماء لتهتز وترتعش منتشية جذلانة وهي تسبح في نور؛ أي عالم يجمع كل هذا الجمال؟ غير العالم الذي يصنعه السماوي “.
مِنْ المعلومِ أنَّ شهاداتَ الإعجاب بروعةِ أداء السَماويّ يحيى شِّعْراً، كثيرة وَليس بمقدوري تضمينها دراسة واحدة أو حتى دراسات عدة، فعَلَى سبيلِ المثال لا الحصر، الشَّاعِر وَالمترجم حسين السوداني يشاطر المقاماتي زاحم جهاد مطر إعجابه بشاعريةِ السَماويّ يحيى ويسجل فِي أحدِ المواقع الإِلِيكْتُرُونِيَّة مَا نصه ” قصائد أخي وصديقي الحميم – يحيى السماوي – تشبه شجيرات الورد في الحدائق، كل صورة جمالية في هذه القصائد عبارة عن زهرة لها شذاها الخاص ولها نداها. ومازالت أزهار قصائد حبه المقدس عطرة ونظرة وندية لا تذوي كما ذوت أزهار حبنا في ثلوج المنافي “.
***

لا زال قـيـسُ بـنُ الـمـلـوَّحِ نـابـضـاً
والـعـامــريــةُ تــســتــفــزُّ خــدورا

إنْ كان قـلـبـي مُـسـرفـاً بـهُــيـامِـهِ
فـلأنَّ عــشـقـي يـأنـفُ الـتــقــتـيـرا

حـسـبـي أرى ضـعـفـي أمامـكِ قـوّةً
ورداءَ ذُلّــي فـي هــواكِ غـــرورا

لا تـوصِـدي أبـوابَ مـمـلكةِ الهـوى
فـالـعـشـقُ أرسـلـنـي إلـيـكِ سـفـيـرا

قـدَّمـتُ أوراقَ اعـتـمـادي : نـخـلــةٌ
تهبُ النضيدَ وتـحـضنُ الـعـصـفـورا

وتـرشُّ دربَ الـعـاشـقـيـنَ بـظِـلِّـهــا
وتـمـدُّ مـن هـدبِ الجـفـونِ حـصـيـرا

أمَـرَ الهـوى قـلبي فـجـئـتُ مُـبـايـعـاً
عـيـنـيـكِ داراً والــفــؤادَ عــشــيــرا
***
بخلافِ مَا يظنه بعض القراء، يؤكد السَماويّ يحيى إنَّ شِّعْرَ التفعيلة أكثر مِن الشِّعْرِ العمودي فِي أغلبِ دواوينِه الصادرة، حيث أنَّ للشِّعْرَ عنده ثوابته الأساسية؛ لذا يستخدم العروض، لكن ذلك لا يعني – بحسبِه – : ” تزمّتا بقدر مَا يعني شغفاً بموسيقى الشِّعْر “. وَيضيف السَماويّ – الَّذِي يعشق الموسيقى عَلَى الرغمِ مِنْ عدمِ أجادته العزف حتى ولو عَلَى صفيحةٍ فارغة – : ” إنني أقرأ قصائد النثر أكثر مِن قراءةِ الشِّعْر الفراهيدي بشقيه العمودي والتفعيلي، وَحدث يوماً أنْ أخبرني صديق أنه قرأ قصيدة جديدة للشَّاعِرِ هادي الناصر وقصيدة عمودية جديدة لصديق شَّاعِر، فكان جوابي له : أسرع بإرسال قصيدة هادي الناصر. وحدث ذات شغف أن وصلني ديوان الصديق الشَّاعِر جواد الحطاب الموسوم إكليل موسيقى على جثة بيانو، وكنت علَى موعدٍ مَعَ الطبيب، فتفرغتُ لقراءةِ الديوان، وَأهملت موعد الطبيب عَلَى الرغمِ مِنْ أنَّ خيولَ داء الربو كانت تطحن صدري وقتذاك “.
***
أنا مَنْ أنا ؟ ماعـدتُ أذكـرُ فانـشـري
خَـبـري عساني أسـتـعـيـدُ حـضـورا

خـوفي علـيـكِ إذا رفـعـتُ شِـكـايـتـي
يومَ الـحـسـابِ وقد ظـلـمـتِ حـسـيـرا

شـفـتي بهـا ظمأ الـرِّمالِ ألا اسـقِـنـي
من كأسِ مـبـسـمكِ الضحوكِ زفـيـرا

يـا بـنـتَ سـومـرَ لـلـمـشـوقِ عـذيـرُهُ
لـو جـازَ فـي تـهـيــامـهِ الـمـحـظـورا

أيـن الـهـروبُ إذا الـصّبابـةُ حمحـمتْ
واسـتـنـفـرتْ شغـفَ الـفـؤادِ ظـهـيـرا ؟

جَــيَّــشـتُ أشــواقـي فـأيُّ دريــئــةٍ
تُـنـجـيـكِ مـن لـيـلٍ يـراكِ مُـنـيـرا

حـربـي مُـقـدَّســةٌ … فـإمّـا قــاتـلاً
أغـدو فــأقـتـل بـالـنـسـيـمِ هـجـيـرا

أو أنْ أخـرَّ عـلـى يـديـكِ تـوسُّــلاً
أنْ تـأخـذيـنـي مـا حـيـيـتُ أســيـرا
أنجز الدكتور محمد فليح الجبوري وَالأستاذ علي كتيب دخن التدريسيان فِي كليةِ التربية – جامعة المثنى دراسة وسماها بـ ” التصوير الرمزي في شعر يحيى السماوي شعر التفعيلة أنموذجاً “. وقد أكد الباحثان أنَّ فكرةَ بحثهما مردها بحسبهما إلى مَا لتقنيةِ الرمز من تأثيرٍ فعّال في تثويرِ دلالة النص الإبداعي من خلال تكثيف الدلالات بمساحةٍ ضيقةٍ ومحدودةٍ، مع توفر البعد الدلالي الذي ينفتح على تشظي التأويل، وَإنَّ الشاعرَ يحيى عباس السماوي لم يكن بعيداً عن هذا التوظيف، إذ سجل حضوراً مائزاً في مساحاته الشعرية الموصوفة بــ ” قصيدة التفعيلة “. وقد جاء فِي صلب البحث مَا نصه ” يحيى السماوي شاعرٌ يعيش باحثاً عن رموزٍ تعادل تجربته الشعورية، تلك التجربة التي تعمقت؛ أثر اغترابه وحنينه إلى وطنه، وعشقه المتمثل بتجربته الرومانسية، ورفضه المتواصل للمحتل بكافة تجلياته، لكون الرمز : يتيح للشاعر تعبير آفاق واسعة لمعانيه الشعرية، بمعنى إن المعنى الشعري الصادر عن أسلوب الرمز، هو معنى مكثف ذو تجليات خاصة “. كذلك تشير الدرسة فِي أحد مباحثها إلى أنَّ ” المتتبع في شعره يكشف أنَّ نصوصه غنية بالرموز الفنية التي بثها في صورٍ حية تؤلف بين ذاته والواقع الذي يريد أنْ يصوره، فيخلق منها قوة تأثيرية ضاغطة على السامع والقارئ “.
***
سَمْعًا – أميري ما فرَضْتَ – وطاعةً
فلأنت عندي يا عراقُ أَميرُ !
كَمْ قيلَ إنَّك آمِرٌ مُتَعَسِّفٌ
و أنا – برغم رُجُولتي – مَأْمورُ !
حبّبت لي ما لا أحبّ، فخيمتي
جُرحي، وأَحْزَانُ السّنين عشيرُ !
كم بتّ مَذْبُوحًا بسيف صبابتي
وَ سَألتُ بَرْدًا فَاسْتَجَابَ سَعِيرُ !
قرّت بك الرّوح التي أرخصتُها
فَأَنَا بِحُبِّكَ ما حيَيْتُ – قَرِيرُ !
وقصائِدٌ عَذْرَاءُ لم يَعْرِفْ لها
بَوْحا يَرَاعٌ مُلْهَمٌ وسُطُورُ
***
نعرف أنّ الوطنَ الجريحَ
يستحمّ في بحيرةٍ
من الدّم المراقْ
لكننّا
نعشقه عشق ضرير للسّنا
و أنّنا
نرضى به هراوة .ً . مشنقةً..
جوعًا.. أسًى..
طاحونةً أو مرجلَ احتراقْ
نرضى به سَوْطا على ظهورنا
أو
شوكةً تنام في الأحداقْ
السَماويّ يحيى أو ” عملاق مِنْ عمالقةِ الأدب، ونخلة عراقية مِنْ نخيلِ السماوة ” بحسب توصيف الشاعرة رند الربيعي، أجاب عَن سؤال يتعلق بظروفِ كتابة قصائده بالقول : ” الشَّاعِر والصيّاد توأمان سياميان، كلاهما ينصب فخاخه وشِباكه ويبقى متحفّزاً محدّقاً بالأفق – باستثناءِ فرق واحد بينهما، فالصياد هو الَّذِي يصطاد طريدته، أمّا بالنسبةِ للشَّاعِر، فإن الطريدةَ هي الَّتِي تصطاده، فالشِّعْر حصان أصيلٌ عنيدٌ كثير الإعتداد بنفسِه، وبسببِ أصالته وَعناده وَاعتداده بنفسِه فإنه يُصرّ أنْ يختارَ – هو وليس فارسه – وقت الركض وَشكل الميدان وَنوع الركض، حين أكتب القصيدة، أكون أنا الحصان، وَالشِّعْر هو الفارس الذي يملي شروطه عليّ “. وَثمة رؤية مهمة للسَماويّ يحيى، أبلغني إياها ذات متنبي فِي أمس قريب بصيغةٍ بليغة أوجز فِيها إجابات لأربعةِ أسئلة ” الشعر، السياسة، رحلة التربية، الغربة “، طالما كانت موضع عناية واهتمام الباحثين والدارسين، فضلاً عَنْ متذوقي الأدب، وَالَّذين ما انفكوا عَنْ سؤالٍ مفاده : أين وجد السَماويّ نفسه مِنْ بَيْنَ تلك الفضاءات الأربعة ؟، حيث قال السَماويّ مَا نصه : ” وجدتُ نفسي في الشعر، فالشعر هو المرض الوحيد الذي أسأل الله في مساعدتي كي لا أشفى منه، ولسبب جوهريّ، هو أنني لا أمارس حريتي إلآ على الورق، ولأنه المنديل الوحيد القادر على تمسيدِ جرحي ومسح دموع قلبي، ولأنه أيضا الأفق الرحب الذي أطلق فيه حمائمي نحو نهر الأنوثة الضوئي لتعود لي محمّلة بالهديل، لكنني استفدتُ من جداول السياسة والتدريس ومن الغربة في إنماء عشب أبجديتي، فجدول السياسة أسهم في مدِّ جذوري داخل طين العراق، وجدول مهنة التدريس أسهم في ترسيخ موضوع ثقافة الأسئلة، وأما الغربة فقد أثبتت لي أنَّ الإنسان كلما ابتعد عن وطنه فإنه سيزاد اقترابا منه والتصاقا به وشوقاً إليه “.

مَـطَـراً مـن الأعـيـادِ جـئـتِ
وكـنـتُ قـبـلـكِ ـ كـالـعـراقِ ـ يـتـيـمَ عِـيـدْ

حَـدَّقـتِ بـي وسـألـتِـنـي : مـن أيـن أنـتَ ؟
فـقـلـتُ : مـن أعـرابِ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ مَـسَّـنـي عـشـقٌ
فـغـادرَنـي الـرشـادُ وهـا أنـا : الـحـيُّ الـشـهـيـدْ

قـبـري مـعـي يـمـشـي ولا صـحـبٌ سـوى مـوتـي الـمُـؤجَّـلِ
أقـتـفـي أثَـرَ الـمـلاكِ الـسـومـريـةِ فـانـتـهـيـتُ الـى بـلادِ الـغـربـتـيـنِ
وهـا أنـا : تـسـعٌ وعـشـرون انـتـهـيـنَ ولـم أجـدنـي فـابـحـثـي عـنـي
صـفـاتـي : نـخـلـةٌ مُـذ غـادرَتْ بـسـتـانـهـا عَـقُـمَ الـنـضـيـدْ

إنـي عـثـرتُ عـلـيـكَ ـ قـلـتِ ـ فـقـمْ مـعـي لِـنُـعـيـدَ لـلـبـسـتـانِ خـضـرتَـهُ
ولِـلـتـنُّـورِ أرغـفـةَ الـمـسـرَّةِ والـسـمـاوةَ لـلـشـريـدْ

عـنـدي شــفـاؤكَ مـن ضَـيـاعِـكِ فـيـكَ فـادخـلْ آمِـنـاً قـلـبـي
وكـنْ فـي الـعـشـقِ سـادنـيَ الـوحـيـدْ
*
ابن الفرات الأوسط الشَّاعِر العراقي يحيى الكاتب، كَتبَ مشخصاً إبداع السَماويّ يحيى، وَمعبراً عَنْ شاعريتِه، وَمبرزاً للتناصِ وَالتجديد وَالتحديث فِي تجربتِه الشِعْريَّة، فضلاً عَمَا أجاد بِه مِنْ نتاجٍ قد لا يتكرر بسهولةٍ بقولِه ” يعجز الكتاب والنقاد عن درء مفارز التشبيه والاستعارة والكناية ومفاتيح التعابير الأدبية والبيان والبلاغة والجناس والطباق التي وظفها السماوي بشكلٍ يتفوق على غيره، مستفيداً من بعض تجارب من سبقه ليضع نقاطاً وعلامات لم يضعها من سبقه، فجاءت تجربته وحكمته متكاملة زاهية احتلت صفحات مجيدة من تاريخ الشعر العربي، وسجلها باسمه مفتخرا باستحقاقٍ ليس من منة لأحد عليه، وأكثر من هذا الشغل والمشاغلة التي احدثها الشاعر في المشهد الادبي العراقي والعربي والعالمي انه كان متواضعا جميلا، مما ألبس نتاجاته الغزيرة بردة البلاغة والبيان، موظفاَ ما أكتسبه من خبرة وحنكة ثقافية وأدبية في إشهار لوحة التجديد الماسية وأنا أول المبهورين بتجربته وإنسانيته وأغبطه على تملكه لكنانته الأدبية التي لا تنضب من أسلحة التعبير المتطورة بما اضاف لها وألبسها حللا جمالية أخرى “. كذلك كَتبَ ثانيةً فِي مداخلةٍ حول إحدى الدراسات الَّتِي تناولت تجربة السَماويّ مَا نصه ” الشَّاعِر الكبير والإنسان الكبير يحيى السماوي كانت تجربته الشعرية جديرة بالاهتمام والدراسات لأنه أغنى المكتبة العربية والعالمية بالمألوف وغير المألوف من الشعر العربي، وجدد وأضاف وتألق وتسامى حتى أستحوذ على قلوب الأدباء والشعراء والمثقفين والناس المتلقين والمتذوقين، فصار علامة فارقة كاد أنْ يكون أو أنه كان مثار اهتمام الناس وانشغالهم فتألفت بحقة الكثير مِن النصوص النقدية، وتدارست تجربته في كثير من جامعات العالم وصار مادة بحث الرسائل العلمية والعملية للماجستير والدكتوراه، وشغل الناس وملأ الدنيا حتى يتخلد بحياته لا بمماته أطال الله في عمره الكريم وأنا أسال له الذي علم بالقلم أن يحفظه بعينه التي لا تنام “.

سـأقـومُ مـن قـبـري لأحـيـا مـن جـديـدْ :

طـفـلاً .. فـتـىً .. شـيـخـاً كـمـا قـيـسُ الـمُـلـوّحُ
لا كـهــرون الـرشـيـدْ

هـيَّـأتُ نـاراً لـلـتـصـاويـرِ الـقـديـمـةِ والـرسـائـلِ والـمـنـاديـلِ الـحـريـرِ
ومـعـولاً لـكـؤوس مـائـدتـي
ومـحـرابـاً يـلـوذ بـهِ مـن الأمـسِ الـبـعـيـدْ
مـا سـوف أتـلـو مـا تـيَـسَّـرَ فـي جـلالـكِ مـن قـصـيـدْ

وضـيـاءَ قـنـديـلٍ يُـريـنـي مـا أريـدْ

لا تـسـألـيـنـي عـن رمـاد الأمـسِ قـد أبـدلـتُ ذاكـرتـي
فـخـبـزُ الأمـسِ تِـبـنٌ والـنـمـيـرُ كـمـا الـصـديـدْ

عـدتُ الـجـديـدَ كـمـا الـولـيـدْ

مَـلِـكـاً غـدوتُ
وكـنـتُ آخـرَ مُـسـتـبـاحٍ مـن سـلالاتِ الـعـبـيـدْ
*
ليس خافياً أنَّ مهمةَ تعزيز دراستي الحالية بِمَا متاح مِنْ معلومات، ألزمني الحرص عَلَى متابعةٍ دقيقة لِمَا ينشره السَماويّ يحيى مِنْ نتاجاتٍ أدبية، بالإضافةِ إلى مَا يُكتَب عَنه بمَا تبايِن مِنْ أجناس الكتابة الأدبية. وَقد كانت معاينة آراء القراء الأعزاء مِنْ بَيْنَ آليات هَذَا النشاط الَّذِي دلني عَلَى مداخلاتٍ وَتعليقات تعكس خزيناً ثقافياً وقدرة عَلَى التعبيرِ بأسلوبٍ أدبي جميل، وَليسَ أدل عَلَى ذلك مِمَا يكتبه القارئ الكريم ” سيد حميد الراضي ” الَّذِي لفت انتباهي منذ مدة فِيمَا يكتبه مِنْ تعليقاتٍ جميلة وموضوعية حيال بعض مَا ينشره السَّماويّ يحيى مِنْ نتاجٍ شعري فِي المواقعِ الإِلِيكْتُرُونِيَّةُ، فظننت بداية أَنَّه أحد طلبة السَّماويّ فِي مدينة السَماوة، فبدأت البحث الحثيث عَنه فِي قناةِ التواصل الاجتماعي ” فيس بوك “؛ لأجلِ الحصول عَلَى مَا يُشبع نهمي مِنْ معلوماتٍ قصد تعزيز الدراسة الحالية، لكني فوجئت بِمَا خالف ظني وتوقعي، حيث ظهر أنَّ الراضي – الفنان المسرحي السابق وعاشق الشعر وَاللغة العربية – مِنْ سكنةِ مدينة بغداد، وَلَمْ تكن لَه معرفة بالسَّماويّ إلا خلال هَذَا العام بعد أنْ أعجب – بحسبه – بما ينشره مِنْ نتاجاتٍ عبر مَا متاح مِنْ الوسائلِ الإعلامية، وَلاسيَّما المواقع الإِلِيكْتُرُونِيَّةُ، ومِنْ خلالِ متابعة الراضي لأنشطةِ السَماويّ أشار إليه ذات مرة بالقول ” السَماويّ شاعر وإنسان، أبهرني بما يملك من شعرية عظيمة تضاهي الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، وله طريقة مبتكرة بمزج مواضيع كبيرة في الحب والتصوف والغربة وحب الوطن والأرض والإنسان ومواضيع كثيرة بتركيباتٍ بسيطة ومعانٍ كبيرة وخيالات جامحة – السهل الممتنع – وهذا هو الابداع والخلق بعينه “. ويضيف الراضي ” حين أقرأ شعر السماوي، لا أتمالك نفسي، فأجمح معه، وينتابني شعور بأني مَنْ قال هذه المقطوعة أو كتب تلك الرباعية أو القصيدة، وذلك لسبب بسيط لأنه شاعر حقيقي وصاحب تجربه قاسية .. هكذا يبدو لي “.
***
ذات أصبوحة شَدْوٍ، أريجها ذائقة قريض السَماويّ بأسلوبِه خفيف الظل مِنْ سهلٍ ممتنع، بادرته بسؤالٍ عَنْ فلسفتِه حيال معنى الوفاء، فأجابني السَماويّ يحيى بصراحتِه المعهودة : كتبت يوماً إلى الأديبِ المناضل صباح محسن جاسم مَا أحسبه جواباً عَلَى سؤالك بِمَا نصه ” رفيق صباي وشبابي وصديق أمسي البعيد، وما تبقى في حقيبةِ عمري مِنْ زمنٍ لم أعشه بعد، أتعمد الإعتراف بين يديك بحقيقة أنني تعلمت مِنْ صبرك ما أسهم في فخرِ طين صبري ليغدو أكثر صلابة مِنْ قرونِ الوعل، كما تعلمت مِنْ وفائكَ والبقاء على العهدِ ما عمّق إيماني بأن الحب كالوطن وكالدين … فكما أنَّه لا يمكن أنْ يوجدَ نصف دين ونصف وطن ونصف حب، فإنَّه لا يمكن أنْ يكون الوفاء إلآ كاملاً تماماً كـ : الحب والدين والوطن “، فأيقنت إنَّ العشقَ يمسحُ قلوب بني آدم بمنديلِ الطَهَارة.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!