مقالات

فوضى التشريع والتصدي القضائي قراءة في قرار محكمة التمييز الاتحادية العدد 264/الهيئة الموسعة المدنية/2019

فوضى التشريع والتصدي القضائي
قراءة في قرار محكمة التمييز الاتحادية العدد 264/الهيئة الموسعة المدنية/2019
ان فوضى التشريع التي اقصدها في هذا الموضع هو تعدد التشريعات التي تعالج موضوع واحد، ولا يوجد بينها نص حاسم يكون هو المرجع الأساس الذي يعتمد عند تعارض تلك النصوص، وهذه الحالة تؤدي الى تباين الاجتهاد سواء عند المطبق (القاضي) او المنفذ، كما يؤثر على عمل المحامي والحقوقي في أي موقع وظيفي، ولا يخرج عن هذه الدائرة المواطن حيث يصيبه في بعض الأحيان الحيف من جراء هذه الفوضى، ويبقى للقضاء القول الفصل في معالجتها، وفي اغلب الأحيان يجتهد القضاء عندما لا يتوفر نص قانوني من اجل المعالجة، حتى لا يبقى الامر دون حل او حسم، فضلاً عن الزامه القانوني بإصدار الحكم الفاصل والحاسم في الموضوع، والا عد القاضي ممتنع عن احقاق الحق، ويخضع للمساءلة والمحاسبة وعلى وفق احكام المادة (286) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل، فضلاً عن وجوب البحث عن السند القانوني للفصل في النزاع المعروض عليه، سواء وجد النص او انعدم وعلى وفق ما ورد في المادة (1/2) من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 المعدل،
لكن هذا لا يعني ان نترك فوضى التشريع دون تصحيح، وان نعتمد على القضاء للفصل في النزاع وإيجاد الحل حتى لو كان الاجتهاد بمثابة انشاء قواعد قانونية جديدة، لها قوة التشريع من حيث الأثر في حسم الدعوى، لان هذا الامر سيؤدي الى الاجتهاد المتباين مما يضعف الحقوق لعدم تحقق المساواة بين المتقاضين، فضلاً عن النقد الذي يوجه باعتبار ان إرادة القاضي ستحل محل إرادة المشرع، وهذا بمثابة التداخل في السلطات على خلاف مبدأ الفصل بين السلطات،
وفي قرار محكمة التمييز الاتحادية العدد 264/الهيئة الموسعة المدنية/2019 في 23/10/2019 نشره احد الأساتذة الافاضل (ماجد الفتلاوي) في صفحته على موقع الفيسبوك، مثال واضح لهذه الفوضى التشريعية، ومدى تأثيرها على الاجتهاد القضائي، لان القرار صدر بالأكثرية، بمعنى ان بعض القضاة من أعضاء الهيئة لهم قراءة أخرى للنصوص واتجاه اخر مغاير للأكثرية في تكييف الدعوى، وللوقوف على ذلك سأعرض الموضوع على وفق الاتي:
أولاً: قرار الحكم كما نشره موقع مجلس القضاء الاعلى الالكتروني:
لدى التدقيق والمداولة من الهيئة الموسعة المدنية لمحكمة التمييز الاتحادية وجد أن الطعن التمييزي مقدم ضمن المدة القانونية لمصادفة يومي 30 و31/8/2019 عطلة يومي الجمعة والسبت الاسبوعية، لذا قرر قبوله شكلاً وعند عطف النظر على الحكم المميز وجد انه صحيح وموافق لأحكام القانون ذلك ان المدعي (المميز عليه) طلب بواسطة وكيله من المنفذ العدل في المشخاب تنفيذ الفقرة الثانية من الحكم الجزائي الصادر من محكمة جنح المناذرة بالعدد 113/ج/2007 في 30/7/2007 المتضمن الزام المدان (المدعى عليه- المميز) باداء مبلغ الصك البالغ تسعون مليون دينار للمشتكي (المدعي/ المميز عليه) والذي تم ادانته في الفقرة الاولى من الحكم الجزائي وفق احكام المادة (459 عقوبات) والحكم عليه بعقوبة الحبس الشديد لمدة سنة واحدة وان الحكم مكتسب للدرجة القطعية وقد اصدر المنفذ العدل قراره المؤرخ في 7/4/2019 المتضمن رفض طلبه لشموله باحكام المادة (114) من قانون التنفيذ رقم 45 لسنة 1980 وقد صدق قراره تمييزاً بقرار محكمة استئناف النجف الاتحادية بصفتها التمييزية بالعدد 148/ت/تنفيذية/2019 في 15/4/2019 مما دعاه لاقامة الدعوى المميز حكمها الذي تضمنت تجديد القوة التنفيذية للفقرة الحكمية الثانية الخاصة بالزام المدعى عليه (المميز) بمبلغ الصك والصادر عن المحكمة الجزائية وهي محكمة جنح المناذرة، وحيث ان التقادم المسقط للتنفيذ ووقف وقطع التقادم قد نص عليه في قانون التنفيذ رقم 45 لسنة 1980 المعدل في المواد من 114 وما بعدها، حيث نصت المادة (114) بأنه (لا يقبل التنفيذ الحكم الذي مضى سبع سنوات على اكتسابه درجة البتات)، وحيث ان الاصل في الاخذ بمفهوم التقادم كان قد نص عليه في قانون التنفيذ السابق رقم 30 لسنة 1957 الملغى بالقانون النافذ حالياً وفي نص المادة (14/3) منه ما يسمى بالتقادم التنفيذي وجعل مدة التقادم التنفيذي لجميع سندات التنفيذ بما فيها الاحكام القضائية هي خمس عشرة سنة من تاريخ اكتسابها الدرجة القطعية ولم تكن سبع سنوات كما ورد في القانون الحالي وحيث ان التقادم التنفيذي للأحكام القضائية يؤدي الى عدم تنفيذها قبل اصدار الحكم بتأييدها لفقدان قوتها التنفيذية سواء أقر المدين بالحق الذي يحتويه هذا الحكم ام لم يقر به وسواء دفع الدين بالتقادم ام لم يدفع لصراحة النص في المادة (114) من قانون التنفيذ النافذ لانه يعد من النظام العام وان القضاء العراقي قد استقر لعقود من الزمن وسواء في ظل نفاذ القانون السابق او القانون الحالي على اقامة الدعوى لتجديد القوة التنفيذية للحكم المنفذ الذي سرت عليه مدة التقادم المنصوص عليها في المادة (114) آنفة الذكر. ولكن هل ان تجديد القوة التنفيذية يسري على الاحكام الجزائية الصادرة عن المحاكم الجزائية كمحاكم الجنايات والجنح بالشق المدني وهي الدعوى المدنية ضمن الدعوى الجزائية فان الاصل في اختصاص المحاكم الجزائية هي الفصل في الدعوى الجزائية وان الفصل في الدعوى المدنية يكون تبعاً للدعوى الجزائية فاذا انقضت الدعوى الجزائية او اوقف الفصل فيها فعندئذ تقف المحكمة عن الفصل في الدعوى المدنية وللمدعي الحق في مراجعة المحكمة المدنية، كما ان المادة (20) من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل قد نصت على انه (يتبع الفصل في الدعوى المدنية التي ترفع امام المحكمة الجزائية الاجراءات المقررة بهذا القانون) وهنا يثار التساؤل عن مدى صلاحية المحكمة الجزائية في تجديد القوة التنفيذية للحكم الجزائي المتعلق في الفصل في الدعوى المدنية فان قانون اصول المحاكمات الجزائية المشار اليه انفاً وفي نصوصه لم يتضمن صرحة او ضمناً الفصل في موضوع تجديد القوة التنفيذية للدعوى المدنية، لأن الاجراءات المتبعة في الفصل في الدعوى المدنية يكون وفق الاجراءات المقررة في قانون اصول المحاكمات الجزائية وليس وفق قانون المرافعات المدنية أو قواعد الاثبات المنصوص عليه وفق قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل لصراحة نص المادة (20) الاصولية لذا فان اكثرية هذه الهيئة ترى بأن الاختصاص ينعقد الى محكمة البداءة وهي صاحبة الولاية العامة والاختصاص في الامور الاخرى التي يحددها القانون… (المادة 35 من قانون المرافعات المدنية) وانها المختصة في تجديد القوة التنفيذية للحكم الجزائي وبقدر تعلق الامر بالفصل في الدعوى المدنية سيما وان الفقرة الحكمية للحكم المميز حصرت بالفقرة ثانياً وهي (الزام المدان (و ف ع)) بأيفاء مبلغ الصك البالغ تسعون مليون دينار للمشتكي (ع ع)…) وحيث ان الحكم الجزائي الصادر بتاريخ 30/7/2007 المكتسب للدرجة القطعية قد مضت عليه مدة التقادم البالغة سبع سنوات فيكون من حق المدعي (المميز عليه) طلب تجديد قوته التنفيذية وهذا ما انتهى اليه الحكم المميز، قرر تصديقه ورد العريضة التمييزية مع تحميل المميز رسم التمييز مع التنويه للمحكمة ان الفقرة الحكمية تضمنت تأييد الحكم والصحيح تجديد القوة التنفيذية، وصدر القرار بالاكثرية في 24/صفر/1441هـ الموافـــق 23/10/2019م.
ثانياً: الواقعة وقراءة الحكم:
1. الواقعة: صدر حكم من محكمة الجنح في عام 2007 قضى بإدانة شخص بعقوبة ج#ريم*ة سحب شيك دون رصيد والحكم عليه بالحبس، كما قررت المحكمة ذاتها الزامه بتأدية مبلغ الشيك الى المشتكي، واكتسب القرار الدرجة القطعية، الا ان المشتكي لم ينفذ الفقرة الحكمية الخاصة بالزام المدان بتأدية المبلغ حتى عام 2019، وعند تقديم الحكم أعلاه الى المنفذ العدل وطلب تنفيذ تلك الفقرة الحكمية، رفض طلبه استناداً لأحكام المادة (114) من قانون التنفيذ رقم 45 لسنة 1980 المعدل، التي جاء فيها الاتي (لا يقبل التنفيذ، الحكم الذي مضى (سبع سنوات) على اكتسابه درجة البتات)، ثم ذهب المشتكي صاحب الحق في الحكم الجزائي أعلاه الى محكمة البداءة لإقامة دعوى تجديد القوة التنفيذية للفقرة الحكمية من اجل قبول تنفيذها، واصدر محكمة البداءة قرارها بقبول الدعوى وإصدار الحكم بتجديد القوة التنفيذية، لكن عند الطعن به تمييزاً امام محكمة التمييز الاتحادية، حصل اختلاف في وجهات النظر بين السادة القضاة أعضاء الهيئة، وصدر القرار بأكثرية الأعضاء وليس باتفاق الجميع، حيث اتجهت الى تصديق قرار محكمة البداءة، واثار القرار أعلاه في طياته جملة تساؤلات هل يجوز ان تنظر محكمة البداءة في تجديد القوة التنفيذية لقرار حكم صادر من محكمة أخرى؟، وهل منح محكمة الجزاء سلطة الفصل في الدعوى المدنية تبعاً للدعوى الجزائية يوفر العدالة والمساواة بين المتقاضين واقرانهم الذين يقومون بالمطالبة عن طريق محكمة البداءة؟، وما هو القانون الاجرائي الواجب التطبيق على النزاع المدني تبعاً للدعوى الجزائية؟
2. القراءة: هذه الأسئلة تمثل دلالة واضحة على فوضى التشريع القائمة، لان قواعد المرافعات التي تجري للنظر في الدعوى المدنية تبعاً للدعوى الجزائية تكون على وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 21 لسنة المعدل، وهذا القانون1971 مصمم للدعاوى الجزائية، بينما الدعاوى المدنية تخضع بإجراءاتها الى قانون المرافعات المدنية، ان قواعد الاثبات للدعوى المدنية تنظم على وفق قانون الاثبات رقم 197 لسنة 1979 المعدل، بينما عند نظر الدعوى تبعا للدعوى الجزائية يخضع لقانون أصول المحاكمات الجزائية، استناداً لصراحة نص المادة (20) التي جاء فيها الاتي (يتبع في الفصل في الدعوى المدنية التي ترفع امام المحكمة الجزائية الاجراءات المقررة بهذا القانون)، وهذا يؤشر لدينا حجم التقاطع بين النصوص ، حيث تتقاذف النزاع عدة تشريعات، ليس على أساس التكامل بينها بل على أساس التقاطع والتفرد بالاختصاص، كذلك سيؤدي الى فجوة بين من يقيم الدعوى امام محكمة البداءة وبين من يطلبها تبعا للدعوى الجزائية وهذه قد تؤثر على حقوق طرفي الشكوى ومنها ما يتعلق بالمشتكي لأنه سوف يفقد جزء من ضماناته المتوفرة في قانون المرافعات المدنية، لأنه لا يستطيع ان يطعن بالقرار امام محكمة الاستئناف او الطعن به امام محكمة التمييز اذا كانت الدعوى تنظر من محكمة الجنح، والحال مثله بالنسبة للمدان،
3. ان تجديد القوة التنفيذية هو اتجاه قضائي قررته محكمة التمييز لتدارك ضياع الحقوق الثابتة بموجب الاحكام القضائية المكتسبة للدرجة القطعية، وان استقرارها كان على أساس ان تنظر دعوى تجديد القوة التنفيذية هي المحكمة ذاتها التي كانت قد أصدرت الحكم فاقد القوة التنفيذية، فاذا كانت محكمة أحوال شخصية فانها هي من تنظر في الدعوى واذا كانت محكمة بداءة هي التي تنظر في الدعوى، لكن وجدنا ان الاتجاه الأخير في إقرار الحكم محل القراءة قد اختلف حيث منح محكمة أخرى غير التي أصدرته بان تنظر في دعوى التجديد،
4. عللت محكمة التمييز هذا الاتجاه بان محكمة البداءة هي من تنظر بحكم ولايتها العامة ، لان قانون أصول المحاكمات الجزائية لم يتضمن أي نص قانوني ينظم عملها، وارى ان هذا التعليل ليس في محله لان تجديد القوة التنفيذية لم يرد في أي نص قانوني وانما اجتهاد قضائي اصبح عرفاً تتبعه المحاكم على مختلف درجاتها،
5. لكن يمكن القول بان محكمة البداءة مختصة بالفصل بجميع النزاعات عملا بأحكام المادة (29) من قانون المرافعات المدنية التي جاء فيها الاتي (تسري ولاية المحاكم المدنية على جميع الاشخاص الطبيعية والمعنوية بما في ذلك الحكومة وتختص بالفصل في كافة المنازعات الا ما استثنى بنص خاص)، طالما لا يوجد نص صريح يمنح أي محكمة أخرى هذا الاختصاص،
6. كما لاحظت ان محكمة التمييز الاتحادية قد اشارت الى مبدأ، قد يشكل فسحة لأطراف الخصومة بانتقاص حق الاخر، حيث اشارت الى (ان الاجراءات المتبعة في الفصل في الدعوى المدنية يكون وفق الاجراءات المقررة في قانون اصول المحاكمات الجزائية وليس وفق قانون المرافعات المدنية أو قواعد الاثبات المنصوص عليه وفق قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل لصراحة نص المادة (20) الأصولية)، وارى ان هذا القول يتنافى وصراحة المادة (20) أصولية ، لأنها اقتصرت على القواعد الإجرائية أي المتعلقة بكيفية الترافع وإصدار الحكم وطرق الطعن، اما قواعد الاثبات فأنها تنقسم قواعد الى قواعد موضوعية تتعلق بعبء الاثبات ومحل الاثبات وطرق الاثبات، ومثال ذلك اذا دفع المتهم بانه سدد مبلغ الشيك، وانكر المشتكي ذلك الدفع فان المتهم مكلف بالإثبات ببينة تحريرية، لان قيمة الشيك اكثر من خمسة الاف دينار وعلى وفق احكام المادة (77/اولاً) من قانون الاثبات، هذه قاعدة موضوعية وليس إجرائية وليس على محكمة الجنح ان تتجاهلها وانما لابد من مراعاتها، اما القواعد اجرائية هي التي تتعلق بإجراءات الاثبات، مثل دعوة الشاهد ووقت اثبات الدليل وعمر الشاهد وسواها،
7. لوحظ في القرار أعلاه خطأ لربما يكون طباعي، بانها استندت الى المادة (35) مرافعات لإسناد قولها بان محكمة البداءة لها الولاية العامة، والصحيح هو المادة (29) من قانون المرافعات المدنية.
ثالثاً: الخلاصة: من خلال ما تقدم ولان دعوى تجديد القوة التنفيذية هي من بناة أفكار القضاء وانها اجتهاد اصبح بحكم العرف القاعدة القانونية الملزمة، ولسعة الاجتهاد فيه وتعدد الآراء والقراءات المختلفة للنصوص القانونية التي تعالج هذه الدعوى، ولان الحال يعبر عن فوضى تشريعية، لا ضابط لها سوى ما يراه القاضي، وعلى أي وجه كان، فاصبح من الضروري معالجتها بتشريع ضابط لها ينظم جميع احتمالاتها، من اجل وحد الحكم القضائي ومعرفة الاجتهاد الصحيح الذي تبنى على مقاربات المختص في بيان الحق وتحديد مركز صاحبه.
قاضٍ متقاعد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!