الحوار الهاديء

الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن 22

الكاتب: الشماس د. كوركيس مردو
الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن
 
الجزء الثاني والعشرون
أحوال الكنيسة الكلدانية النسطورية في أواخر العهد العباسي
 
لم يُطلَق المَثَل القائل “لكُلِّ زمان دولة ٌ ورجال” جُزافاً، فإن الخلفاءَ العباسيين الأربعة الأواخر، أثبتوا عدم قدرتهم على تحرير ذواتهم مِن نفوذ الغرباء، مِمّا جعلهم مُسيَّرين في إدارة شؤون الدولة لا مُخيَّرين، ولذلك لم يستطيعوا التصدّيَ للأحداث بالمستوى المطلوب مِن القوة والحزم، وبدأ الإنحلالُ ينخرُ في أوصال الخ*لافة، بحيث أنَّ الخليفة أصبحَ أداة ً طيِّعة بأيدي الأمراء والحُكّام المتسلطين. وكان هذا العجزُ سبباً في انحطاط الدولة العباسية كما سنرى فيما يلي:
 
30 – الخليفة الناصر لدين الله 1180 – 1225م
يقول إبن الكازرُني (مختصر تاريخ الدول ص 242) والسيوطي (تاريخ الخلفاء ص 448) بأنَّه أبو العباس أحمد بن المستضيء المُلقب بـ”الناصر لدين الدولة” وُلد عام 1156م. كانت أمًّه تركية اسمها “زمرد خاتون”. وقد رُويَ بأنَّ أباه المُستضيء كان قد أعلنه وليّاً للعهد، ثمَّ عَدِلَ عن ذلك لصالح أخيه أبي منصور هاشم. لكنَّ الأمرَ تبدَّل بعد وفاة المستضيء ولم يُعمَل بقراره، بل أُعيدَ الحقَّ الى أبي العباس أحمد صاحبه الشرعي، وبويع بالخ*لافة في صباح ليلة موت والده. وبالرغم مِن التناقض الذي كان يكتنف الناصر مِراراً، فقد أثنى عليه المؤرخون حيث قالوا: <إذا أطعمَ أشبعَ، وإذا ضرب أوجعَ، وان له مواطن يُعطي فيها عطاءَ مَن لا يخاف الفقر> إلا أن إبنَ الأثير (الكامل في التاريخ12 ص 440) يصفه قائلاً: <…كان الناصرُسيّيءَ السيرة، خربت في أيامه العراق لِما أحدثه مِن الرسوم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشيءَ وضِدَّه الخ…> بينما يصفه المؤرخ فاروق عمر فـوزي بالداهية في كتابه (الخليفة الداهية الناصر لدين الله العباسي- بغداد 1989م) أما المصادرالتالية (الفتوّة والصعلكة/ أحمد أمين ــ الفتوَّة في الإسلام/ سعيد الديوه جي ــ مجلة المجمع العلمي العراقي 1958/ مصطفى جواد) فقد ذكرت عنه: بأنه الخليفة الناصر اشتهر بإحداثه “تنظيم الفتوَّة” على قواعد واسس ٍ جديدة، حتى غدت معروفة ً باسمه “الفتوَّة الناصرية”.
لم تَطُل الخ*لافة العباسية لأحدٍ قبل الناصرلدين الله أو بعده كما طالت له، وتخلَّلت عهدَه الطويل أحداثٌ هامة ولا سيما في العاصمة،  فبتحريضٍ مِن بعض الموغلين بالتعصُّب والتزمُّت، أُجبِرَأصحابُ الحانات الى غلقِها، وأُبعدَ الكثيرُ مِن المسيحيين عن مناصب الدولة الرسمية، تحت ذرائع واتهامات إدِّعائية، وأخص المشمولين بالإبعاد كانوا أفراد اسرة النظام، ورغم تدخل الوزير المُفوَّض بن البخاري لصالح إبقاء إبن الأشقر مِن ديوان الأرض بمنصبه، إلا أنَّه لم يُفلح. ونتيجة ًلهذه الإجراءات العنصرية التعسُّفية إضطرَّ العديدُ مِن المسيحيين الى اعتناق الإسلام للحفاظ على مناصبهم وأموالهم، وهذا سلاحٌ آخر بديلاً عن السيف لإرغام المسيحيين للدخول الى الإسلام!
 
ومع كُلِّ هذه الأساليب المستنبطة ضّدَّ المسيحيين، لم يستطع الخليفة وبَلاطُه الإستغناء عن الأطباء المسيحيين، فنرى إبن العبري (تاريخ مختصر الدول ص 416) وإبن أبي أُصيبعة (عيون الأنباء… ص 403 – 405) يذكران مِن أطباء الدار الإمامية الناصرية: صاعد بن هبة الله بن المؤمل أبا الحسن النصراني النيلي وأخاه الأركذياقون أبا الخير وهما أخوا البطريرك الملقب بابن المسيحي. فقد كان صاعدٌ الأكثرَ قُرباً مِن الخليفة الناصر، بحكم مَعرفته التامة بالطب والمَنطق. ألَّفَ صاعـد كتاباً صغيرَ الحجم سمّاه “الصفوة”. ووضع الأركذياقون أبوالخير كتاباً مُختصراً ضمَّنه تلخيصاً لمباحث كتاب الكليات مِن القانون سمّاه “الإقتضاب”. وكان أبو الأركذياقون أبي الخير قد أخذ إبنه هذا في صغره الى إبن التلميذ فأقرأَه المسألة الاولى مِن مسائل حُنين. ومِن الأطباء الذين كانوا في خدمة الخليفة الناصرأيضاً، يذكر إبن أبي أُصيبعة (عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص 298 و 301 – 302) الطبيب أبا الفرج المسيحي . الذي تُوفي عام 1204م ودُفن ليلاً وأُجريت له مراسيم دَفن كبيرة حضرها رهطٌ غفيرٌ مِن المسيحيين مع كثير مِن الفنود “جماعات الطوائف الاخرى” ويُضيف إبن أبي أُصيبعة في ذات الموضع قئلاً: وذات يوم ألَمَّ بالخليفة الناصرألَمٌ في مثانته لم يستطع الطبيبُ أبو الخير أن يشفيه، فاستُدعيَ طبيبٌ مسيحيٌّ آخر اسمه أبو نصر سعيد بن عيسى، ووضع على الموضع بلسماً أذابَ الحصى وشُفي الخليفة. فغمره الخليفة الناصر بالهبات، وكذلك فعلت “زمرد خاتون” زوجة الخليفة وأولاده. وخَصَّصَ له الناصر راتباً سنوياً حتى موته. وكان هؤلاء الأطباء يُمارسون الطب في مستشفى العضدي الشهير في بغداد الى جانب خِدمتهم في البلاط الخليفي.
 
وعن العلماء والأطباء البارزين الذين عاصروا الخليفة الناصر وقضوا نحبَهم في عهده، يذكر مِنهم إبـن العبري (مُختصر تاريخ الدول ص 419 – 420) موسى بن مَيمون اليهودي الأندلسي الذي يصفه بالطبيب الشهير والرياضي العظيم، وقد أُكرهَ على الإسلام، فأظهره وأسَرَّ اليهودية. وافته المنيَّة عام 1209م في هرات الإمام الفخر الرازي  “محمد بـن عمر” المعروف بابن الخطيب بالري. وتوفي أيضاً عام 1211م إبن أبي البقاء المسيحي النيلي نزيل بغداد، والمُكنّى بـ”أبي الخير” ويُعرَف بابن العطار الخبير بالعلاج. أما إبنه الطبيب أبوعلي، فقد ساءَت سمعتُه بسبب توَرُّطه في مشاكل غرامية. ويُضيف إبن العبري في ذات الموضع (ص 421 – 422) بأنَّ أبا الكرم صاعد بن توما النصراني الطبيب البغدادي والمُلقب بأمين الدولة قُتل عام 1223م. وأتى في كتاب (الخليفة الداهية… لفاروق عمر فوزي ص 79) ذِكرُ شاعر نسطوري عاش في عهد الخليفة الناصرهوعـبد المُنعم المصري الذي عمل سفيراً للخليفة في مناسباتٍ عِدة. وقد وافى الأجلُ الخليفة الناصر في السادس مِن تشرين الأول عام 1225م  ودفن في ايوان دار الصخر، ثمَّ نُقل جثمانه الى تُرب الرصافة فدُفن فيها بجوار جَدِّه المُستنجد.
 
في عام 1187م وهو العام السابع لتوَلّي الناصر لدين الله الخ*لافة، استطاع صلاح الدين الأيوبي ضَربَ حصار شديد على مدينة اورشليم التي يُسمّيها المسلمون “بيت المقدس أوالقدس” وتحت ثقل هذا الحصار لم يستطع الأهلون الصمود طويلاً، فاضطرّوا للإستسلام، فتوغلَ جيشُ صلاح الدين في المدينة، وبالرغم مِما قيل عن تَحَلّي صلاح الدين بالنخوة والشهامة، إلا أنه لم يسـتطع ضبط أفراد جيشه مِن القيام بأعمال مُهينةٍ ودموية بحسب وصف المؤرخين (تاريخ الرهاوي المجهول المجلد 82 ــ تاريخ ميخائيل اليعقوبي3 ص 405) يندى لها الجبين أسىً وخجلاً، مُظهرين فيها غريزتهم الإنتقامية بأجلى صورها، بالإضافة الى تدمير المدينة المقدَّسة وسلبها ونهبها. لم تسلم إلا كنيسة القيامة الكبرى حيث وضعت تحت الحراسة، ربما بهدف الإستفادة وذلك لإستيفائهم عشرة دنانير مِن كُلِّ مسيحيٍّ يروم الدخول إليها للسجود أمام القبر المقدَّس .
يقول حبيب الزيات (الصليب والإسلام ص 10) ما مُلخَّصُه: لم يهتم مسيحيو بلاد ما بين النهرَين بانتصارات الصليبيين، ولا بسقوط القدس بأيدي المُسلمين ولا باستعراض فرسان الإفرنج فى شوارع بغداد بحالةٍ مِن الإذلال والهوان. إلا أنَّ ما آلمهم وأثار غضبَهم هو قيام صلاح الدين عام 1189م قبَيل وفاته بإرسال الصليب المرفوع فوق قبة الصخرة في القدس المصنوع مِن البرُنز المطليِّ بالذهب الى الخليفة، فدُفنَ عند مدخل باب بغداد المعروف بباب النوبي، وجُعِلً جزءٌ مِنه ظاهراً قليلاً وكان المسلمون المارون يطأونه بأقدامِهم ويبصقون عليه .
 
بقدر ما أثارَ سقوطُ القدس بأيدي المُسلمين واحتلالهم لها فرحاً في نفوسهم، بقدرأكبرمنه أثار في قلوبهم الغضبَ والحِقدَ على مسيحيي الشرق، ولاسيما سكان المناطق الغربية مِنهم، فأعلنوا عليهم اضطهاداً قاسياً مُتعدِّد الأشكال، أحدث صدىً  بما دوَّنه في أواخر حياته شاهدُ عيان لتلك الوقائع الأليمة هو المؤرخ الكبير ميخائيل اليعقوبي في كتاب تاريخه الذي يمتدُّ حتى عام 1195م، حيث يقول بالنص <إنَّ الكلامَ لعاجزٌ عن التعبير عن جميع الإهانات والمَذلات والإحتقار التي سامَها المسلمون للشعبَ المسيحي المُضطهد، في دمشق وحرّان والرُّها وآمد و مارديـن والموصل وفي سائر أنحاء المملكة>.
 
وليس مِن شَكٍّ أنَّ تلك الأحداث المأساوية كان لها دورٌ كبيرٌ في توسيع هوة الخلاف بين المسيحيين والمسلمين، وستنطلق المشاعر المكبوتة والغزيرة بالألم مِن عقالها حين يقتحم المغولُ أبواب بغداد في عام 1258م. ولم يكن مِن المُستغرَب أن يكون لهذه الأحداث رَدُّ فِعل سيٍّ على بعض المسيحيين، أدّى بهم الى التخاذل عن دينهم. ويسرد لنا إبن العبري (التاريخ السرياني ص 380) مثلاً  بطبيب صلاح الدين الأيوبي المُسمّى”موفق أسعد الدمشقي” والمعروف بابن المطران. فمِن أجل الجاه والغنى ترك مسيحيته وتحَول الى الإسلام، فأزوجه صلاح الدين إحدى إمائه . وبعد موته، تردَّت حالة زوجته للحضيض، فاضطرَّت للتسوُّل على الأبواب لتقتات هي وابنهما.
مات صلاح الدين الأيوبي في الرابع مِن آذار عام 1193م إثر إصابته بنوبةِ حُمّى قوية في دمشق، تاركاً  وراءَه 17 عشر ولداً وبنتاً صغيرة واحدة، الى جانب خزانةٍ خاوية لم يكن فـيها سوى دينار واحدٍ و36 درهماً، نتيجة بذخه المُفرط وسخائه. ويُروى عنه، بأنًّه لما شعر باقتراب أجله، نادى أحد الأمراء وأمره بأن يضع كفنه على رأس قصبة، ويطوف به في أسواق المدينة قائلاً: <إنَّ الملكَ صلاح الدين ينتقل مِن هذا العالَم، ولا يأخذ مِن كُلِّ أمواله سوى هذه قطعة الكفن>.
 
67 – البطريرك يهبلاها الثاني بن قيوما 1190- 1222م
يقول المؤرخ إبن العبري (التاريخ السرياني ص 380) ايليا بن قيوما هو أحد أبنا الموصل، رُسِمَ اسقفاً على ميافرقين، ثمَّ رُقيَ الى منصب كُرسيِّ نصيبين الميطـرابوليطي. بموت البطريرك العظيم ايليا الثالث أبي حليم، وشغور الكرسي البطريركي بما يقرب مِن ثلاثة أشهر، اجتمع الآباءُ المطارنة لإنتخاب بطريركٍ جديد. وكان ايليا ميطرابوليط نصيبين بحسب قول صليبا (المجدل ص 115) <رجلاً ذكيّاً وخبيراً بالمُداراة>، ويُضيف إبن العبري (التاريخ الكنسي ج2 ص 370 – 372) <فقد شعر بأن الأساقفة والبغداديين لا يُريدونه، فدفع لوالي بغداد مبلغ 7000 دينار فأوعز الأخيرُ الــى الأساقفة باختياره، فاضطرّوا لفعل ذلك مُرغمين. وتمَّت رسامتُه بطريركاً باسم يَهبَلاها الثاني في الأحد الثالث مِن سابوع الرسل لعام 1190م . ويُتابع صليبا القول في الموضع السابق ذاته، <بأنَّه لم يشأ السكنى في القلاية البطريركية بدارالروم، بل فـضَّل السكنى في بـيعة العذراء المعروفة ببيعة العقبة في منطقة العتيقة بالجانب الغربي مِن بغداد، ويُردف بأنَّ النصارى كانوا في عهده ينعمون بالراحة والعيش الهنيء، وأنّه رسم18 مطراناً و37 اسقفاً>.
 
ربما كان صليبا مُبالِغاً في وصف المسيحيين بالتنعم بالراحة والعيش الهنيء، لأننا نعلم جيداً وعلى مَرِّ عهود بني العـباس، بأن العلماء المُسلمين كانوا على الدوام تعظُّهم أنياب الغيرة مِن نجاح المسيحيين في مجالات العِلم والطب التي بفضلها يتسلمون المناصب الرفيعة في الـدولة، فلم يكونوا يُفوِّتون أية فرصةٍ للإيقاع بهم والتقليل مِن شأنهم عند الخلفاء والحكّام ويدفعونهم الى اتخاذ إجراءاتٍ تَحد من نفوذهم، وهذا الشيء لم يختفِ في عهد الخليفة الناصر، بل كان التحامُل على المسيحيين أكثرَ عن*فاً وأشدَّ تحريضاً. ومثالاً على ذلك ما أورده الأب فييِّه (المسيحيون السريان… ص 261 – 262) هو أنَّ إبن فضلان الذي درس الفقهَ على والده المدرِّس في المدرسة النظامية في بغداد، وخلفه بعد موته في التعليم في المدرسة ذاتها عام 1199م. وعندذاك وجَّه رسالة ً الى الخليفة الناصر ضمَّنها طلباً جاء فيه: <إنَّ المذهبَ الشافعي يقضي بأن يكون ما يُؤخذ مِن الذمِّيين كُلَّ سنة مُعادلاً لإيجار سكناهم في “دار السلم” وإذ ليس ثمَّة حدٌّ أعلى مُعَـيَّن، فالحد الأدنى هو دينار واحد. ولكنَّ الذميين أغنياء. فمنهم مَن يكسبون في اليوم الواحد، على حساب المُسلمين، ما يدفعونه عن سنةٍ كاملة> ثمَّ يمضي في ضرب أمثلةٍ على ما قد مُنِحَ مِن امتيازاتٍ لأهل الذمة فيقول: <إنَّ إبنَ الخازن قيصر أبعد الفقيهَ المسلم إبن مهريز ووضع مكانَه جبريل بن زطينا أميناً للخزينة وعيَّنَ إبن ساوا في واسط…>  ويُتابع مُستشهداً بما اتخذه الخلفاء علي وعمر بحقِّ الذميين مِن إجراءاتٍ صارمة <… ليس للذميين في أيِّ موضع آخر حالة ٌ ووضعٌ ومركز أفضل مِما لهم في بغـداد…> وبعد ذلك يتحوَّل إبن فضلان الى انتقاد جميع الذميين الذين يجنون أرباحاً طائلة مِن الأطباء الذين مُنحوا حرية الدخول على العظماء، في حين أنَّهم ليسوا سوى مُشعوذين حصلوا على شهاداتهم دون أن يقرأوا أكثر مِن مسائل حُنَين العشر وخمس وصفاتٍ مِن تذكرة شفاء العيون، وغيرهم مِن التجار الذين يُحققون أرباحاً كبيرة على حساب المسلمين ولكي يعـيشوا حياة البذخ في الأكل والشرب والملذات. إنَّ جميع هؤلاء الناس الأغنياء اليوم ظلُّوا مُضطـرِّين عبر الأجيال الى المذلّة والى حمل الشارات المُمَيَّزة…>.
ورغم كُلِّ هذا التحريض الوضيع وليدِ الحقد والغيرة، كان المسيحيون في سنوات عهد الخليفة الناصر الاولى يشغـلون مناصـب رفيعة في الدولة ودار الخ*لافة، ويُستدَلُّ مِن ذلك، بأنّ الخليفة الناصر إطلع على مطالب إبن فضلان، ولكنَّه لم يأبه بها. وقد عَظُمَ شأن أبي الغنائم نصر بن ساوا الذي هاجمه إبن فضلان، حيث انتقل مِن إدارة واسط الى إدارة منطقتي الدجيل وداقوق بعد موت الأمير علاء الدين الناصري. ولكنَّ خصومه المتزمتين لم يتركوه في حاله حتى استطاعوا أخيراً تلفيق إتّهام له عام 1207م بتسببه في موت سلفه، فحُكم عليه بقطع يديه ورجليه قبل أن يُعَلقَ أمام دار الأمير المتوفى، ولم ينفع مبلغ العشرة آلاف دينار لإنقاذه، وقد اعتبره المؤرخ صليبا شهيداً. ويتسأَل الأب فِييه (المسيحيون السريان… ص 262 /ح 74) أليس مِن المنطق أن يكون للفقهاء الحَنبليين الذين كانت مدرستُهم في درب القيار حيث كان يقع فيها منزل إبن ساوا أيضاً ضلعٌ في هذه التهمة؟ وقد أُعطيت دارُه لشخص آخر في عام 1209م. ولكنَّ هذا الحادث الفردي لا يُمكن اعتبارُه اضطهاداً شاملاً ضِدَّ المسيحيين عموماً، إلا أنَّه دليل على انخفاض شأن المسيحيين مِن حيث المُعتقد والسياسة. وقد ظهر في هذه الأثناء كما يقول إبن العبري (تاريخ مختصر الدول ص 420) طبيبٌ مسيحي يُدعى “علي بن أحمد أبو الحسن” المعروف بـ”إبن هبل” كان تلميذاً لليهودي أبي البركات، وهو بغدادي عالم بالطب والأدب. مَرَّ بالموصل وهو في طريقه الى أذربيجان ولدى وصوله “خلاط” أقام فيها عند صاحبها “شاه ارمن يطبَّه” وتوافد الناس إليه للقراءة. وغادرها عائداً الى الموصل، ممتلئاً مِن المال، واستقَّر بها حتى وافاه الأجل. ترك كتاباً حسناً في الطب بأربعة مجلدات أسماه     “المُختار”. وتُوفي عام 1213م عن عمر يناهز الخامسة والتسعين .
يقول بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج1 ص 498) في عَهد البطريرك يهبلاها الثاني بن قيوما، وكعادة اليعاقبة في كُلِّ المراحل، استولوا بدون وجه حَق على دير الزعفران في نصيبين المُشيَّد على اسم باباي النصيبيني العائد للكلدان النساطرة، إلا أن كيدهم رُدَّ الى نحرهم واستعـيدَ الديرُ مِنهم بسعي جادٍّ أبداه الشماس سعـيد الرُهاوي الكلداني النسطوري المُلقب بـ “وجه الدولة” وقد وافى الأجلُ مار يَهبَلاها في نهاية شهر كانون الثاني لعام 1222م، بعد رئاسةٍ ناهزت الواحدَ والثلاثين عاماً، ودُفن في كنيسة العتيقة للقديسة مريم المعروفة ببيعة العقبة والتي كان قد إتخذها له مقرّاً بدلا مِن القلاية البطريركية بدارالروم .
 
68 – البطريرك سبريشوع الرابع بن قيوما 1222 – 1224م
يقول المؤرخ صليبا (المجدل ص 116) بأن سبريشوع كان هو أيضاً مِن أبناء الموصل، ولُقب بابن قيوما لكونه إبن أخي البطريرك السابق يَهـبَلاها الثاني. رسمه عَمُّه اسقفاً على بانوهدرا، ثمَّ رَقّاه الى منصب مطرانية حزة “أربيل”. بعد وفاة يَهبَلاها الثاني، اجتمع الآباءُ المطارنة للإنتخاب، وكان التنافس كبيراً حيث كان كُلُّ واحدٍ منهم يطمح بالرئاسة لنفسه، وأضحى المؤمنون في حيرةٍ مِن أمرهم مِما أدّى الى انقسامهم الى فريقين. نذكر باختصار ما قاله بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج1 ص 499 – 500) حول هذا الإنقسام. اختار الفريق الأول وهو الأقل عدداً سبريشوع بن المسيحي تقديراً لعـِلمه وفـضله وقـدسه واعـتباراً لإخوَته الحُكماء الفضلاء. إلا أنَّ جَماعة الفريق الثاني وهو الأكثر عدداً فقد اختارت سبريشوع بن قيوما، آخذين بنظر الإعتبار الخبرة الواسعة التي اكتسبها في ادارة الشؤون الكنسية لدى تَدرُّبه على عـَمِّه البطريرك. بيدَ أنَّ إبن العبري (التاريخ الكنسي2 ص 372) فيقول: <إنَّ إبنَ قيوما توصَّل الى الرئاسة مثل سلفه بدفع رشوة للحاكم قدرها 7000 دينار وكان الوسيط في هذه المساومة الـطبيب اليعقوبي أمين الدولة>. (وهنا تجدر المُلاحظة ومع الإحترام لغريغوريوس بن العبري بكونه مؤرخاً يعقوبياً طويل الباع، ولكنَّه وكَكُل اليعاقبة لا يتسم بالعدالة والصراحة عندما يتحدَّث عن النساطرة) وبغض النظر عن الصح أو الخطأ  فيما قيل، فقد فاز سبريشوع بن قيوما ونال تأييد الخليفة الناصر، وتمَّت رسامته بالمدائن في آخر أيام تموز لعام 1222م واستقرَّ فيها مُمارساً واجباته الإدارية وقد أجادَ بها مُصلِحاً ما كان غير مُجدٍ، بادر الى فتح المدارس وإحياء العلوم، وفي زَمن رئاسته كانت مدرسة المستنصرية في بغداد قد ذاعت شهرتُها كإحدى أعظم المَدارس مِن حيث البناء والإتساع وتَنوُّع الفقهاء مِن المذاهب الأربعة. قضى مارسبريشوع الرابع نَحبَه  في 11/ 6/ 1224م ودُفنَ في كنيسة السيدة المعروفة ببيعة العقبة بجوار قبر عـَمِّه .
إنَّ الشخصية التي ذكرها إبن العبري بأنَّها لعبت دور الوسيط في انتخاب البطريرك سبريشوع بن قيوما، كان أبا الكرم بن توما النصراني البغدادي المعروف بأمين الدولة، طبيب وسكرتير ووزير نجم الدين أبي اليُمن نجاح الشرابي. شَقَّ طريقه الى الرقيِّ والتقدم في عهد الخليفة الناصر حتى بلغ منزلة الوزراء، وكان موضع ثقة الخليفة فاستأمنه على حِفظ أمواله وخـواصه، وكان حَسن الوساطة جميل المحضر، تُقضى على يده حاجات الناس. لقد أُغتيل عام 1223م، ويروي إبن العبري سبب هذا الإغتيال حيث يقول بالنص: <كان الإمام الناصر”الخليفة” في آخر أيامه قد ضَعُفَ بصرُه، وأدركَه سهوٌ في أكثر أوقاته. ولما عَجِزَ عن النظر في القصص، استحضرَ امرأة ًمِن النساء البغداديات تُعرَف بست “نسيم” وقرَّبها. وكانت تكتب خطاً قريباً مِن خَطه، وجعلها بين يديه تكتب الأجوبة وشاركَها في ذلك خادم اسمه تاج الدين رشيق. فصارت المرأة تكتب في الأجوبة ما تُريد، فمرَّة ً تُصيب ومِراراً تُخطيء. واتّفق أن كتب الوزيرالقمي المدعو بالمؤيد مطالعة، وعاد جوابُها وفيه إخلال بيِّن. فتوقَف الوزيرُ وأنكر، ثمَّ استدعى الحكيم صاعد بن توما، وسأله عن ذلك سِرّاً. فعَرَّفه ما عليه الخليفة مِن عدم البصر والسهو الطاريء في أكثر الأوقات، وما تعتمده المرأة والخادم مِن الأجوبة. فتوَقفَ الوزيرُ عن العمل بأكثر الامور الواردة إليه. وتحقَّق الخادم والمرأة ذلك وحدسا أنَّ الحكيم هو الذي دَله على ذلك. فقرَّر رشيق مع رجلَين مِن الجند أن يغتالا الحكيم ويق*ت*لاه، وهما رجلان يُعرَفان بولدَي قمر الدين مِن الأجناد الواسطية. فرصدا الحكيم في بعض الليالي الى أن خرج مِن دار الوزير عائداً الى دار الخليفة. فتبعاه الى باب الغلّة المظلمة، ووثبا عليه بسكينيهما وجرحاه وانهزما. فبصر بهما وصاح: خذوهما! فعادا إليه وق*ت*لاه وجرحا النفاط “حامل المُشعل” الذي بين يديه. وحُمل الحكيم إبن توما الى منزله ودُفن بدار في ليلته. وبعد تسعة أشهر نُقلَ الى تُربة آبائه في البيعة بباب المُحَوَّل. فبحث الخليفة والوزير عن القاتلين، فعُرفا، وأمر بالقبض عليهما. وفي بكرة تلك الليلة، أُخرجا الى موضع الق*ت*ل، وشُقَّ بطناهما وصُلبا على باب المذبح المُحاذي لباب الغلّة التي جُرح في بابها>. والغريب أنَّ الخليفة استحوذ على أموال المتوفى المنقولة، وترك الأثاث ما يساوي المليون دينار لأبنائه الثلاثة المشهورين: شمس الدولة وفخر الدولة وتاج الدولة.
 
31 – الخليفة الظاهر بأمرالله 1225 – 1226م
يقول علي بن محمد إبن الكازرُني (مُختصر تاريخ الدول ص 254) بأنَّه أبونصر محمد إبن الخليفة الناصر، ولقب بـ”الظاهر بأمرالله”. كانت أُمُّه تركية تُدعى”أخشو” ودُعيت “بقجة” أيضاً. أما إبن العبري (تاريخ مختصر الدول ص 422) <إنَّ الخليفة الناصر بايع للظاهر بولاية العهد، ثمَّ عَدِلَ عن ذلك، وأسقط اسمَه مِن ولاية العهد واعتقله وضيَّقَ عليه ، ومال الى أخيه الأصغر أبي الحسن علي. لكنَّ هذا الأخير مات في حياة والده وخلفَ اولاداً صغاراً. وعَلِمَ الناصرأنَّه لم يبقَ له ولد تصير الخ*لافة إليه غير الظاهر، فعهدَ إليه وبايعَ له الناس وهو في الحبس. وكانت عامة أهل بغداد يميلون إليه>. فلما تُوفي الناصر، أخرجه أرباب الدولة وبايعوه بالخ*لافة. ولما بويعَ قال: <كيف يليق أن يفتحَ الإنسانُ دُكاناً بعد العصر؟ قد نيفتُ على الخمسين سنة وأتقلد الخ*لافة!> ويؤيد ما قاله إبن العبري وفاروق عمر فوزي (الخليفة الداهية… ص 87 – 88) .
 
وجاء لإبن الكازرُني في (مُختصر تاريخ الدول ص 256) والسيوطي في (تاريخ الخلفاء ص 458) <حيث يرويان عن الظاهر، بأنَّه أحسنَ الى الرعية وأبطل المكوس وأزال المظالم وفرَّقَ الأموال. وتقدَّمَ الى أرباب الدولة بالعدل والإنصاف، والى ولاة السواد بتخفيف الوطأة وإنصاف العاملين والإحسان إليهم والرفق بهم. وكان كثيرَ التردُّد الى المارستان”كلمة فارسية تعني مستشفى” والإطلاع على أحوالهـم. وأظهر من العدل والإنصاف ما أعاد به سنَّة العُـمَرَين وفي عهده القصير الذي لم يمتد أكثر مِن تسعة أشهر ونصف، قام بعقد جسر ثاني أنفقَ على بنائه مالاً كثيراً. فأصبح لبغداد على دجلتها جسران. كان عهد الظاهر مِن أحسن العهود عدلاً وأماناً ورخاءً، رغم المجاعة والوباء اللذين اجتاحا البلاد في بداية عهده>. وتُوفيَ الخليفة الظاهر عام 1226م .
 
69 – البطريرك سبريشوع الخامس بن المسيحي 1226م
يقول المؤرخ صليبا (المجدل ص 117 – 119) <بأَنَّه بغداديُّ الأصل، ومنذ حداثته مالَ سبريشوع الى حياةِ الزهد وعكف على قراءَةِ الكُتُب، وكان حَسنَ الخلق، عالِماً، عابداً، كثير المحاسن، صبورا>. كان مطراناً على باجرمي “بيث كرماي”  ورُشِّحَ كمُنافس لإبن قيوما سبريشوع الرابع على الكُرسيِّ البطريركي كما أشرنا الى ذلك في حينه. وبعد مرور حوالي سنتين لشغور كُرسي الرئاسة البطريركية عِقبَ وفاة سبريشوع بن قيوما، توصَّلَ الآباءُ الأساقفة والمؤمنون الى اتفاق على اختيار سبريشوع مطران باجرمي للمنصب البطريركي بطريقةٍ قانونية مقبولة، وجرياً على عادته في قلب الحقائق فقد شكَّكَ غريغوريوس بن العِبري بذلك (التاريخ الكنسي ج2 ص 372 و 400 – 402) حيث يقول: <بأنَّ الأمرَ تَمَّ بدفع مبلغ مِن المال الى السُلطات>.
وبعد استحصال موافقة الخليفة الظاهر رُسمَ سبريشوع بطريركاً بالمدائن في الأحد الجديد الواقع في 26 نيسان عام 1226م. أدّى البطريرك الجديد الزيارات التقليدية المعهودة ومِنها زيارتُه لدير مارماري ثمَّ عاد الى مقرِّ البطريركية في بغداد. وفي ذات الموضع مِن المجدل، يُطري صليبا إدارة سبريشوع الحكيمة، ويقول عنه: <بأنَّه كان مُهتماً بفتح المدارس والإنفاق عليها وعلى المُعلمين. وقد رسم 75 مطراناً واسقفاً، بالإضافة الى عددٍ كبير مِن الكهنة والشمامسة. وهو لم يأخذ مِن أحدٍ شيئاً على سبيل الرشوة، ولا بمثابة هبة، عملاً بقول الإنجيل: “مَجّاناً أخذتم مجّاناً اعطوا”!. أدارَ الشؤونَ الكنسية مدة ً تقرب مِن إحدى وثلاثين سنة في ظِلِّ جَوٍّ مِن الهدوء، ويُعزى ذلك الى علاقات اسرة إبن المسيحي المتميِّزة بالطيبة مع البَلاط ومع الأطبّاء الآخرين.
يَتحَدَّث عنه بـطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج2 ص 5 – 7) مُطرياً عِـلمَه وزُهدَه، ويُشير الى أول اتحادٍ ايماني عُقدَ بين النساطرة والكاثوليك كان طرفاهُ البطريرك سبريشوع الخامس بن المسيحي والبابا “انوجنسيوس الرابع”. وقد سُرَّ البابا بذلك وأرسلَ تهنئةٍ للبطريرك. وقبل موتِه كَتبَ وصيَّته بيدِه طالباً فيها استمرار كُلٍّ مِن المطارنة والأساقفـة في درجتِه وموقعِه، ويُواصل الحديثَ في (المجدل ص 118 – 119) عاصرَمارسبريشوع الخامس بن المسيحي في عهد بطريركيته الخلفاء العباسيين الثلاثة الأواخر: الـظاهـر، المُـستنصر، والمُستعـصم، لأن الأجلَ وافاهُ في العشرين مِن أيار عام 1256م وهو العام السابق لسقوط بغداد بعامَين. ودُفن في البيم بكنيسة الكرخ، ويشرح صليبا بالتفصيل في ذات الموضع المذكور اعلاه: كيف يجب ان تُراعى مراسيم دفن البطريرك. والى الجزء الثالث والعشرين قريباً.
 
الشماس د. كوركيس مردو
في 26/4/2015..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!