الحوار الهاديء

الدولة العميقة والحكومة العميقة

لويس إقليمس      

 

 

الدولة العميقة والحكومة العميقة

 بغداد، في 5 نيسان 2019

لا شكّ أنّ تراجع الأداء الوطني في العراق بعد سقوط نظام البعث في 2003، كانت له انعكاسات تراجيدية على صعيد الأداء الحكومي بل على صعيد الدولة العراقية ككلّ. وكان لتداخل السلطات وتعدّد الجهات التي تدّعي الأحقية في الحكم أو السلطة أو في فرض أجنداتها الخاصة بحسب تبعيتها العرقية والحزبية والدينية والمذهبية، آثارٌ سلبية على صعيد هذا الأداء بما فيه تسيير شؤون الدولة وفق السياقات المتعارف عليها من حيث السيادة الوطنية والمركزية في الحكم. فقد انتشرت ظاهرة فرض السلطات وإدارة المؤسسات التي أصبحت من حصة أحزاب السلطة الحاكمة بشكل مريب بغياب سيادة القانون والتراخي في تطبيق الدستور، ممّا كان له الأثر البالغ في ضياع هيبة الدولة وانتشار مجاميع مسلحة منفلتة أو جماعات تدّعي انتماءها للسلطة أو قربها من مرجعيات دينية لها الوصاية على أمر القائمين على رأس هذه السلطة. وهذا ما فتح الباب أمام عناصر هذه الأخيرة للتقرّب والتودّد من المرجعيات الدينية صاحبة الشأن وفي التأثير المجتمعي معًا، بحجة الادّعاء بالسير وفق توجيهاتها وأوامرها، سواء كسبًا للودّ الشعبي وللدعاية الانتخابية أو لنيل البركة وتحقيق المطامع بأساليب التذلّل والخضوع والخنوع. والنتيجة حصول تداخل في السلطات مع بعضها البعض وبروز سلطات ثانوية وجانبية داخل سلطة الدولة الرئيسة تنافسها بل وتفرض روزنامتها الضيقة وتعيق العمل المؤسساتي بوسائل وطرق عديدة لغاية تحقيق مآربها بفضل تأثيرها السياسي والعسكري في اتخاذ القرارات، بحيث أصبحت أشبه بدويلات داخل دولة العراق.

 

حركة رخيصة

مثل هذه الحركات الرخيصة والسلوكيات المشبوهة والبعيدة عن البعد الوطني في الأداء والتي أغاضت المرجعية الدينية الرشيدة نفسها في أحيان كثيرة عندما أفصحت هذه عن عدم رضاها للأداء الحكومي طيلة حقب الحكومات الفاشلة المنصرمة، قد وضعت قدرات الدولة العراقية في مهبّ الريح. فضاعت الأموال العامة بأيدي جهات فاسدة وضعت أيديها على وزارات ومؤسسات وفق نظام تحاصصي مقيت أثقل كاهل الوطن والمواطن بسبب سوء استخدام أموال الميزانيات السنوية الضخمة. فلا المواطن شعر بتحسّن وضعِه المعيشي ولا الدولة شهدت تطورًا وتحسنًا في بنائها الحضاري وفي الخدمات المقدمة للمواطن بسبب التعامل مع مشاريع وهمية في معظمها. كما تفنّنت أحزاب السلطة الحاكمة المتولية أمرَ الوزارات صاحبة الشأن عبر دكاكينها الاقتصادية ولوبياتها التجارية، في كيفية التخطيط لاقتناص المشاريع وإدارتها وكذا في وسائل تبرير عدم اكتمالها وتلكّؤها أو ضياعها بين أيدي مكاتبها الاقتصادية ومجاميعها المسلحة أو المتعاونين والمشاركين معها من المقاولين وكبار السرّاق. والدليل على ذلك، الاكتفاء بما هو قائم من مؤسسات وحواضر وأبنية وشواهد علمية وتربوية ومشاريع ضخمة من طرق وسدود وقنوات مائية ومجسّرات وجسور تعود لأزمنة سابقة، وعدم إضافة شواخص جديدة عليها. فكلّ ما هو قائم اليوم يعود لعمل الأنظمة السابقة وجهودها في إعمار البلاد وتطويرها وجعلها في مصاف الدول المتقدمة بين شعوب المنطقة بحيث كان يُضرب بها المثل قبل السقوط بأيدي الغزاة الأمريكان ودول الغرب وأذيالهم من القادمين من خلف الأسوار ومن مزدوجي الجنسية الذين تهافتوا وتكالبوا لنيل حصصهم من كعكة البلاد السائغة ولغاية الساعة.

من هنا، كبرت هذه المجاميع الحزبية بقوة ما كسبته من أموال السحت الحرام وسرقة نفط البلاد والتعامل بمشتقاته بطرق غير مشروعة. كما تعمّقت مكاتبها الاقتصادية التكسبية وأصبحت تمثل دويلات شبهَ مستقلة داخل شبه دولة العراق التي أصابها الهون والضعف والتخاذل بحيث أضحت غير قادرة على رأب الشرخ ومعالجة الوضع المتردّي لسنوات عجاف لغاية بداية هذه السنة عندما انبرت حكومة السيد عبد المهدي لاتخاذ بعض التدابير التي ماتزال ناقصة لمعالجة مواقع الخلل ووضع الأمور في نصابها وإعادة هيبة الدولة وسيادتها ليعود العراق حرًّا مستقلًّا في أدائه السيادي ولتعود حكومته فارضةً برنامجها ومقيّمةً أعمالها وواضعةً حدًّا لحالة الانفلات الأمني والاقتصادي والخدمي. وهذا هو السبيل الوحيد للخروج من نفق مفهوم الحكومة العميقة والدولة العميقة الموصوفة في البرنامج الحكومي للحكومة الحالية، بعودة مؤسسات الدولة للعمل وفق برنامج وطني غير مخترَق من قبل لوبيات الكتل السياسية وأحزاب السلطة ودكاكينها الاقتصادية التي تمثلها غالبًا في صفوف هذه المؤسسات وفي الدوائر التي لا تخلو إحداها من ممثلين تابعين لها.

 فقد أُشيع في الوزارة الحالية مثلاً، تعيين مدراء لمكاتب وزراء كي يقوموا بمهمة حماية الحصص والحفاظ على المنافع المترتبة من وراء عقود ومشاريع يتم إحالتها بصيغة التقاسم بين أحزاب السلطة وفق مفهوم التفاهم والتشارك أحيانًا وعقد الصفقات والمساومات في أحيان أخرى. والبادي للعيان أن مثل هذه البؤر المنتشرة في مؤسسات الدولة العراقية هدفها الحفاظ على المصالح السياسية لأطراف في السلطة وضمان بقائها على رأسها ما شاءت الأقدار كنوع من الحماية الاستخباراتية وتوجسًا من أية محاولات لزعزعة شكل النظام السياسي الفاشل القائم منذ السقوط.

نظام قائم

إن مفهوم الدولة العميقة في العراق واضح للعيان ولو مجازيًا، من خلال تعدّد مراكز القوى المتحالفة المتشاركة المتناقضة المتنافسة معًا سياسيًا والمختلفة في اتباع الأجندة الخاصة بكلّ منها وبضمنها تشكيلات الحشد الشعبي، حمايةً للنظام السياسي القائم. أي أنها من ناحية، تبدو متفاهمة على شكل النظام القائم الذي يحمي مصالحها من حيث المبدأ، لكنها مختلفة في ذات الوقت على شكل الروزنامة التي تسعى لتطبيقها وسط الفوضى العارمة التي شهدتها البلاد منذ ما يربو على ستة عشر عامًا من تغيير النظام. فخيار التهديد والانتقام وتخريب الساحة مازال سيّد المشهد كلّما تعمّقت الخلافات السياسية وطغت الاختلافات حول المصالح والمنافع والمناصب، ما يجيز لنا القول بسيادة مبدأ وجود دويلات داخل الدولة العراقية، يتحكم بها أشخاص أو مجاميع ميليشياوية مسلحة، بغياب سيادة لغة الدستور والقانون والنظام التي ينبغي أن تحكم المواطن والوطن. وهي بفضل سطوتها قادرة على تغيير المواقف وإخضاع سياسة البلاد وفقًا لمسار ورغبات الجهات التي تتبعها وتمولها وتضمن لها ديمومة البقاء. أي بمعنى آخر، يمكن رصد تأثيرات ذات بُعد سياسي واقتصادي وقضائي على إدارة البلاد يتولاّها أتباع أو أشخاص مقرّبون من مراكز القوى المهيمنة على مقدّرات البلاد بفعل ما يملكه هؤلاء من سطوة وتخويل من قبل أحزاب السلطة ومَن يواليها ويدعمها في الداخل والخارج. وهذا ما يجعل هذه المجاميع المتجذرة خارج صفوف السيادة الوطنية وعصيّة على الدولة والشعب المسكين الذي جلّ همّه يبقى في البحث عن أمنه وأمانه ولقمة عيشه بشرف وضمير وكبرياء وطني.

لقد أثبتت الأيام أن أحزاب السلطة منذ تشكيل أول حكومة منتخبة، قد أجادت دورها في خلق كيانات مزروعة داخل جسم مؤسسات الدولة لتؤدي دور الدويلة الحاكمة داخل دولة العراق الهشة خوفًا على مصالحها ومكاسبها من أية هزات شعبية مناهضة أو معترضة، وحفاظًا على كيان وجودها وديمومة بقائها في السلطة. وهي بذلك تكون قادرة على الإمساك بمقاليد السلطة بفضل ما تملكه من دعم من جهات دينية وقضائية مسيّسة وما تكتنزه من طاقات أمنية وتسليحية وقدرات اقتصادية وأدوات إعلامية ماكرة تجعلها قادرة على التأثير في صفوف العامة والخاصة.

وبذلك ضاعت المعايير الوطنية التي كان ينبغي أن تكون سيدة الموقف في تعزيز استقلالية الدولة وعدم تبعيتها لدول الجوار أو للأجنبي أيًا كان. لذا فإنّ المرحلة الراهنة تتطلب اليوم من الحكومة القائمة أن تنأى بنفسها عن دعم اية محاولة لإبعاد البلاد عن سيادتها الوطنية و”الضرب بيد القضاء” كلَّ مَن يسعى لإدامة زخم دائرة الفساد الذي تقف وراءه رؤوس هذه الدويلات العميقة المتجذرة في بنيان الدولة، والشروع بالإصلاح الحقيقي للإنسان العراقي ومن ثم إجراء تغييرات جذرية في النظام المؤسساتي المثقل بالهموم والمتاعب والذي أفقد البلاد سمة الدولة الحديثة المتحضرة بسبب صراع الإرادات والأداء الطائفي والفساد المستشري.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!