الحوار الهاديء

شذرات عسكرية من الذاكرة 2 / حرب تشرين وسفر الخروج المسيحي

الكاتب: الدكتور صباح قيا
شذرات عسكرية من الذاكرة 2 / حرب تشرين وسفر الخروج المسيحي

د. صباح قيَا
شاء القدر أن اكون على رأس إحدى الوحدات الطبية عند توجه القطعات العسكرية صوب الجبهة الشرقية للمشاركة في الحرب الدائرة مع إس*رائي*ل والتي اندلعت يوم 6 تشرين الأول عام 1973 . لم يستغرق الوصول من ” منصورية الجبل ” إلى منطقةٍ أمام ” مرتفعات الغولان ” أكثر من 24 ساعة تخللتها بضع ساعات من النوم الإضطراري على الطريق العام نتيجة تداخل الأرتال العسكرية القادمة من معسكرات متعددة داخل الوطن والمتجهة جميعاً إلى سوريا , والذي أدى إلى فقدان الإتصال , ولبضع ساعات فقط , بين الوحدات الفرعية المتجحفلة مع بعضها من جهة , ومع قيادة الرتل من جهة أخرى … لقد كانت توقيتات حركة التنقل ونقاط التوقف (ألمثابات ) تتغير بسرعة استثنائية وحسب مفاجئات الموقف على جبهات القتال . كما كانت الأوامر الأولية تشير إلى بقائنا في دمشق لفترة غير محددة , ولكن الجميع غادرها بأمر لاحق إلى جهة غير معروفة قبل إكمال تخدير الشاي … لم يعد القلق الذي ساورنا في البدء كما كان ’ بل بالأحرى زال عنا بعد أن علمنا بأن صواريخ سام 6 الروسية بعثرت الغطاء الجوي الإ*سر*ائي*لي وأسقطت أسطورة تفوقه التي برزت عملياً أبان نكسة حزيران عام 1967 .
أعلن آمر جحفل اللواء المدرع في اجتماعه الأول مع آمري الوحدات المتجحفلة مع لوائه بأن هنالك هجوم واسع وشيك ستشنه القوات المشتركة على طول الجبهة الشرقية المواجهة لإس*رائي*ل , وأن جحفل لوائه سيبقى كقوة ضاربة بالإحتياط , ثم أناط لكل من الحضور مسؤولياته وواجباته وأوعز بالتقيد بتنفيذها بدقة … حدث ذلك حوالي الساعة السابعة مساء أو ربما بعدها … رنّ جرس الهاتف بعد منتصف نفس الليلة , وإذا بمقدم اللواء يدعوني لحضور إجتماع طارئ .. تبدل الموقف حيث أصدرت القبادة أوامرها بأن يكون جحفل اللواء ضمن القوة المهاجمة بدلاً عن اللواء المغربي الذي استلم إلإيعاز من قيادته بعدم المشاركة بأية عمليات عسكرية منفردة أو مشتركة بعد أن أعلن الجانب المصري موافقته على وقف القتال … وبينما كان آمر اللواء يحدد , بح*ما*س واندفاع واضحين , مهام كل وحدة ممثلة بآمرها المباشر , فإذا بالهاتف يرنّ .. ألو ؟؟؟ لم يعرف أيٌ منا ماذا كان يدور من حوار بين الطرفين , ولكن شعر الجميع من خلال الإمتعاض الذي بدى على وجه آمر اللواء وخفوت نبرة صوته بأن هنالك تغيير جوهري في مسار المواجهة وبالإتجاه المعاكس , وقد تيقن الجميع من ذلك عندما أنهى آمر اللواء مكالمته بقوله : يعني إنّام ؟ .. أي ما معناه أن سوريا وافقت أيضاً على وقف إطلاق النار وألغيت الخطة الهجومية الشاملة …. ساد صمت عزاء وخيم الوجوم على مقر الإجتماع … حاول آمر اللواء إخفاء دمعته باحناء رأسه نحو الأرض لبرهة من الزمن … لم يستغرب أحد منا ذلك , فهو , رحمه الله , ضابط ذكي ولامع من خريجي جامعة ” ساند هرست ” العسكرية الشهيرة في المملكة المتحدة , وكان من الأوائل على أقرانه في كلية الأركان , كما أنه معروف بشجاعته وجرأته وجديته , وسبق أن أصيب في إحدى المعارك الأليمة في كردستان … ربما كانت له قراءة مختلفة عن الأغلبية بما يخص الماكنة العسكرية والقدرة الحقيقية للدولة العبرية . أو قد تكون ثقته اللامحدودة بنفسه وطموحاته الشخصية من
أوحت له بذلك … ثم رفع رأسه ونطق بألم عميق : كانت فرصتنا اليوم ولن تتكرر أبداً , ونترك الأمر للأجيال إن كان بإمكانها عمل ما عجزنا عنه … تصبحوا على خير .. عدت إلى حيث زملائي بانتظاري .. سألوني ماذا حدث ؟ أجبت : عائدون … نعم عائدون.. ولكن إلى أرض الوطن ..
ضاعت القضية , وأثبتت السنون اللاحقة ذلك . حصل التطبيع وبزغ عصر جديد . من كان بالأمس عدواً لدوداً اصبح اليوم صديقاً ودوداً . ذهبت دماء الشهداء سدىً , أضحت فلسفة التحرير في خبر كان , وملّت الجموع من خطابات لا يتجاوز صداها صوت قائلها …. من كان إلى وقت قريب ربيباً للإبادة وداعياً للدمار أصبح بفعل الدهاء السياسي وتأثير القوى المتنفذة ومخطط اللعبة الدولية بطل سلام … يا لسخرية القدر …. ثمّ بدأ الأخ قتال أخيه ’ وبدل حلم الدولة ا*لفلس*طينية العربية الكبرى , نشأت كيانات شكلية وربما مرحلية .. مسكين من يطالع التاريخ ومن دروسه لا يتعلم …
وكنتيجة منطقية لمسلسل المآسي المتكرر واستمرار الأوضاع الشاذة في المنطقة وانعدام الأمان والإستقرار برز سفر الخروج المسيحي كظاهرة تتفاقم شدتها وتزداد مساحتها متسابقة مع الزمن . كل هذه وغيرها أدت إلى تناقص الوجود المسيحي في الأراضي ا*لفلس*طينية بأجمعها إلى 1% بعد أن كان يشكل أكثر من 40% قبل عام 1967 م . لم تستطع حينها الأماكن المقدسة ولن تستطع في أي وقت آخر أن تحدد من نزيف الهجرة ما دام البشر يبحث عن نعيمه الأرضي ويعمل جاهداً لسلامة فلذات أكباده … أصابت عدوى الهجرة الجماعية بلاد الجوار وخاصة في الدول التي أنزل عليها الخالق غضب الحكام , فبعد أن كانت انفرادية ومحددة أصبحت أيضاً ظاهرة سائدة وتحديداً بعد الإبتلاء بالإسلام المتطرف كجزء من المخطط الغربي لإفراغ الشرق الأوسط من مسيحييه , كي يتمكن الغرب نفسه من معالجة بعض من مشاكله الناجمة عن ممارسة الحرية المطلقة من جهة وقبول المهاجرين من مصادر غريبة من جهة أخرى دون الأخذ بنظر الإعتبار النتائج السلبية التي قد تنجم من تأثير التقاليد والأعراف الراسخة بعمق عند تلك المصادر …
ما حدث وما يحدث يدخل ضمن العقيدة اليهودية لإعادة بناء الهيكل وتأسيس مملكة إس*رائي*ل من الفرات للنيل إلى حين مجيء المسيح المنتظر ليقود شعب إس*رائي*ل نحو الخلاص ويحكم العالم ….. وهنالك في الغرب من يدعم هذا الإتجاه متمثلاً بالبدع المتزايدة والتي تظهر بين فترة وأخرى وما يطلق عليها ” ألمسيحية المتصهينة ” … وتدخل بابل من الباب الأوسع لتحقيق ذلك استناداً إلى ما جاء في ” سفر الرؤيا ” وربما في آيات إضافية من العهد القديم أو الجديد أو كليهما .. إذن لا بد أن يحدث التغيير في أرض الرافدين وإلا عُدّت النبؤات مجرد أوهام … وفي كل مرحلة عبر التاريخ الغابر والحاضر يدفع الشعب المسيحي الثمن باهضاً .. لماذ ؟ هل لأن المسيحيين غير مرغوب بهم , أم أن ذلك أسلوب للترويع والتخويف كي يحمل كل واحد منهم حقيبته ويتجه بها صوب بلاد الشتات ليسلم بجلده من ناحية , و ليلبي حاجة الحكومات الغربية إليه والأهم إلى صغاره من ناحية أخرى …
ألسؤال الآن : لماذ المسيحي غالباً ما يكون كبش الفداء … صعد على أعواد المشانق أولاً مسيحي لإيمانه بعقيدة لم ترق لحكام ذلك الزمان … أعدم على باب كلية طب الموصل طالب مسيحي لكونه في تنظيم سياسي ليس على اتفاق مع نظام الحكم علماً هنالك المئات بل الآلاف يحملون نفس فكره لم يلاقي
أي منهم مثل ما لاقاه … إمتلأت الجدران بلافتات وكتابات ” لا مسيحية بعد اليوم ” لأن الروح المسيحية ساندت التقدم والإستقلال .. وما يضحك ويبكي في نفس الوقت بأن من كان يشار إليه إلى وقت قريب بأنه موالٍ للمعسكر الإشتراكي أصبح على حين غفلة عميلاً غربياً من وحهة نظر نفس الإصبع … وأخيراً لا آخراً , حكم على مسيحي بالسجن ودفع غرامة مادية بتهمة يتمتع بحريته سليماً طليقاً من اقترف أسوأ وأكبر منها بأضعاف وأضعاف … تذكرت كلمات المرحوم والدي , والذي كان يكررها عليَّ بانتظام وهي أن لا أكون في مقدمة الرتل كي أتجنب الصدمة أولاً … نعم يا والدي , رحمك الله , كنت كما أردت ومعظم بني دينك وديني ’ ورغم ذلك حكم عليَّ وعليهم بإتمام سفر الخروج المسيحي , وإلا ملاقاة الفناء بطريقة أو أخرى …..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!