مقالات دينية

اللاهوت المعاصر بين الإيمان والعلم

اللاهوت المعاصر بين الإيمان والعلم

بقلم / نافع شابو البرواري

يقول العالم “تيار دي شاردن” في كتابه “الجو الإلهي “:
“العالم الحديث الذي ابتدأ مع مجموعة إنسانية جديدة لاتخضع للكنيسة مباشرة ، لم يعد الكلام يدور حول الهرطقات ، بل تيارا جديدا يسمى ألأنسانية ويتطلب منا أن نستعمل طرقا جديدة لنعيده الى الأيمان . فمن الوجهة النظرية كان بإمكان هذا العالم أن يولد ويكبر مؤمنا . فلماذا تحرّر الى هذا الحدّ ، ولماذا حاول الولد أن يفتك بوالدته ويبتعد عنها؟
أولا: كيف نعيش الدعوى الى العلم والدعوى الى ألأيمان في نفس الوقت؟
اليوم هناك مسيحيّون وغير مسيحيّون الذين وعوا قيمة الثورة الروحية التي يتمخَّض بها عالم اليوم ، واكتشفوا معا عالما جديدا لا تنسجم مبادئه والمعطيات التقليدية للمسيحية . وأمام هذا الأمر طرح البعض ألأسئلة التالية : هل يكتفي ألأنسان المعاصر بدينٍ يُعبِّرعنه بلغة وبعادات وبطقوس هي صورة عن ماضٍ مرَّ عليه الزمن؟ هل يكتفي ويقبل بدينٍ يحتقر أمور ألأرض ويعتبر أنَّ هذا العالم هو عالمٌ فاسد وما علينا إلاّ الصبر والخضوع أمام ما يقدّمه للبشرية من متناقضات
مستدندين الى المثل القائل” مُزارع متواضع خيرٌ من عالم متكبِّر، متناسين أنّ هناك عُلماء متواضعين ومزارعين متكبرين” في قلب الكنيسة نفسها؟ كيف بأمكاننا تبرير التطوّر العلمي بالنسبة الى معطيات ألأيمان ، والعكس بالعكس؟ كيف بأمكاننا تحقيق دعوة ألأنسان ودعوة المسيحي في عمل واحد؟ هل بالأمكان الجمع بين “هدف أعلى ديني – انساني ” ، وهدف أعلى “ديني – مسيحي” اذا لم يكن ذلك في إطار التطّور العلمي الحقيقي؟.

إنَّ الذين حاولوا ويحاولون التوفيق بين معطيات ألأيمان ومعطيات العلم عاشوا حياة ملؤها العذاب وحتى العلماء المؤمنون ، الى حد أنَّ كثيرين نُبذوا، فعاشت الكنيسة حالة عزلة ٍ ثقافية ، بالأحرى على هامش المجتمع المعاصر ، وزاد الصراع بينها وبين العلماء والباحثين .
مشكلة الكثيرين من مسيحيّي عصرنا يهمُّهم أن يعيشوا أيمانهم بعمق وأن يساهموا ، في الوقت نفسه ، بتطوّر العالم . إنّها مشكلة وجودنا كمسيحيّين وكأناسٍ عاديين على حدّ سواء .
أمام هذه الطروحات ، فما هي العلاقة القائمة بين المسيحية من جهة ، والحضارة ألأنسانية بعلومها الوضعيّة والسياسية وألأقتصادية والفنيّة من جهة ثانية ؟ . هل على المسيحي أن يعتبر أنَّ الحضارة ألأنسانية لامعنى لها بالنسبة الى المؤمن؟ .وهل بأمكان المسيحي أن يتنكر لها، بكل بساطة ، أو بالأحرى عليه أن يساهم بتطوّرها بكلِّ قواه ، دون أن يخون دعوته السماوية ؟ وهذه الحضارة ، التي نعتبرها حضارة دنيويّة ، هل لها مكان في مسيرة تاريخ الخلاص ، أم ننفي عنها كُلِّ قيمة دينيّة؟ وهل العمل ألأنساني والجهد البشري ينتميان الى العالم الذي أحبَّه الله وأفتداهُ ، أم هما ضدَّ هذا العالم ويعرقلان مسيرتهُ ؟”(1) .
إنَّ المسيحي ، في عصرنا ، يطلب جوابا واضحا على هذه ألأسئلة . والكلام غير الواضح ، في هذا الموضوع ، لا يشفي غليله . فمن جهة إنَّ المسيحية تشيد بالعلم وبالتقنية وبالنشاط ألأقتصادي والسياسي ، ومن جهة ثانية تقف حذرة أمام الذين يغوصون في أعماق التطوُّر العلمي وتُنبِّههم من أن يكون عملهم ضدّ مسيرة الخلاص وتعليم ألأنجيل . لذلك، انَّه أصبح من الضروري طرح الموضوع بعمقه من وجهة النظر ألأنسانية ومن وجهة النظر المسيحية على حدٍّ سواء(2)
في الحقيقة ألأنسان يتوق الى المعرفة وأكتشاف ما هو مجهول ويريد ألأجابة على كل التسائلات لكشف سر الوجود(الواقعي) سواء كشف سر الكون وسر الحياة (الكائنات الحية) . فنحن جميعنا نؤمن أنّه في مكان ما حولنا ، وهذا الشيئ متاصل في أذهاننا ، تختبئ نارٌ خفية ، وإنَّ عقلنا ينزع مبدئيا الى التنقيب والغوص في قلب العالم وهذا الكون الشاسع ، للوصول الى المعنى الحقيقي للحياة (3).
السر ليس لغز ، فاللغز هو أمر غامض ومكتوم ، طريق مغلق ، يطرق ألأنسان على بابه ولايتلقى ايُّ رد . بينما السرُّ في المفهوم المسيحي ، فهو مختلف تماما ، هو حقيقة إيمانية يستطيع ألأنسان أن يفهمها على وجه افضل يوما بعد يوم ، دون أن يصل الى نهايتها . ليس السر ُّ حائطا أصطدم به ، بل هو محيط ، اتعمق فيه وأزداد تبحرا فيه . وكُلُّ يوم أكتشف أبعادا جديدة لهذه الحقيقة ، من دون أن اصل الى نهايتها (لأنَّ الله غير محدود) (4) .
ماهو هدف او غاية العلم ؟
إنَّ العلم هو وعي لما نكتشفه من معلومات جديدة في الخليقة . هو ، أي العلم ، نتاج عقل يريد إكتشاف ماهو موجود اصلا في الخليقة لأضافته الى سجلاّت إكتشافاتنا السابقة لتستفاد منها ألأجيال القادمة كمعلومات لخدمة الأنسانية . أي أنَّ المعلومات التي يتم الحصول عليها من خلال فروع العلم المختلفة، يمكن ان نوضِّحها بمثل بسيط :
الطفل الصغير يكتشف في كُلِّ لحظة ، في البيت والمدرسة، معلومات جديدة تنطبع في خلايا الدماغ ، لتصبح خزين للمعلومات يمكن الرجوع اليها . وكُلّما كبر الطفل ونضج زادت معرفته ومعلوماته وزاد وعيه واكتشافاته لهذا العالم الذي يحيط به . هكذا جيلا بعد جيل تتراكم المعلومات لتكون في خدمة ألأنسانية .وهكذا يمكن ان نشبّه التطور عبر التاريخ في جميع المعارف والعلوم الوضعية .
ولكن السؤال المطروح هو : هل ألأنسان يكتفي بأن يكتشف فقط المعلومات الموجودة فعلا في الخليقة ، أم له مهمة أُخرى واسمى واشمل من العلوم الطبيعية في الخليقة ؟. الجواب بكل بساطة هو نعم ، بالطبع له مهمات أخرى.
ألأنسان يختلف عن بقية المخلوقات في الوعي ، بالأحرى التفكُّر وطرح ألأسئلة الوجودية(الروحية ) ، مثلا: من الذي خلقني؟ ما هو هدف وجودي في هذه الحياة ؟ لماذا الموت؟
وهناك اسئلة حياتية ( الواقعية المادية) مثلا : كيف ظهر الكون والمجرات والنجوم وكيف تطورت الحياة على هذا الكوكب ؟
الفلاسفة اليونانيون ، وبعد تطور تدريجي للأفكار، كانوا يطرحون ألأسئلة العقلية ، أي أنَّهم إنطلقوا من العقل لأكتشاف المطلق ، فهم عرفوا أنَّ هناك مطلق أو خالق له قيَّم مُثلى من الجمال والخير والقداسة والعدالة ، وكانت ألأسئلة تُطرح ولكن دون ألأجوبة في أحيان كثيرة ، لأنَّهم إنطلقوا من أفكارهم من ألأسفل الى ألأعلى ، وهكذا العلم اليوم ، ينطلق من النضريات وبعدها يكتشف ما هو بنضره مجهول .
العالم اليوناني (الغربي بصورة عامة ) كان يفصل العقل عن الروح ، ولهذا كان إكتشافه لوجود الله يسير ببطئ . إنَّ فكرة أنَّ العلم هو الذي يوصلنا الى المطلق فكرة قديمة مصدرها الرئيسي هو الفكر اليوناني المستمد من الشرق ، وسُمّيت في المسيحية ” بالغنوصية ” (*)التي كانت تؤكد المعرفة الخاصة ، تعتمد على العلم والمعرفة ، وظهرت في التاريخ ولازالت تظهر حتى في يومنا هذا عند اشهر علماء اليوم أمثال “ستيفن هوكنج وريتشارد دوكنز …الخ الذين يؤمنون بالوصول الى عقل الله وكيف يفكر الله .
العقل قد يصل بالأنسان الى حب الخير للأنسانية ، ولكن هذا العقل قد يتمرد اذا لم يكن هناك من يؤهّل هذا العقل ، لأنَّ العقل قد يخرج عن سلوك الطريق الصحيح ، وهذا ما نلمسه عبر التاريخ ، فقد قادت العقول الكبيرة المجتمعات ألأنسانية ولكن النتيجة كانت في أغلبها كوارث ، لأنَّ العقل ينسب لنفسه الفهم وألأنانية . الأكتشافات العلمية ، احيانا كثيرة ، قد تقود البشرية الى استغلال هذه الأكتشافات لتدمير البيئة والمناخ وحتى في تهديد البشرية (كالتجارب النووية واستخدامها فعلا في تدمير مدينتي هوراشيما ونكازاكي في اليابان وق*ت*ل عشرات الملايين من البشر في حربين عالميتين خلال قرن واحد من الزمن ، وكذلك ما يشهده العالم هذه ألأيام عن الحرب الروسية الأوكرانية ونتائجها المرعبة على العالم اجمع) .
انَ العلم عاجز عن الولوج الى عالم اللامنظور (الفوق الطبيعي) ، إنَّه بحاجة الى التكامل مع قوَّة الروح المعرفية وقدرتها للغوص في سر الله ، ليستطيع ألأنسان معرفة الله وليس أدراكه . العلم يفتش عن حقائق في الكون وهو يحاول أكتشافها ، ولكن لا يستطيع أن ينطق أو يتكلم عن الحقيقة المطلقة ، ولهذا السبب لايستطيع العلم التفاعل معها . للعلم إخلاقيات عائدة له وهو الذي يحددها ، أمّا القيم هي نتجت من المنظور المسيحية للكون وأدخلت هذه القيم في منهج العلوم مثلا القيم التي نتلمسها في الطب ، في الفيزياء ، في الكيمياء .
فالطبيب أو الفيزيائي أو الكيمياوي لايستطيع ألأعتماد على العلم فقط لخدمة ألأنسانية بل قد تحدث كوارث لولا الضميرالذي هو قبس الخالق زرعه في اعماق ألأنسان ، لأنَّ ألأنسان هو صورة الله على ألأرض (راجع سفر التكوين 1 :26). ولهذه ألأسباب لايمكن أن تحل ألأخلاقيات العلمية محل إخلاقيات القيم الدينية . فاخلاقيات الصحة مثلا ، لايمكن أن تحلُّ محل ألأخلاقيات التي تدعو الى محبة ألأنسان لأخيه ألأنسان بكل ما لهذه الكلمة من المعاني ألأشمل ، لأنَّ ألأخلاقيات التي تدعو الى المحبّة فهي لا تعرف ألأنانية وحب الذات . العلم دون ألأيمان كالطير الذي يريد الطيران بجناح واحد ، والأيمان دون العقل والعلم ايضا لايصل بألأنسان الى الحقائق ألألهية . لأنَّ ألأيمان بجهل قد يولِّد أصولية** ، وهذه الأصولية قد تلجأ الى العن*ف في أحيان كثيرة .

هكذا العلم فهو يوازي الأيمان في بحثه عن سر حقائق الكون والوجود والخليقة ، ولكن ، مع احترامنا لبعض العلماء (الغير المؤمنين بالخالق ) والباحثين عن هذه الحقائق ، سوف لن يصلوا ، بمعرفتهم العقلية ، الى حقيقة ألأشياء التي يكتشفوها بالتحليل والتفكيك(تكيف المادة الى ذرات والكترونات ..الخ ) أو باكتشافات فلكية لنشوء الكون ، لأنّهم هم ايضا مخلوقين . فكما يقول الكتاب المقدس (ايسال الطين لجابله لماذا تصنعني؟) .فالمعرفة هو العلم بوجود الشيئ مع الوضوح والتحقق ، كمعرفتنا أنَّ الشمس هي مصدر النور والحرارة ، وأمّا ألأدراك ، فهو فهم الشيئ فهما تاما بكماله . ولذلك يُقال أننا نعرف الله ، ولا يقال أننا ندركه . ولهذا يحق لنا أن نؤمن بوجود شيئ ولو لا ندرك علة وجوده أو كيفيته( حتى في العلم ) ، وهذا لا يحط من شان ألأنسان العاقل ، لأنَّه لا يُطلب منه التسليم بصدق ما لا يعرف معناه (5).
فنحنُ (كمؤمنين) لانتكلم عن فراغ ولا بضلال ، ولا بالكلام وحده ، بل بقوة الله ، والروح القدس، واليقين التام (تسالونيكي1 : 4- 5)

ثانيا : اللاهوت المعاصر والعلم بمفهوم العالم “تيار دي شاردن” : كعالم مؤمن ، قد أمضى حياته يتأمَّل بمعطيات ألأيمان وبمعناها . فاللاهوت ، في نظر “تيار دي شاردن ” ، رغم كونه يتناول مواضيع ما ورائية ، يبقى عِلما ً انسانيا ومحاولة انسانية لفهم الوحي ألإلهي وللتعبير عنه بشكل مقنع عقلياً .والفكر اللاهوتي ككل فكر إنساني ، هو متأثّر أصلا بكلّ المظاهر الأجتماعية والثقافية .
من هنا ، ونظرا لأنّه مرتبط بالأنسان ، فإنَّ الفكر اللاهوتي عليه أن يتجدَّد كما يتجدَّد ألأنسان في كُلِّ مراحل حياته اليوميّة وفي كُلِّ عصر . وفي نظر “تيار دي شاردن” فإنّ التجربة الأنسانية تفرض اليوم ثلاث متطلبات أساسية على الفكر اللاهوتي
فاللاهوت عليه أن يجعل حقيقة ألأيمان مدركة من انسان اليوم ، وهو يحرّره من كُلِّ المفاهيم التي تخطّاها الزمن ، لذلك علينا ان نوجّه أنتباهنا الخاص الى مشكلة العلاقة بين الله والعالم ، كما يحدّد العلم المعاصر هذا العالم [أي بعد الأكتشافات الكونية والفلكية ونظرية الكم والثورة الرقمية ..الخ ]

ويستند هذا العالم على مسلمات ثلاثة وهي:
المسلَّمة ألأولى : هي أن الوحي قد أعلن في مرحلة تاريخية كان الكون فيها يعتبر كعالم مغلق وغير متغيّر (حيث الشمس تشرق ثم تغرب وهكذا يتكرر الليل والنهار كاننا في دائرة مغلقة بحسب مفهوم العالم اليهودي واليوناني القديم ) . لذلك عُبِّر عن هذا الوحي بمفاهيم كانت تتوافق ورؤيا العالم آنذاك(مثال سفر التكوين الأصحاح الأول والثاني) . كذلك فإنَّ آباء الكنيسة واللاهوتيّين المدرسين قد أكدوا على تلك المفاهيم لأنَّ العالم لم يكن يومها قد كشف عن معطيات جديدة . واللاهوت التقليدي قد تاثّر بهذه المفاهيم طوال أجيال . كذلك فانَّ آباء الكنيسة ولاهوتيّي القرون الوسطى قد تعمّقوا بمفاهيم المسيحية من خلال الوضع الثقافي الذي كان سائدا في أيّامهم .
ويذهب تيار دي شاردن الى ضرورة الغاء كُلِّ ما يذكِّر بمفهوم العالم القديم في صياغة جديدة لمفهوم ألأيمان بعبارات تناسب هذا المفهوم بالذات . وكُلِّ ألأقتراحات التي عرضها حول مفهوم الخلق والخطيئة ألأصلية والفداء وعودة المسيح المنتصر على الموت تلفت نظريا وتكون مادة جديدة لبناء صرح لاهوتي يتناسب وألأكتشافات العلمية والرؤيا الجديدة للعالم .

المسلمة الثانية : هي العلاقة بين الله والعالم ، ففي دراسته عن ” المسيح الكونيّ ” يقول “تيار دي شاردن” : ” لقد آن ألأوان ، ولوقليلا ، في عصر يحاول فيه الفكر البشري أن يعترف بوحدة الكون بذاته ، وبالعلاقة التي تربط هذه الوحدة الكونية بالله”. كما يؤكد أيضا على أنَّ جميع فروع العلم المقدس تدعونا للصلاة وللتأمُّل لنرى اين يتلاقى الله والكون. وأنطلاقا من مفهوم الخلق بالذات فأنَّ هذا التلاقي لم يتم الاّ في شخص المسيح نفسه . المسيح هو الذي كشف لنا عن هذه العلاقة المميِّزة بين الله والعالم . لذلك على اللاهوتي أن يحلل ويؤكد اليوم على العلاقة الموجودة بين المسيح والكون ، كما كان اللاهوت في الماضي يحلّل ويثبت العلاقة بين المسيح والثالوث ألأقدس . فقد آنَ ألأوان ، يقول “تيار” ، للتعمق بدراسة هذه العلاقة بين المسيح والعالم ، انطلاقا من تحديد المسيح في اطار الرؤيا الجديدة للعالم لأنَّه كان يسعى الى عرض مسيحانية تكون بحجم الزمان والمكان …أعني أن يكون للمسيح الدور العضوي بالمعنى الحصري للكلمة ، بحيث انّه يحرك ويدفع ويكلّل التطوّر .
والقديس بولس الرسول نفسه قد أكَّد ، في رسالته من سجنه ، على أنَّ التجسُّد والفداء لهما البعد الكوني المطلق . كذلك اللاهوت الكاثوليكي نرى تأكيدا على أنَّ العالم هو مرتبط بالمسيح وموحِّد به . وبهذا المعنى يقول ” تيار ” ايضا :
“إنَّني لا أفعل سوى نقل التعابير القانونيّة التي وضعتها الكنيسة عن ألأيمان بتعابيرعلمية واقعية”

المسلمة الثالثة التي يفرضها “تيار دي شاردن”على اللاهوت فهي التفكير والتأمُّل بالقيم الدينيّة للعمل ألأنساني وللجهد البشري ، وخصوصا التفكير بقيمة البحث العلمي والتقني .
انَّ عمل ألأنسان في بحثه العلمي والتقني لايكون رسالة مقدسة الاّ اذا ساهم في تحقيق التطور وايصاله الى غايته ألأخيرة . فالعمل والعلم والتقنية هم بالضرورة ما يجعل ألأنسان يتقدّم ويترقى في اتجاه الوحدة من خلال روحانية تتكامل يوما بعد يوم . أمّا على صعيد المسيح فأنَّ التطور لايصل الى كماله الاّ اذا كان هدفه الوصول الى المسيح ألأوميغا الذي يكلِّلُه ويجعله منفتحا على الكون بأجمعه ، والعمل والعلم والتقنية وحدهم يحققون ملكوت الله .وهكذا يفهم المسيحي ان عمله هو الذي يقدّسه أكثر ويجعله يتجاوب مع دعوة المسيح الى خدمة البشرية والعالم .
فمهما تكن التطورات العلمية مسيطرة على المادة وعلى فن تحويل القوى الحيويّة ، فما علينا أن نخشى بان هذا التقدم سيحملنا دائما ، وبشكل منطقي ، الى أن ندع جانبا نوابض الجهد ألأخلاقي والديني . لكن علينا أن نتأكّد أن ذلك التطور سيكون لتقوية تلك النوابض ودعمها .(6)

اليوم الكثيرون من العلماء باتوا يعتقدون أن العلم والإيمان قريبين من بعضهم البعض جدا ويساعدان بعضهما البعض في اكتشاف الحقيقة. ويتجلى هذا التعاون بأن يقدم الدين أجوبة شافيه للعلم عن أمور تتعلق بسر هذا الكون، فالعلم والفلسفة أكتشفا أن للكون موجد ما وعلة، ولم يستطيعا كشف هذه العلة، ثم أتى دور الدين والوحي فقدما الكثير الكثير عن تلك العلة الغامضة وهنا يلتقى عمل العقل مع الوحي في اظهار طبيعة الله، لأن العلم مهما حاول فلن يعرف بمفرده مثلا أن الله محبة، أو حقيقة وجوهر الثالوث الأقدس.(7)

اهتم العالم الكبير انشتاين بالإنسان أكثر من اهتمامه بالعلم، حتى أنه حذر الناس من أن يصبح العلم أهم ما في الحياة، لأن العلم وإن امتلك القوة والعضلات فهو لا يملك القلب، وكان يؤمن أن الإنسان لا يحيى بالفعل إلا عندما يخرج من ذاته.
وعن سؤال وجه اليه : كيف خلق الله الكون؟ فيقول: لا أهتم بهذه الظاهرة أو تلك، أو هذا العنصر أو ذاك، أريد أن أعرف تفكير الله .”العلم بدون الدين هو أعرج ، والدين بدون العلم هو أعمى ، فالأثنان يهدفان لأكتشاف الموضوع ولكن يطرحان اسئلة مختلفة ، وبأختلاف ألأسئلة تختلف ألأجوبة” . لم يكن آينشتاين ملحداً ولكنه رفض الدين الذي يفرق بين البشر ويرفض صورة الله البعيد عن الكون والمخلوقات. ( 8)
يقول احد اللاهوتيين
ليس الكتاب المقدس كتابا علميا (أي ليس اختاصه العلم ) . ولايستخدم الكتّاب الملهمون العلم الا كاطار للحقيقة الدينية ، فهم يذكرون الأشياء بحسب مظهرها في عقلية زمانهم . فهم يرون الله في كل شيء وينسبون اليه كل شيء . لذا يروون أمورا لاتوافق مفهومنا العلمي الحالي . ولعلّ ما يلفت النظر الى ذلك رواية الخلق (كما وردت في الكتاب المقدس سفر التكوين الأصحاحات الثلاثةالأولى ) .إنّها رواية صحيحة ولكن يجب ان لاتفهم فهما ماديا وحرفيا . أي علينا تفسيرها بالمعنى الرمزي .
إنّ العلم لايستطيع مناقضة الكتاب المقدس ، لأنّ الخالق هو مصدر العلم والوحي . ومن ناحية أخرى ان حقيقة الوحي تبحث في اللامنظور ، في حين ان الحقيقة العلمية تبحث في الكون المنظور .ومهمة العلم هو عرض كيف ومتى ؟ ولا يستطيع ان يجيب على أسئلة : من اين ولماذا؟ . فعلى سبيل المثال الكتاب المقدس وحده يستطيع ان يجيب عل ألأسئلة التالية : من خلق العالم ؟ ولماذا ؟ومن اين اتى الأنسان وما هو مصيره ؟ ومن اين يأتي الشر؟ والألم ؟ والخطيئة ؟ والموت ؟
فلا يحق للمؤمن ان ينكر ما توصل اليه العلماء استنادا الى الدين، ولا يحق للعلماء انكار معطيات الدين استنادا الى العلم . فعلى سبيل المثال يعلّم الكتاب المقدس ان الله هو الذي خلق الكون وجميع الكائنات وما يرى وما لايرى”في البدء خلق الله السماوات والأرض “تكوين 1 :1” . وأما العلم فيقول ان الكون بدا بانفجار عظيم قبل حوالي 14 مليار سنة . لا تناقض بين التاكيدين لان المهم ان الكون هو نتيجة قرار الخالق بغض النظر ان كان الخلق مباشرا او غير مباشر.
تثير اكتشافات العلوم والأبحاث ألأخيرة بما فيها التاريخية والفلسفية مشاكل جديدة تتطلب من اللاهوتيين انفسهم ابحاثا جديدة . وعليه فان اللاهوتيين مدعون للبحث دون توقف لايصال وديعة الأيمان بطريقة افضل. فحقائق الأيمان شيء والتعبير عنها شيء آخر.(انتهى الأقتباس).

اليوم أليس من حق المؤمن المسيحي أن يتسائل
بماذا يتميّز المسيحي (بالولادة) عن غير المسيحي ، عندما نرى حولنا ألكثيرون من آباء الكنيسة والمؤمنين ، لا يبذلون جهدا في ايصال البشارة الى ألأنسانية بطريقة معاصرة تتوالم مع التقدم العلمي في جميع مجالاته وخاصة بعد أكتشاف الكون الواسع؟
اليس من حق المؤمن المسيحي أن يتسائل عن ماهو ألأختلاف بين رعاة تلك الكنائس الذين يركّزون على التقليد والطقوس والفرائض كأنّها واجبات . في حين هناك من المتالمين والجياع والمضطهدين ، يحتاجون الى خدمات أنسانية وعلماء يخترعون لهم الدواء وتكنولوجية متطورة زراعيا تقدم لهم الغذاء واختراعات طبية لمعالجة امراضهم ، وعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك يقدمون لهم الكثير من الخدمات كالأتصالات والأدوية ….الخ وكلِّ من يخدم الأنسانية ويسعى الى سعادتها ؟.
لا يمكن للمسيحي أن يكون منعزلا عن هذا العالم مهما كانت الأسباب ، لأن المسيح تجسّد لخلاص العالم كله ، فعلى كل مسيحي أن يعرف فكرة التجسد ، بذهن منفتح في كل زمان ومكان ، وكذلك الأنخراط في البحوث العلمية والتقنية والمساهمة في كل مجالات العلم ، ليستطيع أن يقدم إيمانه للأخرين بطريقة علمية معاصرة ، كما فعل مشاهير العلماء في اوربا عبر التاريخ وكانو غالبيتهم مؤمنين .
يقول العالم ” تيار دي شاردن”:” فأنتم الذين تتبجّحون بانكم تستطيعون أن تعيشوا بالنور وحسب ، إنّما تقتاتون ، دون أن تشعروا ، من النُسغِ الغليظ الذي يقطِّره آخرون بتواضع في اعماق المادة . إنَّ جسد المسيح يقتات من الكون .(9)
ويقول في كتابه “العلم والمسيح “: “إنّ تاريخ العاطفة الدينية الحالي عند البشر ، مهما كان وضعهم ، يبدو وكأنّه خاضع لنوع من الوحي ، في الضمير ألأنساني ، ناتج عن الكون الواحد والكبير … المسيح هو محور الكون …. هذا المسيح الكوني هو المسيح الذي تُقدّمه الأناجيل ، وخصوصا القديسان بولس الرسول ويوحنا ، وهو المسيح الذي عاشه كبار المتصوّفين. فمن سيكون الأكبر ، أمام العالم والذي يستحق العبادة؟ المسيح أم الكون ؟
ويجيب تيار دي شاردن على السؤال فيقول :إنَّ الكون ينمو باطراد ، لذلك يجب ، حتما ، أن يكون المسيح رسميا وبكل وضوح ، فوق كل قياس ….علينا نحن المؤمنين ان نرفع ،أمام جميع البشر ، صورة المسيح الكوني (اللوغز).. وإبراز المفهوم الكاثوليكي للمسيح ، “ألألف والياء البداية والنهاية ” كُلِّ شي فيه وبه كان “.
{ أيهـا الخـالق. أباركك لأنك سمحت لى أن أعجب بأعـمالك. لقـد أتممت رسالة حـياتى بالعـقـل الذى أنت وهبتنيه. أذعـت للعـالم مجـد أعـمالك. فإذا كنت بأعـمالى التى كان يجب أن تتجه نحوك طلبت مجـد الناس فاعـف عـنّى لصـلاحك وحـنوك. أيتها الانسجامات السماوية باركى الرب. يا نفسى باركى الرب }
الخلاصة:
انَّ العلم والأيمان ليسا نقيضين الواحد ضد ألآخر وكذلك ليسا منفصلين الواحد عن ألآخر وليسا منصهرين الواحد في ألآخر ، بل هما اتِّجاهان اساسيان في الحياة ألأنسانية يخدمان بهدفهما المشترك ألأنسان ومسيرته الحياتية ، سواء الحياة الروحية(الميتافيزيقية ) أو الجسدية (المادية) ، فلكل منهما هدفا واحدا هو البحث عن الحقيقة . ..فالأنسان العالم يجب أن يبحث ويكتشف ويجتاز الصعوبات ، ولا بُدَّ في النتيجة أن ينتصر روحُ ألأكتشاف .
فليمُت رجُل العِلم على صليب عمله ، كما ماتَ يسوع المسيح على الصليب”(10)

——————————————————————————————————–
(1) كتاب الجو الآلهي ص 16 للأب “تيار دي شاردن”
(2) كتاب العلم والمسيح للأب “تيار دي شاردن”
(3) نفس المصدر السابق ص 39
(4) ألأب بولس الفغالي في سلسلة الكلمة على قناه النور الفضائية

(5). الأب “بولس فغالي” نفس المصدر السابق

(6) العلم والمسيح للأب ” تيار دي شاردن “ص 13-16

(7) http://slayman14.almountadayat.com/t439-topic
(8) http://slayman14.almountadayat.com/t439-topic
(9)نفس المصدر 6 أعلاه ” العلم والمسيح” للأب ” تيار دي شاردن
(10) كتاب “العلم والمسيح ” للأب تيار دي شاردن

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!