بصمة ترامب الجمركية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي
يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تحرير الاقتصاد الأمريكي من آثار تيار العولمة، وبقايا إدارة أوباما وبايدن، ضمن استراتيجيته القومية الخاصة بتصفية مُخلّفات العولمة في كافة أركان الدولة الأمريكية، وذلك من خلال حُزمة أدواتٍ مالية ونقدية.
ففي السياسة المالية، أصدرَ ترامب أمرا تنفيذيا خاصا بالرسوم الجمركية على السلع والبضائع المستورَدة من دول العالم، ودعَا الشركاتِ الأمريكيةَ العاملةَ خارج أمريكا إلى نقل استثماراتها إلى أمريكا، وفرضََ رسومًا وضرائبَ على منتجاتها المصنَّعَة خارج أمريكا، وشجّعَ الاستثماراتِ الأجنبيةَ في أمريكا، ودعمَ الإنتاجَ الزراعي المحلي، وأعلنَ عن خطّةٍ لترشيد الإنفاق الحكومي وخفضِ العجزِ في الموازَنة.
وفي السياسة النقدية، يسعى ترامب للضغط على “جيرم بأول”، رئيس البنك الفدرالي الأمريكي، من أجل دفعِه لخفض سعر الفائدة، وتوسيع الشمول المالي، على الرغم من مخاوف “بأول” حول تسبّبِ الرسوم الجمركية الجديدة برفع معدلات التضخم، وقد نشهد، في المستقبل القريب، صراعا بين الإدارة الأمريكية ومجلس الاحتياطي الفدرالي.
تعرّضَ الدولار الأمريكي إلى انكماشٍ ملحوظ مع إعلان الرسوم الجمركية، وانخفضَ مؤشّر الدولار بسبب المخاوف من حربٍ اقتصادية، قادتْها أمريكا، وسيساعدُ هذا الأمرُ برنامجَ ترامب الاقتصادي، إذ سيُؤدّي انكماشُ الدولار إلى انخفاضِ حجم الاستيراد، وارتفاعِ حجم التصدير، وسيدفعُ ذلك باتّجاهِ التخفيف عن العجز في الميزان التجاري.
تأتي إجراءاتُ ترامب هذه، ضمن سَعيهِ لضمان الأمن القومي الأمريكي وتعزيزِه، وبالأخصّ، الأمن الاقتصادي، وتوسيع قدُرات الإنتاج المحلي، ورفع حجم التوظيف وديمومته، وخفض معدلات التضخم، وقد يساعد تنوّعُ الإجراءات المالية والنقدية وتنفيذُها ضمن حُزمة واحدة على تحقيق مُجمَل أهداف ترامب التي خطّطَ لتحقيقها.
إلّا أنّ هذه الإجراءات تعيدُ إلى الذاكرة السياسةَ الاقتصاديةَ الماركينتيليةَ (التجارية)، في الفترة بين القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر، القائمةَ على تدخّل الدولة في حماية المنتج المحلي القابل للتصدير من خلال فرضِ الحماية الجمركية، ومنحِ إعاناتٍ للصادرات، وتحقيقِ فائضٍ في الميزان التجاري، وهي “سياسة تجويع الدول”، وإن كانت حليفة، بسبب الاعتقاد بأن الأسواقَ ثابتةٌ، مما يعني أن لزيادة الحصة في السوق لا بُدَّ للأخذ من حصة الغير، وستردُّ الدولُ المعنية، والمتضرِّرةُ من هذه الإجراءات بالمِثل، وستَتّخذُ نفسَ الإجراءات، لتلافي أضرارِها، والحاقِ الضّرَر بأمريكا، بهدف الردع، وستقومُ، في نفس الوقت، بإجراء سلسلةٍ من المفاوضات لتخفيف حِدّة الرسوم الجمركية، وإيجادِ الحُلول الوَسَطِ المناسبةِ لكلِّ الأطراف، وسيضعُ هذا الفعلُ، ورَدُّ الفعلِ، إجراءاتِ ترامب الجمركيةَ على المِحَكِّ، وسيُحدّدُ قدرتَها على النجاح أو الفشل، في خِضَمَِ تناقضاتِ المصالحِ الدوليةِ، وتوسعِ رقعةِ السِّلع المُتنافِسة.
تركتْ هذه الإجراءاتُ آثارًا سيّئة جدا على الاقتصادات العالمية، فتعرّضتْ كافةُ المَلاذاتِ عاليةِ الخُطورَةِ إلى خسائِرَ فادِحَةٍ، كالأسواق والبورصات العالمية، والعُمْلات المشفّرة، وفقدتِ التجارةُ الدوليةُ بوصلتَها، واختلَّ توازنُها، وانتشرَ الخوفُ من انقطاع سلاسل الإمدادات، وانخفضتْ أسعارُ البترول في الأسواق العالمية، بسبب توقُّعات انخفاض الطلب عليه، وبدأتْ تخميناتُ انخفاضِ نُموِّ الاقتصاد العالمي تظهرُ في تَوقُّعات وكالات الائتمان العالمية.. وحتى الذَّهبُ، لم ينجُ، هو الآخَرُ، من آثارِ هذه الإجراءات، فبدأَ سعرُه بالانخفاض، بسببِ تعرُّضِه للبيع لتغطية المراكز الخاسرة في الأسواق والبورصات، بعد أنْ كان قد سجّلَ ارتفاعًا ملحوظًا جراءَ قرارات ترامب، باعتبارِه مَلاذًا آمِنًا واطئَ المخاطِر، يرتفعُ الطلب عليه في الأزمات.
ولِتَلافي الآثارِ السيئة على اقتصادات الدول، تقومُ كلُّ دولةٍ بإعداد الردِّ المناسبِ على قرارات ترامب، فهي ستُخصِّصُ ميزانيةً عاجلةً لدعم منتجاتِها وصادراتِها، وستقابلُ التَّعرِفةَ الجمركيةَ الأمريكيةَ، بتَعرِفاتٍ جمركية مناسبة، وستدعو، في نفس الوقت، الإدارةَ الأمريكيةَ إلى عقد جلساتٍ خاصةٍ لصياغةِ رسومٍ جمركية عادلة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وحسب طبيعة السّلع والخدمات المتبادَلة بينهما.
وهذا يعني أنّ بصمةً ترامبيةً جديدة قد أُبْصِمَتْ على حركة السلع والمنافع بين دول العالم، وليس بين أمريكا والدول الأخرى فحسب، وسنشهدُ، جراء هذه البصمة، نموا في انتاج بعض السلع، وتراجعا في بعضها الآخر، وأسعارا جديدة للكثير من السّلع والمنافع، ووُجْهاتٍ جديدةً للعديد منها، بل سنشهدُ وضعا جديد للعديد من السّلع الاستراتيجية، كالمواد الزراعية، والأدوية، والذهب والفضة، وغيرها، وقد نشهدُ ارتفاعا ملحوظا في الفارق بين سعرَيِ الذّهبِ والفضّةِ، فسعرُ الذّهب سيرتفع، باطِّرادٍ، جراء استمرار الطلب العالمي عليه، وسعرُ الفضّة، سيرتفع، ببطء، بسبب انخفاض انتاج الصناعات المُعتمِدة على الفضّة، وبالتالي انخفاض الطلب عليه.
الأشهرُ القادمةُ ستكون كفيلةً ببيان وضع الإنتاجِ العالمي للسّلع والمنافع، وحركتِها بين الدول، ومستوياتِ أسعارها، وستدخلُ إجراءاتُ ترامب الجمركية في المِحَكِّ: هل ستنجحُ في صياغةِ تجارةٍ دوليةٍ جديدةٍ، أم ستَتسبّبُ بخللٍ كبير في حركة السّلع والمنافع العالمية؟
أما العودةُ إلى ما قبل 2/4/2025، يوم أنْ وضعَ ترامب بصمتَه الجمركية، فهذا أمرٌ مُستبعَدٌ، لأن ذلك سيضربُ، بقوةٍ، استراتيجيةَ ترامب القومية، ومساعيه لتصفية آثار تيار العولمة داخل البنية الإدارية للولايات المتحدة الأمريكية، ومؤسساتِها العسكرية والاقتصادية والأمنية والسياسية، وسيتَنافَى مع شعار “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، الذي رفعَهُ ترامب في حملتِه الانتخابيةِ.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.