مقالات عامة

وفاءاً للشهيدة تماضر يوسف متي ديشا

الكاتب: كمال يلدو
كمال يلدو: وفاءاً للشهيدة تماضر يوسف متي ديشا
 
كان ممكنا أن تكون بيننا اليوم، موظفة أو مهندسة أو مديرة قسم أو عالمة. كان ممكنا أن تكون زوجة، لها بنات وبنين تلاعبهم وتداعبهم، تمشط شعرهم وتشتري لهم اللعب والملابس. وكان ممكنا ان تكون احدى كادرات رابطة المرأة العراقية او عضوة في احدى منظمات المجتمع المدني، او ان تكون خارج البلد وعاملة في احدى التنظيمات الوطنية . كان ممكن للكثير من هذه الأحلام ان تكون حقيقة واقعة لو فهم وأيقن البعث بأن بناء الدولة يحتاج لتكاتف الكل وليس للأرهاب، يحتاج اي طاقة ممكنة وليس الق*ت*ل والتشريد، لو حقا كان لتلك القيادات الحكمة بدل الغرور والعنجهية التي اخذت البلاد والشعب ، وخيرة المناضلات والمناضلين الى المجهول، الى المقابر الجماعية، الى مسلسل الحزن والألم، فيما كان التأريخ بالمرصاد لصدام حسين وزبانيته ومرتزقته وكل المتزلفين، فكتب الزمن سطورهم كأبشع مجرمين مروا على العراق والمنطقة في الزمن الحديث.
***
ولدت الشهيدة تماضر يوسف متي ديشا في مدينة ألقوش التابعة لمحافظة نينوى في ( محلة سينا) عام ١٩٦٠، وبعد ثلاث سنوات رحلت عائلتها الى العاصمة بغداد، فدرست في مدارسها حتى انهت الثانوية وقُبلت في (معهد التكنلوجيا) عام ١٩٧٨ .
ـ تقول عنها أختها الكبيرة (هـديّة): كانت تماضر انسانة لطيفة، ومع انسيابيتها وسرعة منحها الثقة للآخرين، الا انها كانت حذرة ايضا، فقد كانت ذكية . وفي آخر ايامها سكنت في منطقة (القصر الأبيض) وعلى مقربة من دائرة (الأمن العامة) وكنتُ دائما احذرها وأتوخى فيها اليقظة، وكانت تجيبني : بأني منتبهة. إذ كانت تستقبل العديد من صديقاتها، في الزمن الأسود السئ ١٩٧٩ ـ ١٩٨٠. لقد تعلقت بالسياسة مقتفية أثر شقيقها الأكبر (الشهيد خالد يوسف) والذي كان كادرا طلابياً ووطنياً كبيرا. مع اني لم اتعاطى السياسة إلا اني كنت اتعاطف معهما، ولما لا! فالأهداف التي كانوا يناضلون من اجلها كانت انسانية، لكنهم كانوا متواجدين ويسيرون في غابة مليئة بالضباع والذئاب والكلاب المسعورة، ولو كان غير ذلك ، لكانت النتيجة مخالفة ايضا. فهم لم يكتفوا بأعتقالهم وق*ت*لهم ومحو اي اثر لهم، بل دمروا الشعب والوطن، وها نحن اليوم نعيش نتائج تلك الحقبة المظلمة من تأريخ العراق.
كانت هناك الكثير من المواقف التي جمعتني والشهيدة، ولعل واحدا منها كان تقديم خدماتها لي عندما اكون في العمل فدائما كانت تقول : ( لا تهتمي بشئ، قومي انت بقضاء مهامك، وأتركي البيت والطبخ عليّ) ، اما
اقسى الذكريات فكانت في اليوم الذي سبق اعتقالها، إذ كنّا مدعوين لحفل زفاف، وبعدما اقنعتها بضرورة الأستراحة و تبديل الجو، قبلت بمرافقتي، وقمت بعمل أجمل تسريحة لشعرها ، وقضينا وقتا حلوا، وحينما أزف اليوم التالي وذهبت للعمل، لم تعد تماضر، لم تعد لليوم، ولا أعرف اين هي الآن !
ـ اما شقيقتها (سعاد) فتقول: بالحقيقة ان ألماً وحسرة كبيرين يعتصران قلبي كلما مرّ ذكر هذه (العصفورة) عل مسامعي. لقد غادرتُ العراق في وقت كانت هي بنت يافعة، وكل ما سمعتُ عنها لاحقاً كان القليل، الا ان حادثة اعتقالها وما آل اليه مصيرها المجهول ظل يؤرقني ليل نهار. في عام ١٩٨٣ قرأت اسمها لأول مرة من ضمن قوائم المعتقلين الذين طالب (الحزب الشيوعي العراقي) بأطلاق سراحهم، لكن الخبر المدمر كان في عام ٢٠٠٣ بعد سقوط النظام الدكتاتوري حينما نشر الحزب قائمة بأسماء الشهداء التي حصل عليها من ملفات الأمن العامة، وكان من بينهم أخي الغالي (خالد) وأختي الحبيبة (تماضر)، كان ذاك خنجرا مسموماً أضَفتهُ لسني العذاب والألم والغربة. كان وقعهُ ثقيلا على باقي افراد أسرتي ووالدتي بالذات وكل اهلي، كان عبئاً ثقيلا ومؤلماً، لكننا تجاوزناه من اجل غلاوة الوطن.
ومع كل التراجيديا التي تصاحب هذا الخبر والحدث، لكني أفتخر بها كثيرا، افتخر بأنتمائها وصبرها وصمودها، افتخر بشهادتها من اجل الشعب والوطن والفكر. كيف لا، وهي شقيقة البطل خالد، وأبنة مدينة (القوش) الرائعة والمشهود لها بصمود رجالاتها وقادتها الوطنيين الأشاوس وتضحياتهم الوطنية الغالية.
ولكل ما سمعت عنها، فقد كانت (رفعة للراس)، ولعلي من المحظوظات من بين عائلتي، بأن يكون لي بنتان غاليتان ( تانيا وأماندا) وكلتاهما يحملان وجها صبوحاً وباسماً وبشوشاً مثل تماضر، لابل انه وجه تماضر بالتمام والكمال، فكم انا محظوظة إذاً !
ـ اما إبن عمّها د. كريم كَردي ديشا فيقول عنها وعن تلك الأيام: سمعتُ من العائلة بأنهم اعتقلوها من (المكان) الذي كانت تقوم فيه بالتطبيق لعملها (اواخر عام ١٩٨٠) ولم نسمع عنها الكثير، وبالحقيقة ان الأوضاع لم تكن لتسمح حتى بالسؤال او البحث، فقد كان النظام قد وصل لأعلى درجات الوحشية بالتعامل مع من يشك بولائهم ، وسمعنا بعدها بالهمجية والمقابر الجماعية والق*ت*ل، لكني لم أتخيل يوما أن تضم تلك القبور اناساً أبرياء، وملائكة كالغالية (تماضر) التي لم تتجاوز العشرين عاما حينما جرى اعتقالها وتغييبها. الرحمة على روحها الطاهرة، والعار لق*ت*لتها وق*ت*لة رفاقها ورفيقاتها.
** لقد رثاها كل من عرفها وأحبها، ولعل من بينهم استاذها المدرس هرمز رمـّو والذي كتب عنها قصيدة مؤثرة .
 
تمضي الحياة، وتسقط الدكتاتورية وتنفضح (بعضا) من جرائمها التي اقترفتها بحق الشعب، ويأتي نظام آخر كنّا نأمل أن يكون طاويا لصفحة الأرهاب والقمع، لكن وللأسف، أصبح سببا في تولي طبقة من الفاسدين والمزورين والسراق مقاليد الأمور في البلد، هذا الوطن الغالي الذي يأخذوه نحو الهاوية ، بالفقر والج#ريم*ة والحروب والق*ت*ل ودخول كل مجرمي العالم الى حدوده والعبث بكل مكوناته وقومياته.
ولعل من حق أيُّ عاقل أن يتسائل: كيف يكون الأعتقال والتعذيب والأعدام وأخفاء الجثث ومحاربة العوائل ثمناً لأعتناق فكر آخر، كيف يكون ضريبة لحمل رأي آخر؟ فتماضر حلمت يوما، مثلها مثل الآلاف من رفيقاتها ورفاقها بعالم جميل، بوطن يرفل بالحرية وبشعب تزهو بين جنباته السعادة، نعم انها حملت فكرا انسانيا وضاءاً ومسالما وداعيا الى لم كل الجهود للأرتقاء بالأنسان العراقي، ايا كان دينه او مذهبه او قوميته، نحو غد الأنسانية الرائع، اما من مهازل الزمن ان تنتهي بتلك الطريقة المشينة، وأن لا يعرف اهلها اي شئ عنها ولا حتى عن ثراها. انها لم تلبس يوما حزاماً ناسفا، ولا قادت سيارة مفخخة ولا زرعت عبوة ناسفة، ولا سرقت اموال الشعب ولا زوّرت شهادتها، فكيف اقتنع الجلاد، ومن كان معه بعدالة (حكمهم) المشين عليها؟
ان المنظر مؤلم ومحزن، فالعوائل التي قدمت القرابين لهذا الوطن، تأمل وتطالب بأن لا تذهب دماء ابنائها وبناتها هدرا، وعملة رخيصة لتجار الساسة والدين!
** الذكر الطيب للشهيدة الغالية البطلة تماضر يوسف متى وشقيقها البطل خالد
** الصبر والسلوان لعائلتها وأحبتها وكل من عرفها انسانة رائعة
**العار للق*ت*لة، وأمل بأن يأتي اليوم الذي يحاسبون به على جرائمهم وأن لا يفلتوا من العقاب حتى ولو بعد حين.
 
كمال يلدو
آيار ٢٠١٥
 

..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!