مقالات دينية

القديسة مرتا وإبنها سمعان العجيب 

القديسة مرتا وإبنها سمعان العجيب 

بقلم  / وردا إسحاق قلّو 

القديسة مرتا وإبنها سمعان العجيب 

سيرة القديسة مرتا

  ولدت القديسة مرتا في إنطاكيا ، في تلك العاصمة السورية التي كانت منذ عهد الرسولين بولس وبرنابا وإلى ما بعد الغزو العربي منبتاً يانعاً للقديسات وللقديسين . قضت مرتا حداثتها في التقوى والفضيلة وطهارة النفس والجسد .

   مرتا كانت مثال الزوجات التقيات الصالحات ، وهي الدليل الحي على أن القداسة ليست وقفاً على العذرارى البتولات ، ولا على الراهبات المحصنات ، إنما هي ملك لجميع المسيحيين من الرهبان والراهبات والأرامل والمتزوجين . نذرت نفسها للبتولية إلا أنها تنازلت لإتمام رغبة ذويها في الزواج فتزوجت من رجل تقي أسمه يوحنا الرهاوي الذي كان يسبقها في أعمال العبادة والبِرِ والصلاح . والله رزقهم بالقديس سمعان العمودي الجبلي ، فعنيا به عناية فائقة . يقال إنها ولدته بدون آلام المخاض ، وبعد أربعين يوماً أخذته إلى الكنيسة لتنذره لله . مات زوجها أثر الهزة الأرضية التي ضربت إنطاكية فدمرت القسم الأكبر منها .

 عاينت رؤية ألفت نفسها فيها مرتفعة في العلى لتقدم إبنها لله . فلما إعتزل سمعان في الجبل العجيب ، أقامت مرتا في دفني المجاورة لإنطاكية ، كل وقتها كانت تقضيه في الكنائس لتصلي بنخس القلب منتصبة وكلها نحو الله .

إعتادت أن توزع الحسنات ، وتطعم الجائعين ، وتقدم ثوب المعمودية لموعوظين الفقراء ، وثيباب الدفن اللازمة للراغبين المعوزين .

 لما صعد سمعان في حفل مهيب إلى عموده سنة 551م سارت أمام الموكب حاملة صليباً وهي تنشد وتقول ( خلصنا يا ابن الله ، يا من صلب من أجلنا ، المجد لك يا سيد ، هلليلويا ) بعد ذلك كانت تتردد على ابنها سائلة شفاعته للشعب المنكوب .

    فشب سمعان على الفضيلة وتعلق بأهداب التقى ، ثم زهد في الدنيا ، وترك بيت أبويهِ وذهبَ فنسّكَ على عمود ليصير من كبار الرهبان القديسين سائراً على خطى مار سمعان العموي الذي سبقه ، والذي ولد سنة ( 389 ) ورقد عام ( 459) 

   أما حياة تلك المرأة المسيحية الصالحة ، فكانت لا تعرف سوى قيامها بواجباتها الدينية والبيتية ، وكذلك خدمة القريب في نفسهِ وفي جسدهِ على حسب طاقتها . فكانت الأولى في الكنائس ، وفي حضور الحفلات الدينية ، وفي الإصغاء وبخشوع وورع إلى كلام الله ، وفي التقرب إلى الأسرار المقدسة . وكانت في بيتها المرأة الوديعة المتواضعة ِ الخدومة الصامتة . وبذلك كانت نعيماً لأسرتها . وكانت تحمل صليبها بصبر فلا يُعرَف التذمر والتأفف إلى قلبها سبيلاً . وكانت محبة للمساكين ، تعمل بيديها وتقدم لهم دراهم وكسوة وتمزح حسناتها بشىء من البشاشة واللطف كانا أشهى على قلب الفقير مما يناله منها من الصدقة والإحسان .  

 وهكذا عاشت مرتا بالقداسةِ المسيحية الزوجية سنين طويلة .

وفاتها

أوحى الله إليها أن يومها الأخيرالذي حان لتنتقل إلى حياة السعادة الدائمة ، ذهبت إلى إبنها سمعان لتودعهُ وتطلب أدعيتهِ ، وقالت له : إني أتيتك يا إبني ، لكي تبتهل إلى الله لأجلي لأن ساعتي أضحت على الأبواب . فقال لها ولدها القديس مار سمعان ( لا تنسيني أنتِ أيضاً في صلواتك يا أماه ، وإذكريني أمام الله عند مثولكِ أمام عرشهِ في السماء ) . وبمثل هذا الكلام تفارقا ، فعادت الأم إلى بيتها تتأهب لدنو ساعتها . وما لبثت أن طارت نفسها إلى الأخدار السماوية سنة ( 551) حمل القديس سمعان رفات والدتهِ ودفنها بالقرب من عمودهِ ليتبرك بها ويقتدي بفضائلها وينال بشفاعتها النعمة التي تقويه على متابعة حياة النسكِ والأصوام والصلوات وأنواع الإماتات الرهبانية .

القديس سمعان العجيب

   ولد في إنطاكية في سنة (521م ) من أبوين تقيين عطارين قدما إليها من الرها . تم تعميده في السنة الثانية من عمره ، نشأ على الإيمان بيسوع وبالمحبة ، ومنذ نعومة أظفارهِ مال إلى التقوى ومحبة الله ، معوضاً عن الدنيا ومسراتها الزائلة فتطلع إلى ما هو أسمى . فكان غرسهِ كريمة نمت وازدهرت تحت يدي وأنظار الأم القديسة . ولا غروَ في ذلك فإن الشجرة الصالحة تثمر ثماراً صالحة . لم يبلغ سمعان أشده حتى هجر العالم وما فيهِ نتيجة لرؤيا إلهية أتجه سمعان إلى دير يبعد من إنطاكية ثلاثة عشر ( كم ) بإتجاه سلفكية ، في جوار جبلٍ يدعى ( الجبل العجيب ) ونسك هناك . كان القديس يوحنا العامودي يدير ذلك الدير ، فإستقبلهُ بفرح وضمه إليه للحال وأعتنى بأمر إرشادهِ في سبيل الحياة الملائكية ، لأنه رأى فيه أنه مختار الله . ولقد أذهلته علامات الحكمة والزهد التي أستبانت على الولد الذي كان في السادسة من عمرهِ . مذ ذاك لم يكن يوحنا يتناول الطعام إلا مرة كل ثلاثة أو سبعة أيام . وأخذ من مرشدهِ طرق الكمال . وكان يوحنا يعيش ضمن أسوار الدير ، في منسكٍ قائم على عمود . فبلغ سمعان بإرشاد يوحنا إلى درجةٍ سامية من القداسة الرهبانية ، وقبله يوحنا ليعيش العمود سنين طويلة ، يتباريان ويتساندان في ممارسة أسمى الفضائل المسيحية . فكان الصمت والتواضع والصيام وتلاوة المزامير.

رسامته الشماسية وعمودهِ

لما أضحى سمعان في سن الثالثة عشرة، في العام 553م، وبعد ست سنوات من السيرة العمودية ، رغب في الإقتداء بسابقه المجيد القديس سمعان العمودي الكبير. فأقام عموداً بعلو اثني عشر متراً. وفيما كان العمود يُشاد وكان سمعان على وشك الصعود عليه جاءه رئيس أساقفة أنطاكية وأسقف سلفكيا زائرين إلى الدير وساماه شماساً بخلاف سن الشموسية الذي هو الخامسة والعشرون. ثم واكباه بالترتيل والصلوات إلى العمود الذي بقي عليه ثماني سنوات ممتداً كله إلى السماء .

أخذ سمعان يزداد أتعاباً في مواجهة الطبيعة : حين كان يوحنا ينشد ثلاثين مزموراً خلال صلاته الليلية ، كان سمعان ينشد خمسين أو ثمانين . كان يقف الليل بطوله ليتلو كتاب المزامير برّمتِهِ. أما نهاريه فكان يقضيها في تمجيد الله في غربة عن كلِّ طعام . تقشفاته جعلته عرضة لتأنيب رئيسه . إتخذ الإثنان مناجاة الخالق أساساً لحياتهما ونور قداستهما .

شهرة سمعان كناسك وصانع عجائب انتشرت بسرعة في كل الناحية واجتذبت القديس البطريرك الأنطاكي أفرام (527-545م) إلى زيارته. كذلك أخذت الجموع تتدفق عليه وعلى شيخه معاً.

 اتخذ سمعان له عموداً عالياً منفرداً خارج الدير وعاش فيهِ . فكان ملاكاً أرضياً لا بشراً . كان يقتات من حشائش الجبل ، ولا يشرب الماء إلا قليلاً جداً . وكان دائم الإتحاد مع الله .  

   تتلمذ له كثيرون من رهبان الدير ، فكانوا يأتونهُ في ساعات معينة كل يوم ويسمعون إرشادهِ ، وهو يفيض عليهم من كنوز قلبهِ ما كان الروح القدس يعلمهُ إياه في تأملاته المتواصلة. طارت قداسته في الآفاق ، فأخذ الناس يفدون إليه من كل البلاد ، حاملين إليهِ أمراض النفوس والأجساد ، فكان يرشدهم ويعزيهم ويشجعهم . والله منحه صنع العجائب ، فكان يشفي مرضاهم ويطرد الشيطان من أجسادهم بكلمة من فمهِ أو بإشارة الصليب التي يرسمها عليهم بيديهِ . فكان الزوار حول العمود جموعاً غفيرة كأنهم جاءوا إلى موسم أو للإحتفال ببعض الأعياد . ومع ذلك كله لم يستسلم قط ذلك الملاك الأرضي لأقل عاطفة من المجد الباطل ، بل كان كلما أزداد الناس نحوه إقبالاً إزداد هو لحواسهِ إماتةً ، وبالله إتحاداً وبالقلب تواضعاً . وكثيراً ما ذهب بالروح إلى مسافات شاسعة وحضر أمام مرضى كانوا يطلبون شفاعتهِ ، فشفاهم . ولقد أورد المؤرخ أفغريوس عدداً كبيراً من العجائب التي شاهدها بنفسهِ في زياراته العديدة للقديس سمعان .  أبدى سمعان حمية المحارب المتمرس في الصراع ضد الأبالسة. هجمات هؤلاء كانت تتعاقب ورؤى سماوية كانت تنزل عليه لتشدده.

 رسامته الكهنوتية

في سنة الثالثة والثلاثين قَبِلَ سمعان السيامة من يد الأسقف ديونيسيوس السلوقي الذي صعد إليه على العامود .

رئاسته للدير

إثر وفاة أبيه الروحي ، انتقلت إليه رئاسة الشركة إلى آخر أيامه . لم يؤِّثر هذا الأمر على حياته النسكية ، أوعلى صلاته المتواصلة . بالعكس أعتمد المزيد من الأفعال النسكية غير العادية ، والتي من خلالها كان يعالج هموم الدير ولما أخذ ألاف الحجاج والممسوسين والمرضى يشقون طريقهم إلى القديس، نبهه الرب الإله إلى أنه سوف يرى لحاجات الناس. وقد ظهر له ملاك الرب ورسم على الأرض مخططاً لدير فسيح وكنيسة ، في الموضع عينه الذي كان يشغله . ثم أن غيمة مضيئة بيضاء غطت الجبل العجيب . بعد ذلك بفترة قصيرة قدم رجال إيصافريون ، سبق للقديس أن أبرأهم، فشرعوا بتوجيهات القديس يعملون معه في البناء. وسط هذا المجمع المؤلف من كنيسة باسم الثالوث القدوس وأبنية رهبانية توزعت بشكل صليب أقيم للقديس عمود جديد يتراوح ارتفاعه بين الستة عشر والثمانية عشر متراً.

وفي الرابع من حزيران سنة 551م نزل القديس سمعان من النتوء الصخري الذي مثل عليه منذ عشر سنوات. وإذ جعله الرهبان على عرش وهو يضم إلى صدره الأناجيل المقدسة، طاف في أرجاء الدير الجديد مباركاً، وكانت أمه القديسة مرتا تطوف معه، وقد حملت الصليب ورتلت “هليلويا” كانت تطوف أمامه. بعدها صعد إلى العامود الجديد ، وظهر له الرب يسوع بكل مجده وبارك صعوده إليه.

نبؤاتهِ

في العام 557م، إثر رؤيا مرعبة ، أعلن سمعان عن هزَّات أرضية كبيرة مزمعة أن تحدث . وكما تنبأ ضرب زلزال عنيف القسطنطينية ونيقية وضرب نيقوميذية وريفيوس . كما أنه أنبأ بأن الطاعون سيضرب أنطاكية . وهذا ما حدث ، حتى أن الطاعون بلغ الجبل العجيب ورقد بعض رهبان سمعان ومن بينهم أحد تلامذته المح*بو-بين ، والصعوبات التي سيمر بها الدير بسبب مؤامرات أنغولاس .

كتابات القديس سمعان العجيب 

  ترك سمعان كتابات كثيرة خصوصاً في الشؤون الروحية وفي إرشاد النفس ، فكثيراً ما كان يجود بنصائحهِ الأبوية كتابةً ، ويلقيها لزائريه من فوق العمود . وكتب مرة رسالة إلى الملك يستيانش ، يتألم فيها مما أتان السامريون من الفظائع ضد المسيحيين ، وكيف دخلوا الكنيسة عموةً ، وإنتهكوا حرمة بيت الله ، وهجموا على الأسقف ترلنكيوس وأوسعوه ضرباً ، وقطعوا إحدى أصابع يدهِ ، فيما كان يحتفل بالذبيحة الإلهية يوم عيد العنصرة . وقد استشهد بهذه الرسالة أياه المجمع النيقاوي الثاني المنعقد سنة 787م.  

   وكتب أيضاً رسالة إلى الملك يستنيانس نفسهُ يدحض فيها مزاعم النساطرة والأوطيخيين أي اليعاقبة . والقديس صفرونيوس أسقف أورشليم يستشهد بهذه الرسالة أيضاً . والقديس يوحنا الدمشقي ينسب إليهِ مقالاً في إكرام الأيقونات ، فيه يبين كيف المؤمنون يكرمون في الأيقونات لا الخشب ولا النحاس أو الأقمشة أو الورق ، بل السيد المسيح وأمهُ الطاهرة ، والشهداء القديسين الذين تمثلهم تلك الصوّر . فليس مثلهم مثل عبدة الأصنام الذين يسجدون للحجر ويعتبرونه إلهاً . وقد أنكر بعض محاربي الأيقونات عبارات جاءت في ذلك المقال مغايرة لآرائهم ومعتقدهم . إلا أن البابا هدريانس أثبتها وإعتمدها في دحض أولئك الهراطقة ، جدود جماعة البروتستانت العصريين .  

  ويذكر المؤرخ الآسيوس صلاةً وصفها القديس سمعان ، فيها يبتهل إلى الكلمة الأزلي ضد الأفكار الرديئة ، وأخرى فيها يبتهل إلى الكلمة الأزلي ضد الأفكار الرديئة ، وأخرى يتضرع بها إلى والدة الإله في محاربة التجارب الدنسة .  

 رقاد القديس سمعان 

ظلِ القديس سمعان ملازماً حياته الملائكية على العمود مدة خمسة وأربعون سنة ، تكمل فيها القداسة ، وصنع العجائب ، ومراراً هبطت عليهِ الملائكة وشاركته في صلاتهِ . وعرف بروح الوحي مكنونات القلوب ، وتنبأ عن الحوادث المستقبلية . كما كشف لراهبين أنه منذ شبابه حظي من الله بنعمة العيش من دون طعام ، وأن ملاكاً كان كل يوم أحد بعد القداس الإلهي يأتيهِ بطعام سري ، ثم زود الأخوة بإرشاداته وأسلم الروح بين يدي خالقهِ بسلام في 24 أيار سنة 592م . وهو في سن الحادي والسبعين .  

رتب القديس جرمانس بطريرك القسطنطينية خدمة كنسية لأجل إكرام هذا البار السماوي العجائبي .  

    إن القداسة كانت ولا تزال نوراً وهدى للمؤمنين . وأن حياة النسك والصلاة والصوم والتواضعِ هي أجزل نفعاً للكنيسة من أفصح المواعظ وأبدع الكتب .

التوقيع ( لأني لا أستحي بالبشارة . فهي قدرة الله لخلاص كل مؤمن ) ” رو 16:1 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!