مقالات

«ميثاق النساء» ميثاق للتعرّف على الله والدين والحياة

تنطلق الأحداث والأفكار في رواية «ميثاق النساء – الصادرة عن دار الآداب، 2023م» من لوحة «الجدار»، وهو عنوان الفصل الأوّل من العمل الروائي الأوّل للشاعرة والكاتبة اللبنانية حنين الصايغ، وفيه غوص عميق في آلام الطائفة الدُّرزية وعقائدها وعاداتها وتعاليمها الدينية، بِبُعد معرفي ولغة مذهلة، لتبيّن كم من إنسان كان يختنق ويضيع في أفكار ثابتة غير قابلة للتفكيك والتغيير، وقناعات راسخة في النفوس المحطّمة والضعيفة! مثلما حدث مع أبي علي وأمّ علي (جدّ وجدّة أمل بو نمر)، حين طلّقها، ففصل بينهما جدار، بسبب الأعراف الدينية التي لا يجوز تخطّيها، أعراف بَنت قانوناً يشرّع في أن يعيش ويموت منَ نحبّهم مفصولين عنّا بجدار من الحجر والإسمنت، وبقائمة قاتمة من القوانين والمحرّمات، لنتساءل: كم من جدار يفصلنا عن الحياة، عن إنسانية تتمزّق داخل الجدران؟! ولتتساءل حنين الصايغ: «هل أصبح هذا الجدار فرداً من العائلة؟ هل يتكاثر في داخلنا، ويعيش حياة منفصلة لا نعرف عنها شيئاً؟».

تقدّم لنا أمل بو نمر – البطلة المُشوِّهة والمُشوَّهة – الراوية التي تروي بضمير المتكلّم ذي النبرة السيرية الصريحة، إضاءات كاشفة لمواثيقها ومقاماتها ومجتمعها المتديّن (الأهل والعائلة والجيران والأصدقاء والزملاء…)، وانتفاضتها في وجه شرنقتها وخِصامها مع الفِطنة والدُّونية، وخوضها عملاً شاقّاً في سبيل تحقيق طموحها في الدراسة والتعليم، وسط مجتمع منغلق لا يسمح للفتاة بأن تكمل تعليمها، فكان لها ما أرادت، لكنّها دفعت ثمناً غالياً في جميع مراحلها العمرية المختلفة.
هي قصّة انطلقت من قرية «عينصورة» لفتاة ملهمة، تحمل وثائقها للتسجيل في الجامعة الأميركية، لترسم طريق التأمّل لكلّ النساء، في أن يتأمّلْنَ الواقع وتعقيداته وتحدّياته، ويغصْنَ في السراديب الحالكة. امرأة رصدتِ الجروح المجتمعية المستترة، وواجهت ببراعة كلّ الأسئلة وعلامات الاستفهام والتعجّب، التي اشتعلت في رأسها، وتتبّعت منابعها، في الأماكن والمواقع التي جرت فيها الأحداث.

استنطقت حنين الصايغ – من خلال التصوير الفنّي – المعاني الكامنة في الذهن، وأخرجتها لنا في تعابير مجازية مميّزة، وإيحاءات دلالية قادتِ القارئ إلى الغرض مباشرة مثلما تفعل الجمل والألفاظ الحرفية، فالمشاهد المصوّرة في فصل «الصفقة» تبيّن مدى التعسّف الإنساني والاجتماعي في القوانين والأعراف الدينية الدُّرزية، من معتقدات موروثة وتقاليد عبثية، لكنّها في «سبع سنوات داخل الرحم»، تثبت وبمشاهد ولوحات أخرى نُبل العقلية الدُّرزية في الأزمات الإنسانية، وردّ الوفاء بالوفاء، والإخلاص بالإخلاص، من خلال نسوة ورجال ضيعة «عينصورة» في الوقوف مع نبيلة – والدة أمل بو نمر – التي استأصلت إحدى كليتيها، بعد أن كانت قد منحت روحها للأمومة على مرّ سنوات عمرها.

حتى نغوص في الرواية أكثر، لا بدّ من إضاءة على شخصيّة بطلة الرواية أمل بو نمر؛ فهي الفتاة الطموحة، المتأمّلة، الشاردة، منبع بوح الأسئلة، المتعلّقة بوالدتها حدّ التماهي والهوس، وكأنها امتداد لجسدها، الهاربة من الجدل، الخائفة من الأمومة. تعاني اضطرابات نفسية مزمنة مثل «الوعي الذاتي»1 و«متلازمة القلق الوجودي»2 و«العقدة الدُّونية»3 ، فتصارع للبقاء واستعادة وعيها الحقيقي بذاتها من بين براثن العجز والنقص.
أمل نتاج أفكار ونظريات ومعتقدات وتراكمات اجتماعية ونفسية ودينية، استثنائية المزاج والصمت والتفكير، حاصلة على الليسانس في الأدب الإنكليزي من الجامعة الأميركية، كان الحبّ في قلبها مؤمّماً ومكبّلاً بسلاسل المشايخ وسوْط القبيلة، عاشت صراعاً وجودياً مع الألم، لتُحاصر من اضطرابات الهلع والا*نت*حا*ر، ففقدت في صمتها احترامها لنفسها، فأصبحت سجينة الكينونة، إذ لم تكن حرّة في فهم نفسها وفتح الغرف المغلقة في قعْر روحها، لكنّها كانت حرّة في تعاملها مع الواجبات الاجتماعية والروتين اليومي، تحدّتِ التقاليد وقوانين الريف، فخسرت جسدها بمساومات ومقايضات مع زوجها سالم؛ وتحوّلت أخيراً إلى آلة لتنفيذ رغباته.
أمل – المتماهية مع حزن أمّها وحرمانها – انتصرت دون خيار أو قرار، فكان الحبّ والخوف على حبيبها حامد توءمين لم ينفصلا عنها «الحبّ والخوف على مَن نحبّ توءمان لا ينفصلان». لم تحرّض أحداً على الدين، بل طالبته في منح حقوق المرأة للمرأة وليس للرجل.

اختارت حنين الصايغ شخصياتها بكلّ عناية، إذ كانت تدرك أنها بؤرة الحدث والتفكير ونقطة استقطاب لها، فقد اعتنت بالتكوين العامّ لشخصيات عائلتها ومجتمعها الدُّرزي وباقي الشخصيات الأخرى، سواء في المدينة أو الريف، وبمختلف الأبعاد الاجتماعية والسيكولوجية والفيزيولوجية، فنجحت في أن حوّلت كلّ شخصيات العمل إلى أبطال من لحم ودم ومشاعر، وزرعتها في دواخلنا، وكأنها زرعت جزءاً من كلّ شخصية في شخصياتنا الواقعية، سواء الهواجس، أو الأفكار، أو الأحلام، أو الاضطرابات النفسية، أو الصراعات الوجودية، أو الدوافع الجنسية، فتشعر أن كلّ شخصية ثانوية أخذت حيّزاً كبيراً من الشخصية الرئيسية، بدءاً من سائق التكسي والسيّدة العجوز وانتهاءً بأمل ورحمة وحامد، وهذا يُحسب للكاتبة ويُكتب لها، إذ أبدعت في رسمها من الداخل والخارج بأسلوب أكاديمي متقن، وكأنها تقول لنا: لقد حوّلت لكم كلّ شخصيات «ميثاق النساء» إلى أبطال، وليست أمل بو نمر وحدها، بل الجدار أيضاً بطل، والمقامات والبحر والشجرة المعمّرة، وحتى طفل الأنبوب الذي لم يرَ النور كان أيضاً بطلاً.

بَنَت أمل طموحها وأحلامها واستمرّت فيها، عبر صفقات متعجرفة وغير متجانسة لا تتوافق مع طبيعة مفاهيمها ومبادئها. أمل النحيلة، وأملها النحيل، حقيقتان مطلقتان غير منفصلتين، تجهش بالبكاء أمام الله، متجسّدة في زاوية أو صدفة أو قصّة، فتحاوره، وتنهره، وتسأله، لكنه يختفي وكأنه يجيبها: لحظة الرحمة وأيّام الراحة لم تحِن بعد، قاومي، ناطحي، صارعي، واخرجي بنفسك من شرنقتك، مثلما خرجت تلك الفراشة، ولا تستسلمي، لا لقسوة الذكوريين، ولا لسلطة الأب القمعية، ولا حتى قسوة الصوت الذي يأتي من داخلك.

إن كلّ امرأة تمتلك في داخلها وعياً وثقافة وتنويراً، سواء المرأة الأُمّية أو الجاهلة أو المتعلّمة أو المثقّفة، لكنّها فقط تخاف، وليس خوفها من الرجل وفرض وصايته بسلطته الهشّة والمتمثّلة في أنه عبد غير حرّ، بل الخوف على اعتباراتها ومفاهيمها الداخلية، المرتبطة إلى حدّ ما بالرجل والذات، فلو كانتِ المرأة مقيّدة لما قبلت تلك الوصاية، وهذا ما التمسناه عند أمل، المدركة لكلّ ما يجري معها وحولها، فتقول حنين: «لو كان الرجل حرّاً لما احتاج أن يفرض وصايته على المرأة».

إننا في هذا العمل الأدبي، أمام معضّلة، فيها من الجدل والإثارة ما تعصف بالإنسان إلى خارج أسوار الحياة، فمنذ بداية العمل وحتى نهايته هناك مدّ وجزر مع جدار الدين المتين من جهة، والعالم المتحرّر وما بعده من جهة أخرى، بين الريف المنغلق والمظلوم والظالم، وبين الحياة المَدنية المتمثّلة بالعلم والتعليم والانفتاح على كلّ ما يحمي ويحرس داخل الإنسان وخارجه، فيظهر سرد تناوبيّ مشوّق، أعطى جمالية نصّية لعناصر وأنماط السرد في الرواية، وترك أثراً عميقاً في القارئ والمستمع.
عملت الكاتبة على شدّ الانتباه منذ الفصل الأول وحتى آخر فصل «نافذة على حديقة الله»، وإيصال أفكارها وبناء التكهّنات والتخمينات بأسلوب احترافي في العقل والمخيّلة، خاصّة تقديم ترتيب الحوادث وتأخيرها، وتوظيف الصور والمعاني في الحوارات السردية والتناوبية والمونولوجيا الهادفة، وإسقاطها على الذات واضطراباتها النفسية، والجسد وصراعاته مع الشهوة والجهل، تلك الحوارات التي كشفت أسرار الشخصيات وطِباعها وطرق تفكيرها وتحليل وتفكيك عللها، والانزلاق داخل عمقها، فأرادت ألا يشعر القارئ بملل الكتابة السردية، فأجّجت الصراع وكثّفت الحبكة، فعملت بدقة متناهية وبراعة فنّية على قواعد كتابة الحوار الناجح، التي وضعتها الروائية الإيرلندية «إليزابيث بوين»، ووجّهت بها بوصلة النور على كلّ ما هو غير مسموع، ومكبوت، ومسكوت عنه بجرأة وشجاعة وحسّ مسؤول، فكانت شفاء إنسانة دُرزية مصابة بالحمّى الدينية، على يد بروفيسور مصري، يحمل الإنسانية في داخله.

يكون البحث في علم النفس عن هوية الأنثى أصعب وأعقد من البحث عن هوية الذكر؛ لأن وجود الأمّ في حياة الأولاد يعتبر مصدراً قوياً ورابطاً متيناً، خاصّة وأنها أوّل حبّ مطلق ومبني على التماهي بنظر الأولاد، فأمل نسخة مصغّرة من أمّها، بوجود شراكة حقيقية، بصراعاتها ومهادناتها، بأفراحها وأتراحها، لكنّ الأمّ تبقى كاتمة أسرار ابنتها، والناقد الحاذق والقارئ النهِم لملامحها وانفعالاتها وتفاصيل حركاتها، كانت كثيرة التفكير بها وبآلامها وعذاباتها، فأسقطت كلّ ذلك على النساء المعذّبات، فما سرّ تماهيها مع والدتها جسدياً ونفسياً وعاطفياً في مجتمع بُني على العقليات الرجعية والسلطات الاجتماعية الجاهلة والمتاهات الفكرية؟ وهل تجربتها مع والدها تركت أثراً في شخصيتها وتفاعلها مع غريزة الأمومة؟

لقد لعب حضور الأمّ الدُّرزية دوراً مركزياً على مدار أحداث الرواية بشكل عامّ وفي حياة أمل بشكل خاصّ؛ الأمّ الحاضرة في كلّ التفاصيل المتمدّدة معها، فنظّمت لها حنين الصايغ هوية خاصّة بها، لتتماهى أمل مع روحها الصبورة المثالية وجسدها ومظهرها الخارجي، وتتقمّص مأساتها مع أمومة تعيسة وحياة زوجية قاسية، فتقول: «رأيت أمّي تطعم روحها للأمومة على مرّ السنوات، ولكن الأمومة لم تكتفِ بروحها، بل نالت من صحّتها أيضاً، ومن بريق عينيها، ومن حبّها للحياة»، أمل لم تكن تعيش حياتها الطبيعية، سواء كفتاة أو امرأة أو أمّ، بل كانت دائمة الهروب عبر مأساة والدتها، وتحاول ألا تُسقط على حياتها وتتكرّر، عانت هواجس القلق الذاتي، لكنّها انتشلت عفّة النبع الأمومي ببراعة وإعلاء قيميّ وفنّي.

إن «ميثاق النساء» عمل روائي يحمل هاجساً فلسفياً، إذ استمدّت قصّة البطلة الدُّرزية من خلفية معرفية وخيالها اللغوي الخصب، فالعلاقة قد تبدو معقّدة بين الفلسفة في هذه الرواية والسياق الكوني للأحداث والأفكار التي تخيّلتها وعاشتها ورسمتها أمل في حياتها، فيما يتعلّق بالدُّروز الموحّدين وإنسانيتها ومستقبلها في أن تترك بصمة في ذاكرة الحياة، وآلامها مع الحرّية والحبّ، والأمومة وفِخاخها، خاصّة وأنها لم تسلم من مأزق رحلة البحث عن الأنا، الذي أشار إليه كارل يونغ بقوله: «البحث عن الأنا أو الله قد يؤذينا إن لم نكن مستعدّين لتلك الرحلة».

تعتبر «ميثاق النساء» نتاج التواصل والتفاعل بين فلسفة أمل وقضيتها، بين تأمّلها الفلسفي بحضور العقل وإبداعها الأدبي، الذي يتملّكه روحها وذاتها، لكن دون أن ننسى أن الفلسفة تحتاج إلى الأدب، والأدب يحتاج إليها. وفي المقابل، من الصعب تصنيف أيّ رواية معيّنة بأنها رواية فلسفية خالصة، فكلّ عمل روائي لا يخلو من السمة الفلسفية، أيّ سمة فعل التفلسف، فما دام الإنسان كاتب الرواية فإذاً هي تستمدّ فلسفتها من أسئلتها الوجودية، كأسئلة أمل عن الحرّية والحياة والتعليم والأمومة والحبّ، فروايتها تعبّر عن ذاتها التي تتكلّم داخلها، بالاعتماد على السرد والتخيّلات الوجودية، وفي مزاوجتها مع فلسفات الشخصيات الأخرى، كالبروفيسور حامد عبد السلام (حبيب أمل)، والأستاذ خلدون عبد الخالق (أستاذها في المدرسة)، ونيرمين بو نمر (شقيقتها)، وجاد إبراهيم (زوج نيرمين)، وابنتها رحمة، وتعمّد إلى تفعيل خاصية محاكاة وإسقاط القصص والأسئلة المتعلّقة بحياة الطائفة الدُّرزية.

«ميثاق النساء» رواية ذات طابع فلسفيّ وجوديّ، هي رواية للمرأة، وعن المرأة؛ كي تكون امرأة حقيقيّة، لا أداة لتأجيج الخيال والشهوة. هو ميثاق لمقامات النساء النقية، ميثاق التفاهم والتضامن والترابط والتواصل، ميثاق رفض التماهي مع الذكورية وعدم تبنّي أفكارها المتسلّطة. هو ميثاق أدبيّ، للتعرّف على الله والدين والحياة، لتكون الحياة حرّة ولو بعدلها، وألا تصبح الأمومة ورطة ولا فرصة، وليتخطّى الحبّ بذلك كلّ الحدود الجغرافية والدينية والثقافية…

في النهاية، يُحسب لحنين الصايغ، التزامها تجاه الأنا الإنسانية ومقام الكتابة وسياقاتها ومناخاتها، تجاه القضايا المحورية المفصلية والجزئية المطروحة في ميثاقها، حيث التزمت بروح كبيرة هموم شخصياتها، وحملت استحقاقاتها لنا بمهنية وموضوعية، وابتعدت عن رسم وتصوير شخصيات هامشية أو غير تسويقية أو تحريضية. يُحسب لها أنها كانت ملتزمة أمام اللغة الروائية ومعايير الفنّ الروائي؛ فتعاملت مع الخصوصية الثقافية والدينية برؤى ناقدة متجنّبة الجدل وإثارة الفتن وانفجار مواقع التواصل الاجتماعي بأمور غير مسؤولة ولا حاجة لها، لم تفتح أبواب المجادلات العقائدية عن دين الموحّدين، لكنها أظهرت طرقاً للتمعّن فيه وكشف ما هو مسكوت عنه، كانت مسؤوليتها صعبة فيما يتعلّق بالحذر الشديد مع مسارات ومصائر قضاياها وأهدافها وأبطالها الشجعان.

________________
1 – عرّف عالِما النفس شيلي دوفال وروبرت ويكلوند الوعي الذاتي بأنه القدرة على التركيز على نفسك، وكيفية توافق أو عدم توافق أفعالك أو أفكارك أو عواطفك مع معاييرك الداخلية. إذا كان إدراكك الذاتي عالياً يمكنك تقييم نفسك بموضوعية وإدارة عواطفك، ومواءمة سلوكك مع قيمك، وفهم كيف ينظر إليك الآخرون بشكل صحيح.
2 – هي لحظات يتساءل فيها الأفراد عمّا إذا كان لحياتهم معنى أو غرض أو قيمة، وتتأثّر سلباً بالتأمّل. موسوعة ويكيبيديا.
3 – هي شعور الإنسان بالنقص أو العجز العضوي أو النفسي أو الاجتماعي بطريقة تؤثّر على سلوكه. موسوعة ويكيبيديا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!