الحوار الهاديء

طوقُ النجاة

الكاتب: لويس اقليمس
طوقُ النجاة
لويس إقليمس
 
بين الأمل والرجاء، والخيبة والخيبة والخذلان، تتعالى صرخات المهجَّرين قسرًا والنازحين عن ديارهم وقراهم وبلداتهم وتتوالى دون توقف. ولكن، هيهات! فما من منقذ لنجدتهم والتعاطف مع مصائبهم والاستجابة لحاجاتهم الآدمية اليومية. أمّا مصيرُهم ومستقبلُهم، فما زال في طيّ المجهول يتنزه بين ضمائر وعقول قادة الدول، وتبعًا لمصالح الساسة والمتسلطين الذين يسوسون الشعوب ويتاجرون بمستقبلها ويتحكمون بمصيرها، بحسب الأهواء والمصالح.
هذا الوضع الغريب وغير الإنساني الذي يسود الواقع المعاشيّ هذه الأيام، قد حملَ معه خيبةً وخذلانًا، أصبحتا ضمن عداد الحياة اليومية للنازحين والمهجَّرين. فمَن قبل على نفسه الذلّ والهوان وشظف العيش وسخط السماء والأرض وفسادَ الحكّام، فقد آمنَ بالأمر الواقع وعاش حياتَه وفق هذا المنظور الناقص إنسانيًا والظالم دوليًا. ومّن تسنّت له الفرصة كي يقرّر تغيير مجرى حياته ويبدأ أخرى جديدة بعيدًا عن ضوضاء السابقة ومتاهاتها ومشاكلها ومعاناتِها، فقد اختار الغربة وطنًا بديلاً، إن قناعةً أو اضطرارًا، لسدّ ثغراتٍ عائلية وأخرى خاصة وغيرها بديلة عن الوطن وترابه. وفي كلتا الحالتين، لا لومَ على هذا أو ذاك في الاختيار والقرار. فالإنسان خُلق كائنًا حرًا عاقلا، ومعه غريزتُه في التقرير والاختيار، بحسب الموجبات والضرورات، إلاّ ما ندر.
إزاء الموقف الدولي الضعيف لمحنة النازحين في العراق، الذين بحسب تقديرات حكومية قد تجاوزوا الثلاثة ملايين شخصٍ، وقف هؤلاء في حيرةٍ من الوضع القاسي والمصير المجهول الذي يحيط بقضيتهم. هناك مَن فقد الأمل في العودة إلى الديار التي سُلبت والبلدات التي نُهبت واستبيحت فيها المقدسات والتراث والحضارة، وبقيت في عهدة جماعات متطرفة ضالّة تقتصّ من كلّ حامل فكرٍ يخالفُها الرأي وتُنزل في الناس قصاصات جائرة لا ترضي الله والبشر المخلوق على صورة الله ومثالِه. لكنّها مصرّة في الدفاع عن الله الخالق، القادر على كلّ شيء، وكأنّه كائن ضعيفٌ لا يقوى الدفاع عن نفسِه وعن حقّه بمحاسبة مَن تسوّلُ له نفسُه الخروج عن قوانين السماء، لأيّ سبب كان.
الواقع الدوليّ الراهن، والجدل الدائر حول مكافحة هذا الغول الكاسح الذي بات يهدّد العالم كلّه في اتساعِه والترويج لأفكارِه الهدّامة والمقوِّضةلدينِه قبل غيرِه، لا يمكن القبول بهِ وهو على هذه الشاكلة من التباطؤ والخلاف حول ضرورة التخلّص منه والقضاء عليه وعلى أذيالِه بوقت قياسيّ، وليس الانتظار برسم مخططاتووضع استراتيجيات وتشكيل نظريات لدراسة المشروع الإجرامي الذي يتولاه باستخدام كلّ وسائل القهر والاستعباد والعن*ف والإذلال بخليقة السماء. الأيام والوقائع اليومية والوضعية أثبتت، أنّ مثل هذه الترتيبات لم تثبت فاعليتَها، بل بعكس تلك التوقعات والمدارك، فقد ساهمت في توسيع رقعة الجماعات الإسلامية المتشددة بالاستيلاء على مواقع جديدة وحصارهالمناطق لها أهميتُها الاستراتيجية من النواحي الاقتصادية والديمغرافية والتاريخية. ولولا همّة المرجعية الدينية الرشيدة في النجف وكربلاء، لآلت الأحداثُ والوقائع، إلى ما لم يكن في الحسبان. فهذه الأخيرة،ومن خلال إعلان الجهاد الكفائي والتزام العراقيين الأوفياء بتوجيهاتِها، قد وضعت حدّا لتوسع رقعة هذه الجماعات المتوحشة، صَدّا للهجمة الشرسة التي باتت تهدّد كيان الدولة العراقية وأراضيها وتاريخها وحضارتَها وتراثَها ومكوّناتِها بأديانهم وأعراقهم المتنوعة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عامٍ على سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة واكتساحِها لمناطق واسعة شمال وغرب البلاد، واستباحتها لأعراض وممتلكات وقدرات بشرٍ آمنين والاتجار بهوياتهم ومصالحهم وبلداتهم وثروات مناطقهم، بالطريقة الغريبة التي بلغت إلينا، لا يمكن بعدُ المساومة على ضرورة الأخذ بمثل هذا التحدّي على رأس أولويات الساسة وممثلي الشعب. فهؤلاء جميعًا، يطالبُهم الشعب ومنذ بدء التظاهرات الشعبية التي أيدتها ودعمتها المرجعية الدينية الرشيدة في النجف وكربلاء ومعظم مدن العراق فيما بعد، كي يتوحدوا ويكوّنوا سدًّ منيعًا وجدارًا رادعًا مقاومًا موحَّدًا ضدّ الطموحات الواسعة التي يُضمرُها هذا التنظيم الإجرامي في البلاد وعموم المنطقة والعالم على السواء. وإنَّ أيَّ خروجٍ عن دعوة المرجعية ومطالب الشعب التي تتجدّد كلّ يوم جمعة في ساحة التحرير وساحات التظاهر في عموم محافظات العراق، يدخل في نطاق التأييد لهذه الجماعات ويساهم في الترويج للأفكار الهدّامة التي يحملُها هذا التنظيم المتطرّف الذي يأبى التفاعل مع حرية البشر وتطلعات الشعوب، إلاّ في إطاعة حاكمية الله بموجب الفكر المريض الذي تحمله هي وغيرُها في مناطق أخرى.
إنّ العالم اليوم، يقبع على صفيح ساخن، بسبب سيطرة الجماعات الإسلاموية المتطرفة على عقول البسطاء من الشباب المغرَّر بهم، من الذين فقدوا سرّ وجودهم وحياتهم بسبب تخلّي الحكومات والساسة عن الإيفاء بالتزاماتهم إزاء شعوبهم ومواطنيهم وتركهم ضحايا للار*ها*ب وأدواته بهدف سدّ رمق حياتهم ومتطلبات عوائلهم. ولم يجدوا سوى مثل هذه التنظيمات التي تمكنت من اصطيادهم في غفلة من الزمن وأمام أنظار مَن يتحكمون بمصير الشعوب والبلدان عملاً بمصالهم الفئوية والقومية والشخصية بالضدّ من حقوق شعوبهم وبلدانهم. فكانت ولادة هذه التنظيمات، نتيجة طبيعية لهذا الكمّ من عدم الاهتمام بالمواطن وبمصير الشعوب التي سئمت الظلم والقهر والاستغلال. فوقعت هذه ضحية لجلاّدٍ أكثر قسوةً وأمرَّ عتوًّا وأشدَّ طغيانًا.
مع توالي الصيحات واشتداد التظاهرات وتعاطف الشعب والمرجعيات من كلّ الأديان والأعراق مع مطالب المتظاهرين المشروعة بتوفير الخدمات ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، وإنقاذ العملية السياسية المتعثرة بسبب مبدأ المحاصصة التي يصرّ عليها الساسة وقادة الأحزاب، ووضع استراتيجية وطنية تخدم وتبني وترتّب البيت العراقي المتهالك، كان يتوجب على القائمين على حكم البلاد أن يعوا قدرَ المأساة والمحنة التي يعاني منها الشعب، ومنهم أتباعُهم ومَن صوّتَ لهم وقَبِلَ بهم ممثلين عنهم على رأس السلطة. فمسار الأحداث ضدّ تيار الشعوب وتطلعاتِها وبالضدّ من حقوقِها، يعني ضياع آخر فرصة لحبل النجاة الذي تقدمت به المرجعية الدينية بتأييدها لنداءات الشعب المتكررة والمتصاعدة كلَّ أسبوع وكلَّ يومٍ. وهذا دليلٌ على أحقية المطالب التي يرفعُها المتظاهرون، الذين لم يلمسوا لغاية الساعة تجاوبًا ملموسًا لتطلعاتهم في حدودها الدنيا. فمازال الجدل قائمًا والخلاف متفاقمًا بين الفرقاء السياسيين حول حزم الإصلاحات التي خرجت عن دائرة رئاسة الوزراء، الرجل الوطنيّ الضعيف العازم وغير القادر على فعل شيء إزاء الاعتراضات الواسعة ممّن ضُربت مصالحُهم وقُوّضت قدراتُهم ووُضعت حدودٌ لطموحاتهم اللامحدودة التي تجاوزت الحرص الوطني على ثروات البلاد وقوت الشعب واستحقاقات البؤساء منهم ممّن دخلوا خطّ الفقر ودونه، وقد تجاوزوا 30% من عموم تعداده.
إن مسيرة الدولة وسلوك السلطات الثلاث فيها، لا يمكن لها أن تتجاوز المحنة والأزمة المالية والاقتصادية التي وقعت فيها نتيجة تتالي الأخطاء في الحكومات السابقة، وبسبب تقييد جهود رئيس الحكومة الحالية والضغوط الكثيرة التي تُمارسُ عليه، حزبيًا وكتلويًا وطائفيًا، ما لم يتمّ اتباع استراتيجية وطنية صحيحة تعنى بكلّ مجالات الحياة من دون استثناء. ومن دون مثل هذه الاستراتيجية، فإنّ البلاد ماضية إلى الا*نت*حا*ر والانهيار التام، تمامًا كما وصف الوضعَ الراهن العديدُ من الخبراء والمثقفون وأصحابُ الأفكار الوطنية النيّرة المستقلّة.
فرصتُنا الوطنية في هذه المرحلة بالذات ذهبية، للتخلّص من شوائب الماضي والاستفادة من أخطاء الحكومات السابقة والتحلّي بعزيمة وطنية خالصة صرّح بها رئيس الحكومة حيدر العبادي، الذي يصارع مافيات يصعبُ قهرُها. إلاّ أنّ ما لقيه من تفويضٍ شعبيّ منقطع النظير، ومن تشجيع ودعم من مرجعيات دينية ونخب ثقافية واقتصادية وعلمية ينعش الآمال بإمكانية تحقيق نصرٍ على أصعدة عديدة. فهبّة الحشد الشعبيّ البطل ومعه وحدات وطنية صادقة للجيش، وما تحقق من انتصارات على الأرض، لاسيّما في الأيام القليلة المنصرمة، كلُّها إماراتُ بشرى وإشاراتُ إنذارٍ بالخير والنصر الناجز القريب بإذنه تعالى، وسط دعوات الأحرار من نساء ورجال وفتيانٍ وصبايا.
ولنا بإذنه تعالى، موعد قادم مع رجاء عتيد وأملٍ جديد بأيامٍأخرى مختلفة عن مرارة الألم الذي اعتصر القلوب والنفوس، لتجاوز مرحلة اللّاإستقرار وحياة الرعب والعن*ف والق*ت*ل والتهجير التي طالتْ وغيّرتْ وأبعدتْ وفرّقت وخذلتْ، وقلْ ما شئتَ.
 
بغداد، في 20 تشرين أول 2015..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!