الحوار الهاديء

حذار! ليس ما بعد الاحتجاجات مثل ما قبلها

لويس إقليمس

لويس إقليمس   

 

 

حذار! ليس ما بعد الاحتجاجات مثل ما قبلها

بغداد، في 18 تشرين ثاني 2019

بعد جبل “أُحد” (المطعم التركي)، جاء اعتلاء المحتجين السلميين “جبل شهداء التحرير” (مرآب السنك) ليعطي زخمًا جديدًا للانتفاضة الشعبية الوطنية وحافزًا مضافًا لتواصل الاحتجاجات مترافقًا مع موقف المرجعية الرشيدة الواضح الرادع الذي لا يقبل الجدال ولا التأويل ولا المماطلة ولا التسويف في تنفيذ مطالب الشارع الهائج الذي يزداد سخونة وغليانًا وتصعيدًا بوتائر متلازمة. ولا ندري كيف ستؤول الأمور قريبًا، وواقع الحال في الشارع يشير إلى إصرار المحتجين على مواصلة اعتراضاتهم الحاسمة على بقاء أركان السلطة وأحزابها والمنتفعين منها من أطراف ثالثة ورابعة وعاشرة، معلومة كانت هذه أو مجهولة تسعى بكلّ ما لديها من سطوة ومال وأدوات للتشبث بالسلطة حفاظًا على مكاسب ومغانم طائفية وفئوية ومذهبية وحزبية قبل أي شيء سواها، كما اشارت المرجعية ذاتُها وكما يحكي واقع الحال.   

إنّ الوقائع والأحداث وما يُشاع ويُستدلّ من مواقع التواصل الاجتماعي وما يرشح من مصادر مقربة من أركان السلطات الأربع على السواء، لا يبشّر بخير ولا يشير إلى نوايا حسنة لتنفيذ توجيهات المرجعية التي أصبحت صمّام أمان للعملية السياسية برمتها وعلامة مضيئة يستنير بها المنتفضون، في الأقلّ في المرحلة الحرجة الراهنة. فما تزال جهاتٌ مغرضة وأطراف يُشار إليها رسميًا أو تحت الكواليس بالثالثة تعمل ميدانيًا على وأد المشروع الوطني لشباب الانتفاضة ومريديهم وداعميهم والمتعاطفين معهم من خلال السعي لحرف الاحتجاجات عن مسارها بشتى الوسائل والطرق، ق*ت*لاً وخطفًا وتهديدًا ودسّا للسموم القاتلة والقنابل الصوتية وتلك المسيّلة للدموع المحظورة والمجهولة المصدر.

فالطرف الثالث الذي تحدث عنه مسؤولون أمنيون في قمّة السلطة من دون الإفصاح عن هويته وأغراضه، مازال طليقًا قويًا كاسرًا وسرابًا مجهولاً غير قابل الردع والإمساك به ومعالجته بسبب بأسه وقدراته العسكرية والأمنية وتفوّقه على أجهزة الدولة وسلطاتها. وهذا دليلٌ واضح بعجز حكوميّ قاصر في إيجاد استراتيجية رادعة لهذا الطرف الغامض الذي بات يقضّ مضاجع الحكومة إعلاميًا وسياسيًا ويحيّر أجهزتها الأمنية، إنْ صحّت المزاعم بجهل هويته وفي العثور عليه وتعقبَه والقصاص منه إرضاءً للشارع وتهدئةً لبال المتظاهرين الذين تأيّدوا أكثر بقوة الله والشعب وتوحدوا وتعاضدوا بحب الوطن ولم يعد يخيفهم الموت في سبيله من أجل كرامة العيش وإعادة البلاد إلى حقيقة أصالتها وعراقتها وهويتها الوطنية المفقودة منذ الغزو الأمريكي في 2003. فالجميع يبحث عن وطن. وقد ضاع هذا الكنز الثمين بين كواليس أحزاب السلطة ومصالحها ومكاسبها بسبب تغييب ضمائرها وهجر أحاسيسها الوطنية. فقادة هذه الأحزاب الطائفية والقومية والمذهبية والفئوية عبر المقترحات الإصلاحية الركيكة المتسرّعة الواردة من جانب الرئاسات الثلاث المتسابقة لكسب جناح الشارع المتأزّم، ما تزال تريد المضيّ في العملية السياسية الفاشلة التي تقاسموا بها المغانم والمكاسب عبر السعي لنهب ما تبقى من الكعكة بالضدّ من إرادة الشعب. ولعلّ أهمّ مطلب تتسارع هذه الجهات الثلاث للحديث عنه والتطرق إلى مزاعم إصلاحه، ما سطّروه في الدستور الأعرج الذي يأبى زعماءُ أحزاب السلطة وعرّابوها مغادرته وتعديل الكثير من البنود والفقرات التي ظلمت الشعب وجزّأت الوطن وقسّمت المقسوم بحجة التوافق والمحاصصة والمظلومية التي لا تنتهي، وكأنهم مازالوا بعدُ يعملون في جانب المعارضة.

إمّا الدولة أو الّلادولة

كم هي من عبارة مدوية صاعقة ومخيّبة محزنة في آنٍ معًا، أن ينطق بها مسؤولٌ على رأس السلطة التنفيذية وهو يتوسل بالخارجين عن القانون والخاطفين بإعادة ضحاياهم، سواء العامة من الناس أو الناشطين المدنيين المعترضين على أداء السلطة وفساد أحزابها الحاكمة أو تلك التي تُعدّ جزءً لا يتجزّأ منها في أجهزة الكيان الهزيل للدولة؟

إنه الاحتضار الحاضر للدولة ما بعد الاحتلال. بل هو الاستدلال عينُه بواقع جديد ينبئ بولادة مختلفة أكثر نضجًا ومنهجية يتهيّأُ لها رحمُ العراق الأصيل في قوادم الأيام التي نرجو ألاّ يتأخر موعدُ مخاضها. وحتى لو وُلدت بعملية قيصرية، فيستقبلُها الشعب لأنها ستكون بإذنه تعالى مختلفة في المفاهيم الوطنية والمعايير الإنسانية والآليات الاستراتيجية المدروسة التي يحملُ أجزاءَ منها شبابُ الانتفاضة التشرينية وبعضٌ منها ستؤول إليهم من أصحابِ الغيرة العراقية وفتيان الحنين إلى الوطن الجريح ممّن أبعدَهم قدَرُ الاحتلال الغاشم في 2003 والقادمون معه بدعم من آلياته العسكرية وغطرسته الفاقدة للشرعية آنذاك. ومهما ذهبت الرئاسات الأربع وأدواتُها وشخوصُها ولجانُها بإصدار حزم إصلاحات يعدّونها كبيرة أو تعديلات مهمة على الدستور والقوانين النافذة وضخّ جرعات ترقيعية على واقع الحال المتهرّئ، فإنّ ذلك لن ينفع ولن يردع أو يقوّضَ من عزيمة المنتفضين البتة. فالحقيقة الواضحة في فساد الطبقة السياسية الحاكمة غيرُ قابلة التغيير من حيث استعداد هذه الطبقة التنازل عن مغانمها وامتيازاتها بالرغم من كلّ ما يحصل وما صدر مؤخرًا من توبيخات قاسية شديدة اللهجة من المرجعية التي يدّعي الجميع تقليدها والامتثال لتعليماتها.

لقد فات الأوان لهذه التوسلات المجبولة بدموع التماسيح، ولم يعد للمنتفضين الأبطال من مجال للتراجع الجادّ والحثيث في بحثهم المشروع عن وطن آمن يكون حصنًا منيعًا لجميع الشعب وليس آلة صرافة تخرج المليارات من رصيد هذا الشعب عبر نافذة مزاد العملة وإقطاعيات الوزارات التي تستغلّها أحزاب السلطة ومكاتبُها الاقتصادية المدسوسة لصالح فئة مستغِلّة (بكسر الغاء) تعيش في واد، والشعب في وادٍ آخر. تلكم دروس بليغة لم يكن في الحسبان تعلمها من فتيان وفتيات الانتفاضة الشعبية ومّن تعاطف معهم ودعمَهم بوسائله المتاحة.

الكلمة الفصل للمرجعية

خشي الفاسدون وارتعدت أركان السلطة عندما قالت المرجعية الرشيدة كلمتَها الفصل التي تزداد حدة في خطبة كلّ يوم جمعة اتجاههم واتجاه القائمين على استغلال مرافق الدولة ومؤسساتها وتطويع ثروات البلاد لصالح أحزابهم وتابعيهم ممّن أثروا على حساب الوطن والشعب وملأوا جيوبهم من مال السحت الحرام واقتنوا أملاكًا وعمارات وفللاً واكتنزوا الملايين بل المليارات في حساباتهم الخاصة في دول الاغتراب التي يتطفلون عليها بفضل جنسياتهم المزدوجة. ولعلّ ما أشرت إليه المرجعية مؤخرًا بقوة وأدانت واشارت بالسلب القاطع أحزاب السلطة حين تحذيرها: “وإذا كان مَن بيدهم السلطة يظنون أنّ بإمكانهم التهرّب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة، فإنّهم واهمون، إذ لن يكون ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كلّ الأحوال، فلينتبهوا لذلك”. إنه التحذير الأخير! وبعدها سيكون لها وللشعب خيارات أخرى غيرها. وهذا ما أشارت به ممثلة الأمم المتحدة نفسُها.

على اية حال، الأيام بيننا، وستكون حبلى بالمفاجئات. لكننا نعتقد أنه حين يُقتاد المارد والفاسد واللّص بالقوّة صوب النصيحة بالابتعاد عن الإثم والرذيلة والمفاسد، فمن شأن هذا الجهد أن يكون شاقًا غير قابل الإصلاح حتمًا بسبب فوات الأوان واستفحال الفساد الذي أصبح سرطانًا يسري في العروق والدم والجسم، بل جزءًا من هوية ساسة البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مطاوعة الرذيلة والتماهي مع الجاه والسلطة والمال بشتى الوسائل والطرق. وفي الحقيقة، انساق السياسيون كالغنم السارح ومن دون استثناء وراء نصح المرجعية وتسابقوا في وسائل الإعلام تأييدًا ودعمًا وتقليدًا لجهودها. بل هناك مَن ذرف دموع الندامة والحسرة والتوبة عن إثم اقترفه هو وأركان السلطة بحق الشعب البريء الذي أمّن عبر صناديق اقتراع مزيفة مقاليدَ حياته بأيدي أشخاص غاب عنهم الضمير فتربعوا على عرش السلطة على حساب جماجم الشهداء وحسرات الثكالى وبكاء الأيتام وجامعي القمامة ومفترشي الأرصفة والساحات العامة وتقاطعات الشوارع استجداءً بسبب الفاقة والحاجة والنزوح والتهجير والبقاء بلا مأوي في بلد يسبح على بحيرات من الثروات الطبيعية ويمتلك أفضل مقامات الأئمة والقديسين والصالحين وأروع مرافق السياحة وأصفى مواقع الهواء النقي وأروع منابع المياه العذبة الخالدة.

ولكن، ما الجدوى من عودة حليمة على عادتها القديمة. فآخر العلاج الكيّ والطرقُ على الحديد طالما كان الحديدُ حارًا ساخنًا سخونة حب الوطن والإصرار بعودته لحضن الشعب وحقه بالتمتع بخيراته وأمنه وسلامه كباقي بلدان العالم المتحضّر والمتمدّن.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!