مقالات دينية

البدع والهرطقات في القرون الأولى للمسيحية / ج 4

الكاتب: وردااسحاق
البدع والهرطقات في القرون ألأولى للمسيحية ج4
الغنوصية:
نافع البرواري
مقدمة:
“ياجميع موقدي النّار. الدائرين حول شرارها. ستدخلون في لهيب ناركم وفي الشَّرر الذي أضرمتموهُ ” اشعيا 50″11″.
كثيرون يسيرون في نور ذواتهم , ورفضوا نور المسيح . يقول احد ألآباء : يوحنا البشير استعار بالنور أكثر رمز في المسيحية  ، ونحن لا نستطيع معرفة انجيل يوحنا اذا لم نعرف “الغنوصية”، وهذا هو الحُكم “انَّ النور جاء الى العالم ، فأحبَّ الناس الظلام بدلا من النور لأنّهم يعملون الشر”يوحنا 19:3″. كثيرون راحوا يفلسفون رسالة المسيح بحجة أنّ العقل هو المرجع في تفسير الوحي . انّ ألأكتفاء الذاتي هي عذاب للنفوس التي تريد ألأنفصال من نور المسيح , لتقول أنّنا نستطيع أن نكون مشاعل نور , ونصبح مثل المسيح دون المسيح , وهذا هو باختصار فكر الغنوصية”العارفون للأسرار”. فعندما يضع ألأنسان ثقته في ذكائه أو علمه أو معرفته أو مظهره أو انجازاته ,عوضا عن وضعها في الله , فهو قد جازف بالورقة الخاسرة , فيصل أخيرا للعذاب  عندما تذوي هذه القوى. يقول بولس الرسول”….واليونانيّون يبحثون عن الحكمة(الحكمة البشرية) ، فنحن ننادي بالمسيح مصلوبا, وهذا عقبةٌ لليهود وحماقٌة في نظر الوثنيين “1كورنثوس 22:1”.
يقول الأب جورج رحمة في مقدمة كتابه(ايريناوس اسقف مدينة ليون):
“حاولت الغنوصية أن تخلق تيّارا مسيحيا جديدا ، موافقا للعصر كما يدَّعي أتباعها , هو مزيج من أساطير الشرق الدينية ومن المبادئ الخلقيّة للفلسفة اليونانية. وبالطبع ، في تيّار كهذا ، لم يبقى دور للوحي ألألهي في المعرفة اللأهوتية ، وحتى في ألأيمان بأنجيل المسيح ، والكمال ، الذي كان غاية الغنوصيين ألأساسية ، لا يمكن التوصل اليه في نظرهم الاّ بالمعرفة العقلية كطريق اخير الى معرفة الله ، الأمر الذي دفع بالكثيرين منهم الى تشويه حقيقة الوحي بالذات ومحاربة الكنيسة من خلال محاربة تعاليمها المبنية على هذا الوحي ، ثم انّ الغنوصية ، التي كانت منتشرة بين الطبقة المثقفة من المسيحيين ، راحت تبشِّر  باله صالح وبخالق للعالم شرّير، ألأمر الذي جعلها تعلن أنّ هناك الهين  في صراع دائم ، هما اله الخير واله الشر. وللخلاص من سيطرة اله الشر ، فانَّ المعرفة وحدها هي المحرّر ، لذلك توجّب على كلِّ غنوصي العودة الى العقل ، محتفظا بالأسرار ضمن سريّة كاملة ، لأنَّ هذه ألأسرار لا يفهمها الاّ قلة من البشر أعطيت لها هذه الموهبة ، ومنها أنَّ يسوع ألأنسان هو الذي صلب وليس المسيح ، وبالتالي فانَّ القيامة لا تطال الجسد الذي تعرّض للفساد ، بل النفس”.
 
ماهو مفهوم الغنوصية؟
الغنوصـية كلمة يونانية تعني ’المعرفـة‘، اصطلح الدارسون على استخدامها لوصف عدد من الحركات الدينية في فترة سيطرة الإمبراطورية الرومانية، كثيرٌ منها لا صلة له على الإطلاق بالمسيحية. وهي تيار ومذهب فكري مُعقّد
ذو فلسفات باطنية ، بذل جهده لاكتساب المعارف الفلسفية الوثنية، مُهملاً فكرة الوحي الإلهي كأساس لكل معرفة لاهوتية، ومُفسّراً إياها تفسيراً مجازياً خالطاً بين النظريات الفلسفية الوثنية مع العناصر الذي نقلها مع العبادات الشرقية، مكوِّناً بذلك نظريات وفلسفات غريبة(1)
فالغنوصية تعني ألمعرفة أو العلوم الخاصة بألأمورالروحية أو ألألهية ، وهي خليط من ألأفكار الفلسفية الهلينية(اليونانية) والفارسية(الزرادشتية)، والكلدانية ، واليهودية والمسيحية
والغنوصيين ” أي العارفين بالأسرار”, هم الذين يعتمدون على العقل والأسرار الباطنية والأرواح السفلى والذين أدعو أنَّ الخلاص يأتي عن طريق المعرفة التأملية وعن طريق الحدس الخاص بألأصغاء, وممارسة السحر وليس عن طريق ألأيمان  بيسوع المسيح والوحي ألألهي.فدعاة الغنوصية نادوا باستخدام العقل للتمييز بينهم وبين أصحاب المعارف ألأخرى ، وبنوع خاص المعرفة الدينية المستندة الى الوحي ، معتبرين أنَّ ألأيمان ألأعمى بالتعاليم السماوية لاقيمة له، وخصوصا ألأيمان بتعاليم المسيح في ألأنجيل . فالعقل هو المرجع ، وكُلِّ تعليم يجب أن يخضع لحكم هذا العقل ، والاّ فلا أدراك لجوهرالحقائق التي أتى بها المسيح وألأنبياء من قبله ……آباء الكنيسة أعتبروا الغنوصية بدعة دخيلة على الكنيسة من العالم الوثني الذي أراد أن يضرب المسيحية في مهدها(راجع رسالتي الرسول بولس الى الكورنثيين والكولوسيين) . فالتفسير العقلي لمعطيات ألأيمان لم ترفضه الكنيسة طوال تاريخها ، شرط أن يكون متوافقا مع معطيات ألوحي ألألهي . لكن آباء الكنيسة وعوا ، منذ البداية أخطار الغنوصية الملحدة  التي تمتزج أفكارها بالمعتقدات الوثنية، خصوصا تلك المستمدة من الفلسفة الأغريقية ، وحذَّروا منها ، وحاربوها في جميع مؤلفاتهم الدفاعية عن العقيدة ألأنجيلية الحقيقية (2) .
العهد الجديد ودعاة الغنوصية (3):
 من خلال العهد الجديد وخاصة انجيل البشير يوحنا وأعمال الرسل ورسائل بولص الرسول ورسائل الرسل الآخرين, وسفر الرؤية , نكتشف أنّ الغنوصية ظهرت منذ القرن الأول الميلادي لا بل هي كانت موجودة قبل المسيحية(كما ذكرنا) ، ومنتشرة في الشرق ولها جذور زرادشتية وكذلك  كانت منتشرة في الغرب ومتأثرة  بالفلسفات اليونانية.
يزعم المعلمون الدجالون أنّ لديهم معرفة سريّة تعطيهم سلطانا, وانّ “معرفتهم” بالله خفية وغامضة وابعد من فهم البشر,وبعض هذه البدع يزعمون  أنَّ لديهم معرفة روحية سريّة ، كان الغنوصيين يقاومون أثنين من ألأساسات الرئيسية للمسيحية ، هما تجسد المسيح وألأخلاق المسيحية ( راجع  يهوذا 10،1:1)
وهناك رأيي اخر لهؤلاء المعلمين عن يسوع المسيح  بأنّه لم ياتي الى ألأرض بجسم بشري “2يوحنا7:1″. لقد كانوا يعتقدون أنَّ يسوع لايمكن أن يكون الها وانسانا في نفس الوقت.
وكانت هناك عدة أفكار خاطئة عن المسيح عند الكولوسيين ويدحضها الرسول بولس  فيقول عن المسيح:” هو صورة الله الذي لايُرى وبكرُ الخلائق كُلّها . به خَلَقَ الله  كُلِّ شيئ في السماوات وفي ألأرض ما يُرى وما لا يُرى…”كولوسي16،15:1″.
1-فقد كانوا (الكولوسيين) يؤمنون أنَّ المادة شر، ولذلك قالوا انّ الله لايمكن أن يكون قد جاء الى ألأرض في جسد بشري حقيقي ، ولكن الرسول بولس يقول لهم ان المسيح هو الصورة الكاملة لله، فهو الله ذاته ، ومع ذلك مات على الصليب كانسان.
2-كانوا يعتقدون أنّ الله لم يخلق هذا العالم لأنَّه لايمكن أن يخلق الشر، ولكن الرسول بولس يقول أنَّ يسوع المسيح ، هو الله الذي ظهر في الجسد ، هو خالق السماوات والأرض.
3-كانوا يقولون انّ المسيح ليس هو أبن الله الفريد ، بل هو أحد الوسطاء الكثيرين بين الله والناس ، ولكن الرسول بولس يوضّح لهم أن المسيح كائن قبل كل شي وأنَّه بكر الذين سيقومون من ألأموات.
4-رفضوا أن يروا في المسيح مصدر الخلاص ، مصرّين على انَّ الناس يُمكنهم أن يعرفوا الله عن طريق معرفة سرّية خاصة ، ولكن الرسول يؤكِّد لهم أنَّه لايمكن لأنسان أن يخلص الاّ بالمسيح وحده لا سواه. لأنَّ الله كشف لنا بسر التجسُّد طبيعته وصفاته وقال”هذا هو ابني الحبيب له تسمعون”. فالمسيح ليس معادلا لله فحسب بل هو الله (فيلبي 6:2)  ، وهو لايعكس صورة الله فحسب ، ولكنه يُعلن الله لنا (1يوحنا  18:1) وقد جاء من السماء وليس من تراب ألأرض(1كورنثوس 47:15)، وهو رب على الجميع (روميا  5:9) (رؤيا  5:1) ، وهو كامل القداسة (عبرانيين 7: 28-26 ) وله سلطان ليدين العالم(روميا 16:2) ) ، ولذلك فهو أسمى من كُلِّ الخليقة بما فيها العالم الروحي . فيجب علينا ، مثل المؤمنين في كولوسي ، أن نؤمن بالوهية يسوع المسيح والاّ يصبح ايماننا ايمانا أجوف ، بلا هدف ولا معنى ، هذا الحق الرئيسي في المسيحية.
لقد ركَّز الرسول بولس على أنَّ ألأيمان في المسيحية يقوم على ثلاثة أُسس رئيسية هي العناصر الهامة في المسيحية وهي: 1-ألأيمان 2-ألرجاء 3-المحبة , ولم يذكر المعرفة(العقل) وذلك بسبب تلك البدعة (الغنوصية) ، وهذا لا يعني أن العقل ليس مهما في ألأيمان في المسيحية بل هو أساسي عندما يكون العقل في خدمة ألأيمان. فقد كان الرسول بولس هو نفسه فيلسوفا موهوبا ، لذا فهو لايدين الفلسفة عموما ، ولكنه يدينُ التعليم الذي يعتقد أنَّ  ألأنسانية  هو الجواب , بينما الرسول  يؤمن انَّ المسيح هو الجواب  لحياتنا.
ورد في أنجيل توما المنحول(أبو كريفا) ، وهو كتاب غير قانوني كتبه أحد الغنوصيين ، أدعى كاتب هذا الأنجيل المنحول ,نقلا عن المسيح قوله:”انني أكشف أسراري لهؤلاء الذين يستحقون معرفة أسراري”
فالمعرفة بنظر الغنوصيين هي فقط للنخبة (الأقلية). بينما في الكتاب المقدس نقرأ ان المسيح كشف أسرار ملكوت الله للناس البسطاء, بقوة الروح القدس, والدليل التلاميذ , الذين كانوا يعملون المعجزات باسم الرب يسوع المسيح وكانوا مساقين بقوة الروح القدس ولم يكونوا فلاسفة او متبحرين في المعرفة. يقول الرب يسوع المسيح لتلاميذه:” أنتم أُعطيتمُ أن تعرفوا أسرار ملكوت السَّماوات ، وأمّا هم(الغير المؤمنين) فما أُعطوا” متى11:13″
وهكذا كان الرسول بولس  يكتب ضد أيِّ فلسفة في الحياة لاتقوم الاّ على أفكار البشر(العقل) وخبراتهم(العلوم والمعارف) ، والسبيل لمقاومة البدع ، ليس هو أهمال استخدام العقل والأنسحاب ، بل التركيز على أقوال المسيح كمصدر أساسي للأيمان.
كان الكثيرون من المعلمين الكذبة في أيّأم يوحنا البشير يعلِّمون بصلاح الروح وبفساد المادة وشرِّها(وهو فكر يوناني يستند الى الفلسفات اليونانية القديمة التي تقول بسمو الروح ونجاسة المادة(الجسد) وشرِّها. وعلى هذه الفكرة أستند هؤلاء المعلمين الكذبة لمحاولتهم أقناع الناس أنّ يسوع لايمكن أن يكون الها وانسانا في نفس الوقت ، وبعض الغنوصيين ينكرون قيامة الأجساد لنفس السبب السابق ،فكانوا يعتقدون أنّه عندما يصبح شخصا مسيحيا  فأنّهُ يولد ولادة روحية , وهذه هي القيامة لاغير”2تيموثاوس 18:2″.

وسنغوض أكثر تفصيلا في فكر وعقيدة الغنوصية والرد عليها من قبل اباء الكنيسة منذ القرون الأولى للمسيحية ، في مقالاتنا القادمة انشاء الله

المصادر
——–
(1)الموسوعة الحرة –ويكيبيديا-
(2)(راجع الكنيسة الكاثوليكية
والبدع للأب جورج رحمة) .
 
(3) الكتاب المقدس 
..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!