مقالات دينية

القديس مار يعقوب النصيبيني

القديس مار يعقوب النصيبيني

بقلم/ وردا إسحاق قلّو

   ولد مار يعقوب في مدينة نصيبين التي كانت تابعة لكرسي كنيسة المشرف في ساليق – قطيسفون (المدائن )  وكانت نصيبين تقع على حدود مملكتين متخاصمتين لقرون وهي الفارسية والرومانية . نبغ منذ حداثته في العلوم ، وكان شاباً تقياً متواضعاً ومؤمناُ محباً للفقراء . كان يقضي معظم أيام السنة للصوم والصلاة ، وطعامه كان من ثمار الأشجار ، وفي الليل كان يناجي الخالق الذ أبدع خلق الكون  والكائنات . وفي الشتاء كان يأوي إلى أحد الكهوف ، وكان يرتدي المسح ، ولا يقبل إلا بأقل نعيم في هذا العالم .

  سمع بأن الوثنية متأصلة في بلاد فارس فذهب إلى تلك الأمصار لكي ينيرها بنور الأنجيل ، فأقترب من أحدى قراها وشاهد بعض النساء يغسلن الثياب على نبع وهن عاريات الرجلين ، فمر بالقرب منهن فلم يحتشمنَ ، بل زدن وقاحة وأخذن ينظرن إليه بالقهقهة وغمز العيون . فوقف الطوباوي ولعن النبع فنضب للحال ماؤه . وابيض شعر رؤؤس تلك النساء فرجعن مسرعات إلى القرية خائفات وأخبرن أهل القرية بتلك المعجزة . فخرجوا للقاء يعقوب ، وانطرحوا على قدميه متضريعين إليه لكي يغفر لنسائهم ويعيد إليهم مياههم ، فرّقَ لهم وأعاد لهم ماء النبع ، فوعدوه بأن يحرصوا على حشمة نسائهم .

يقول المؤرخ ثاوذوريتس كاتب سيرة هذا القديس أنه بفعله هذا تشبه بالنبي إليشع ، لكنه لم ينتقم لنفسه ، بل للفضيلة التي أهانتها تلك النسوة . لكنه لما جاءه القرويون نادمين صفح عنهم ونسي إسائتهم .

   ومر يوماً فرأى قاضياً جالساً للحكم ، ورأى أنا مال مع القوي الظالم ضد الضعيف المظلوم ، فنظر يعقوب إلى حجر كبير هناك ، فصنع عليه إشارة الصليب فتحطم الحجر وتطايرت قطعه فدهش القاضي للأمر ، ورأى يعقوب ينظر إليه شزراً ، فإرتاع وتبع الحق وأنصف المظلوم .

رسامة مار يعقوب أسقفاً على نصيبين

مات أسقف نصيبين ، فقام الأكليروس والشعب يطلبون يعقوب أسقفاً عليهم ، فمانع ، فألحوا عليه وتضرعوا إليه ، فقبل ، وأضحى أسقفاً على تلك المدينة العظيمة التي كانت تارة في حوزة الفرس ، وتارة مع الروم .

أبتغى يعقوب تقديس شعبه عن طريق قداسة نفسه . لذلك بقي وهو أسقف نصيبين على ما كان عليه من عباداته وإماتاته . وكان يقضي الليل في الصلاة ، ومائدته رهبانية بسيطة جداً ، وثيابه فقرية ، وكان همه تعزية الحزانى ، وزيارة المرضى ، ومدّ يد المعونة للأرامل واليتامى ، وكل من فجعته الأيام .

   طمع بعضهم فيه وفي لطفه ، فأرادوا أن يسلبوه شيئاً من المال عن طريق الخديعة

 والكذب ، فتظاهر واحداً منهم بالموت ، ووقف رفاقه في طريق الأسقف يطلبون صدقة تعينهم على دفن رفيقهم . فرقّ يعقوب لحالهم وأعطاهم شيئاً من المال وتابع طريقه . فذهبوا فرحين إلى ذاك الذي تظاهر بالموت ليعطوه حصته ، فوجدوه جثةً هامدة ، فصرخوا ، وظهرت لهم شناعة فعلهم ، فلحقوا بالأسقف القديس وأعترفوا بذنبهم ، وأبتهلوا إليه بدموع أن يغفر لهم ويعيد الحياة إلى رفيقهم ، فرثى يعقوب لحالهم ، وعاد إلى المائت فصلى عليه وأحياه .

   حضر مار يعقوب سنة 325 مجمع نيقية في عهد البطريك مار فيفا ، ذكر تاريخ السعردي أن البطريرك أرسل معه إلى المجمع مار شمعون برصباعي ومار شاهدوست ، كما رافقهم مار أفرام السرياني الذي علمه مار يعقوب ورباه وشجعه على طريق الفضيلة . في المجمع مال قسطنطين الملك مع آريوس ، بخديعة أفسافيوس أسقف نيقو ميذية ، وسمح بأ يدخل ذلك الشقي مدينة القسطنطينية بمظاهر الفرح والظفر ، كان يعقوب في العاصمة عند البطريك الكسنذرس ، ولما رآه مغموماً من ذلك العمل الفظيع قال له ( لنقضِ هذين اليومين في الصلاة ، والله يفعل مايشاء ) . فقضيا تلك الأيام صائمين ، متضرعين مع جمهور العذارى والشعب المؤمن . فضرب الله آريوس تلك الضربة القوية وهو في إبان مجده وإنتصاره . وإرتاع مريدوه وتباعه ، وعاد الكثيرون منهم إلى الله .

  كان القديس يعقوب من الأساقفة الأبرار ، الذين عملوا طول حياتهم على تقديس نفوسهم ، وبذلك كانوا نوراً لرعيتهم ، وخلاصاً للنفوس ، وسلاحاً في الشدائد ، وينبوعاً فائضاً لكل بركة ونعمة. وهو من الأساقفة الذين خلصوا شعبهم من موت فظيع ، وأعادوا الطمأنينة إلى النفوس والسلام إلى المدينة . أن الأسقف هو الراعي والأب والقائد والمدبر . ولقد كان هكذا على مر العصور ، مع كل الدول وتحت كل سماء ، وليس لسلطان ولا لقوة أن تسلبه ذلك الحق ، ولا أن تعترضه في قيامه بهذا الواجب .

   كان شابور الثاني ملك الفرس قد جاء وطوّقَ نصيبين بجيوش جرارة ، فأمتنعت عليه ، فحاصرها ثلاثة أشهر وضيّقَ عليها ، ولم ينل منها مأرباً . فعمد إلى خطة شيطانية كادت تفتح له المدينة فيدخلها عنة ويعمل في أهلها السيف ، لو لم يكن طيف يعقوب ساهراً على الأسوار . فحجز شابور ماء النهر ومنعه أياماً عن المدينة ، ثم أطلق المياه ، فاندفعت بقوة الصاعقة على الأسوار ، فرمت جانباً منها وفتحت ثغرة كانت تكفي لأندفاع جيوش الفرس منها ، فركض أهل نصيبين إلى أبيهم وملاذهم ، فطمأنهم الأسقف القديس ، وقضى تلك الليلة بكاملها في الصلاة والأبتهال إلى الله ليحفظ شعبه من سيوف الأعداء . فلما طلع النهار ، إذا بالأسوار قائمة كاملة منيعة كالأول ، فوقف ملك الفرس مذعوراً ينظر إلى تلك الأسوار ، وكأن المياه لم تمسها بأذى ، وإذا به يرى على قمة تلك الأسوار ملكاً واقفاً ، يلمع التاج المرصع على رأسه ، وصولجانه بيده ، وهو يسرح الطرف في السهول ، وكأنه يستعرض جيوش الفرس ويعدها . فظنه الملك قسطنطيوس . ولكن لما تأكد له أن ملك الروم لا يزال في القسطنطينية ، علم أن إله المسيحيين يدافع عنهم ، ولكنه لم ييأس وتابع الحصار .

   أرتأى القديس أفرام السرياني ، وكان في نصيبين ، أن يخرج الأسقف يعقوب إلى الأسوار ويطلب إلى الله أن يبيد ذلك الجيش الجرار . فلم يرض يعقوب بذلك ، بل صعد إلى برج من الأبراج ، ولما شاهد تلك السهول تموج بالجيوش وبآلات الحرب هتف وقال :

( يا رب أنت قادر أن تسحق كبرياء هؤلاء بأضعف سلاح ، فأرسل عليهم جيشاً من الذباب فيطردهم ) . فقاتل الرب جيوش الفرس بالذباب ، كما كان قد قاتل المصرين على أيام موسى ، وخلص شعبه من يد فرعون . فلن يقوّ الفرس على رد الذباب ، ورفعوا الحصار ورحلوا . وخلض الرب نصيبين من شرهم بصلاة أبيها وأسقفها يعقوب .

موت القديس يعقوب ومؤلفاته

   ولم تطل من بعد ذلك أيام القديس يعقوب ، بل رقد بالرب بسلام ، تاركاً لشعبه اسماً معطراً بقداسة فائقة ، وذكراً لا يمحى في القلوب . ورغم أن الملك قسطنديوس كان من أتباع آريوس ، فقد أمر بدفن يعقوب داخل أسوار نصيبين ، فخالفاً بذلك عوائد المملكة كلها . ثم نقل رفاته إلى القسطنطينية سنة 979 . وبقيت الكنيسة كلها جمعاء ، شرقاً وغرباً ، تكرم تذكاره بكل حفاوة ووقار .

  ترك مار يعقوب مؤلفات عديدة جليلة ، باللغة السريانية ، عن اهم الحقائق المسيحية والفضائل الإنجيلية . وغذا كان القديس إيرونمس ، ومن بعده جناديوس ، لم يضعا اسمه بين كبار الكتبة والمؤلفين الكنسيين ، فذلك لأن كتبه لم تكن بعد قد ترجمت من السريانية إلى اليونانية ، ولم يكن القديس أيرونمس قد عرف بها .

وكتاباته تجدها في مكتبة رهبان القديس أنطونيوس الأرمن في البندقية ، وفي مجموعة السمعاني ، وفي مجموعة ” غلاًن “ .

   وللقديس يعقوب ” ليتورجيا ” بأسمه في مجموعة الليتورجيات الشرقية ، ولكن يغلب على الظن أنها ليست له ، وإنما نُسِبَت إليه لعظم قداسته وشهرة إسمهِ .  

كرمته الكنيسة الكلدانية ببناء كنيسة بأسمه في بغداد – حي آسيا – الدورة .   

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!