سقوط نظام صدام وتدوير ثقافته جمهورية التعذيب: العراق
في العراق، لم يعد التعذيب فعلاً شاذاً أو انحرافاً مؤسساتياً نادراً. لقد تحول، كما تؤكد تقارير الأمم المتحدة، إلى سلوك ممنهج وهيكلي يمارَس في السجون، يُغضّ الطرف عنه في المحاكم، وتخرس عنه المؤسسات الرقابية. إنه نظام متكامل الصمت، والإفلات، والعقوبة الجماعية، تتداخل فيه إرادة الدولة مع تواطؤ مؤسساتها، ومع خوف المواطنين من أن يكونوا الضحية القادمة.
9 نيسان: الذكرى التي فضحت خيبة التغيير
في مثل هذا اليوم، 9 نيسان/أبريل 2003، سقط النظام السابق، وسقط معه تمثاله في ساحة الفردوس، وسقطت الوعود العريضة بمحو السجون السرية وزنازين التعذيب. لكن بعد أكثر من عشرين عامًا، اكتشف العراقيون أن الجدار الذي تهدم قد أُعيد بناؤه… بالوجوه نفسها، والطرق نفسها، والألم نفسه.
لم يعد بالإمكان الحديث عن “بقايا الاستبداد”؛ نحن نعيش اليوم في ظل استبداد جديد، يرتدي قناع الدولة، ويرتكب الانتهاكات باسم القانون.
من انتفاضة تشرين إلى ضرب المعلّمين: الجمهورية تضرب أبناءها
منذ انتفاضة تشرين 2019، ارتكب النظام الأمني سلسلة من الانتهاكات الم*روع*ة: قنص للمتظاهرين، اختطاف ناشطين، تعذيب ممنهج، تهديدات صريحة، واغتيالات منظمة. واللجنة الأممية سجلت هذه الجرائم، لكن الحكومة لم تحاسب أحداً من الجناة.
وفي 8 نيسان/أبريل 2025، عشية اليوم الذي يفترض أن يُمثل رمزًا للتحرر من القمع، خرجت جموع المعلمين والمدرسين في احتجاج سلمي للمطالبة بحقوقهم. فجاءهم الرد من الأجهزة الأمنية بالضرب والإهانة والسحل في الشوارع.
لقد اعتُدي على المعلّم كما يُعتدى على المجرم، وضُربت كرامة المدرسة العراقية كما ضُربت كرامة الوطن.
العار البنيوي: خمس ثغرات في جسد الدولة
تحليل توصيات لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة لعامي 2015 و2022 يكشف صورة مرعبة لحالة العراق بوجود خمس ثغرات بنوية في نظام حقوق الانسان في العراق
1) انعدام الإرادة السياسية للمحاسبة : فالتحقيقات لا تُجرى إلا شكلياً، ولا تصل إلى القضاء، ولا تؤدي إلى محاسبة. قضاة التحقيق يفتقرون للاستقلال، وغالبًا ما يُحبط الضحايا من التبليغ خشية الانتقام. حتى المفوضية العليا لحقوق الإنسان، التي يُفترض بها أن تكون صوت الضحايا، لم تكن أكثر من هيئة باردة مشلولة.
2) لا قانون يجرّم التعذيب كما تفرضه الاتفاقية : لا يزال العراق حتى اليوم يفتقر إلى قانون يُعرّف التعذيب وفقًا للمادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب. مشاريع القوانين القائمة ضعيفة، تُغفل مسؤولية القادة، وتسمح بالإفلات من العقوبة عن طريق العفو.
3) الإفلات من العقاب داخل الأجهزة الأمنية : لا أحد يُفصل من منصبه خلال التحقيق. لا أسماء تُعلن. لا رتب تُسقط. والتواطؤ المؤسسي يتكرس على أعلى المستويات. كل تقرير يضيف سطرًا جديدًا إلى سجل طويل من الصمت المنظم.
4) الضمانات الإجرائية منتهكة في الواقع : القانون ينص على محامٍ، وعلى فحص طبي، وعلى المثول أمام قاضٍ خلال 24 ساعة. لكن في الواقع، لا يحدث شيء من ذلك.
المعتقل يُعذّب في الساعات الأولى، ثم يُعرض على قاضٍ بعد أن يكون “الاعتراف” قد صيغ تحت الضرب والتهديد.
5) أماكن الاحتجاز السرية وظروف الإهانة : في مراكز الاحتجاز ، يعيش المعتقلون في جحيم من الاكتظاظ، وسوء الغذاء، وانعدام الرعاية الطبية، والت*حر*ش بالنساء، وغياب أي رقابة حقيقية.
والمؤسسات الرقابية، وعلى رأسها المفوضية العليا لحقوق الانسان ورغم ولايتها القانونية الواسعة ، لا تستطيع دخول العديد من تلك المراكز ولا تجرؤ على المطالبة بإغلاقها.
بشير ليس استثناءً… بل عنواناً
ما جرى للمهندس بشير ليس حادثاً معزولاً. بل هو نموذج ممنهج لما يحدث يوميًا لمئات العراقيين. بشير اختُطف، ضُرب، أُهين، ومات، بينما كانت الدولة تبتسم في مؤتمراتها الصحفية، وتعد بخطط وطنية لحقوق الإنسان.
إذا لم يحاسب قاتلو بشير، ولم تُعلن الدولة أسماءهم، ولم تُغلق المراكز التي جرى فيها تعذيبه، فكل مسؤول في هذه الدولة شريك في الج#ريم*ة.
في ذكرى السقوط… سقطنا مجددًا
نحن لا نُحيي اليوم ذكرى سقوط النظام السابق، بل نُحصي سقطاتنا منذ ذلك اليوم: سقوط الوعود، وسقوط القانون، وسقوط كرامة المواطن، وسقوط المؤسسات، وسقوط المعلم، وسقوط بشير.
السقوط لم يكن في نيسان 2003 فقط. بل يتكرر في كل 9 نيسان لا يحمل معه غير القمع والإهانة.
جمهورية التعذيب قائمة… والديمقراطية فيها مجرد خيال لغوي.
9 نيسان: الذكرى التي فضحت خيبة التغيير
في مثل هذا اليوم، 9 نيسان/أبريل 2003، سقط النظام السابق، وسقط تمثاله في ساحة الفردوس، وسقط معه وعد القهر والتعذيب والسجون السرية… أو هكذا كنا نُمنّي أنفسنا.
لكن العراق بعد 2003 لم يتخلص من ثقافة التعذيب، بل أعاد تدويرها بوجوه ومؤسسات جديدة. فالسجون ظلت مظلمة. وأقبية الاعتراف ما زالت تشتغل. والدستور الجديد لم يمنع أيدي الأمن من أن تُعيد صناعة الألم، باسم محاربة الار*ها*ب، أو “استقرار الدولة”.
بعد أكثر من عقدين على سقوط الاستبداد، لا تزال تقارير الأمم المتحدة تروي ذات القصص التي كانت تُروى في عهد البعث: تعذيب لانتزاع الاعتراف، مراكز احتجاز غير قانونية، انعدام للمحاسبة، غياب للشفافية، وموت تحت التعذيب.
أي خيانة للتاريخ هذه؟ وأي استهانة بدماء من ثاروا على الاستبداد، ليتحوّل الاستبداد إلى نظام دائم بواجهة “ديمقراطية”؟
من تشرين 2019 إلى نيسان 2025: الجمهورية تضرب أبناءها
منذ انطلاق انتفاضة تشرين 2019، كان الشارع العراقي يصرخ ضد الفساد والقمع والبطالة والموت المجاني. خرج الآلاف من الشباب العُزّل، يطلبون كرامة وفرصة حياة. فكان الرد: قنابل الغاز في العيون، والرصاص في الرؤوس، والخطف في الظل.
التقارير الدولية وثّقت عشرات الحالات من الق*ت*ل خارج القانون، والاختفاء القسري، والتعذيب الممنهج في مراكز غير معلنة، دون أن يُحاسب أحد.
وفي تكرار فاضح لنفس المنطق، جاء الاعتداء على المعلمين والمدرسين المتظاهرين يوم 9 نيسان/أبريل 2025، وهو يوم يُفترض أن يكون رمزًا للتحرر.
مدرسون وأكاديميون خرجوا يطالبون بحقوقهم المهنية والمعيشية، لا أكثر، فإذا بقوات الأمن تُهينهم وتعتدي عليهم وتجرّهم كما يُجرّ اللصوص. لا احترام لمكانتهم، ولا اعتبار لرمزية اليوم.
إنها ج#ريم*ة إضافية تُسجّل في ملف الانتهاكات، وتُثبت أن الدولة التي تضرب معلميها، ليست دولة، بل آلة تتقن فقط القمع والإهانة.
أية ذكرى؟ وأي سقوط؟
حين يُضرب المعلمون يوم 8 نيسان، ويُعذّب المواطنون في السجون ذاتها التي وُعدنا بإغلاقها، فإن السقوط الحقيقي ليس في 2003، بل في كل مرة ننسى فيها أن الكرامة لا تُمنح بالدستور، بل تُحمى بالفعل.
تاريخ 9 نيسان بات ذكرى مؤلمة لمن حلموا بوطن جديد. وإذا كان سقوط التمثال قد بشّر بيوم آخر، فإن سقوط المهندس بشير في السجن، وسقوط المعلمين في الشارع، وسقوط المتظاهرين في الساحات، كلها تسقط في سجل واحد: سجل الدولة التي تتقن أن تعذّب أبناءها وتحمي جلّاديها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.