الحوار الهاديء

هكذا أفسر مغادرة غبطة البطريرك مار ساكو مع وفد حكومي الى بروكسل

الكاتب: الدكتور عبدالله مرقس رابي
د. عبدالله مرقس رابي
باحث أكاديمي
نشر الكاتب القديرالمهتم بشؤون شعبنا الكلداني والاشوري والسرياني السياسية (أنطوان الصنا) مقالاً بعنوان “مدلولات مغادرة غبطة مار ساكو مع وفد حكومي عراقي رفيع المستوى الى بروكسل” . وذلك في ضوء الخبر المنشور في موقع البطريركية الكلدانية عن مغادرة البطريرك مار ساكو الى بروكسل مع وفد حكومي رفيع المستوى لعقد لقاءات مع برلمان الاتحاد الاوربي ومنظمات أخرى .
وقد عبر الكاتب عن وجهة نظره وتحليله للخبر لمدلولات هذا الحدث كما جاءت في مقاله، وهذا من حقه الطبيعي والسليم من منظور حرية الرأي والفكر. أنما أفسر وأفهم المدلولات لهذا الحدث بأسلوب ونظرة لا أتفق مع أغلب ما جاء به الكاتب، سأوضح ذلك باختصار بعيداً عن التفاصيل التاريخية والمكررة في الصحافة اليومية كما يلي:
أولا: وصف الكاتب الحكومة العراقية بالفاسدة ولا تحترم الحد الادنى لنيل شعبنا حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، داعما ذلك بأمثلة واقعية وأبرزها عدم شمول شعبنا بوزارة في الحكومة، والقوانين المجحفة الصادرة بحق المسيحيين. أتفق وكما يتفق جميع المراقبين والمتابعين للوضع العراقي معكم على أن الحكومات التي تشكلت منذ 2003 هي فاسدة تماماً، ومما هو جدير بالذكر أن هذا الوصف أو الموقف ليس للمسيحيين فحسب، أنما هو موقف المسلمين من السنة والشيعة والايزيديين والصابئة وعلى نفس القياس أثنياً أيضاً.
هناك أعتراضات وأحتجاجات سلمية على الارض أو في الصحافة على القرارات المجحفة والوضع المتردي في ظل هذه الحكومات، وغبطة البطريرك مار ساكو هو احد المحتجين والمعترضين في كل المناسبات لتلك القرارات المجحفة بحق شعبنا المسيحي والشعب العراقي عامة. فهناك أمثلة متعدد عبّر عن سخطه واحتجاجه لاصدار مثل هذه القرارات، وبل أكثر مما يعبر مسؤولي وممثلي شعبنا المدنيين. وهذا الموقف الصريح المعلن لغبطته، لايقوده للانقطاع وعدم المشاركة كمواطن عراقي له مكانته وتاثيره في مجريات الاحداث قياساً للآخرين. أذ ان مقاطعة مار ساكو رئيس أكبر كنيسة في العراق للحكومة بالمفهوم الذي يراه البعض سيكون له تداعيات وخيمة جداً على شعبنا بكل أثنياته.
ثانيا: قولكم (لماذا هذا التنسيق والتحشيد لحكومة الفساد؟) ولا بد ان نتساءل لماذا يتعامل أحزاب شعبنا وممثليه في البرلمان مع الحكومة الفاسدة ؟ ولماذا نتعامل معهم فهم جزء من هذه الحكومة؟علماً أن تع-اط*ي البطريرك مار ساكو مع الحكومة يختلف عن تع-اط*ي السياسيين، كما سيتضح من فقرة لاحقة.
ثالثاً: ينطلق غبطة البطريرك مار ساكو في كل المناسبات من المفهوم الوطني والانتماء الوطني والتعايش السلمي، وانشاء دولة ودستور وضعي يضمن حقوق الجميع بدون استثناء، وبنفسه يعترض على
المحاصصة الاثنية والدينية والمذهبية. فهو ضد فكرة المرجعيات الدينية لوضع سياسة البلد، انما طالما لابديل ولا تغيير في الاسس المعتمدة لصياغة القوانين في ظل الاحزاب الدينية القائمة. فغبطته لا يمكنه التنصل من المسؤولية تجاه المسيحيين والشعب العراقي عموماً.
رابعاً: التأكيد على أنغماس الكنيسة الكلدانية في عهد البطريرك مار ساكو في السياسة، هي فكرة غير واضحة وليست كما يًشاع، فالمسالة تعتمد على طبيعة النظام السياسي أو نظام الدولة الذي تعاصره الكنيسة أو البطريرك. لو راجعنا تاريخ الكنيسة المشرقية التي تعد الكنيسة الكلدانية جزءاً منها، يتبين بوضوح أن تدخل البطريرك مع الحكومة ناجم عن طبيعة الاساليب التي يتبعها نظام الحكم في تع-اط*يه مع المسيحيين، فعليه نستشف منذ ظهور المسيحية في بلاد النهرين من عهد الساسانيين مرورا بالدولة العباسية والعثمانية وحتى العهد الجمهوري أن الحكومات تخاطب وتتعامل مع الرؤساء الروحانيين، والامثلة على ذلك متعددة.
ليس أستشهاد مار شمعون برصباعي في القرن الرابع الميلادي الا بسبب ممانعته لزيادة الضرائب التي فرضتها الدولة على المسيحيين، وكما أن استشهاد ماربنيامين بطريرك الكنيسة الاشورية عام 1918 على يد سمكو الا بسبب دفاعه عن المؤمنين لحمايتهم واستقرارهم (وقد تفضلت بكاتبة تاريخية مفصلة عن اسباب استشهاده). وكذلك تعد عملية نفي البطريرك مار ايشاي عام 1933 الى خارج البلاد ايضاً بسبب عدم الخضوع لشروط الدولة العراقية آنذاك. ناهيك عن الدور الكبير الذي لعبه البطريرك مار يوسف عمانوئيل بطريرك الكلدان في تاسيس الدولة العراقية وفي قضية الموصل عام1921 وتم اختياره في مجلس الاعيان من قبل الملك ،وجدير بالذكر منع أنخراط الشباب الكلدان في الجيش الليفي، الا أنه بعد تدخل الوجهاء سمح بشرط أن يتحمل كل فرد مسؤولية انخراطه، وأُختيرفي مجلس الاعيان بعده البطريرك مار يوسف السابع غنيمة 1951 حتى وفاته.
وأما في العهد الجمهوري تراجع دور المسؤولين الروحانيين في الدولة بسبب طبيعة النظام وتع-اط*يه على اساس الانتماء السياسي وليس الديني والمذهبي والاثني، وبالرغم من ذلك فمعروف دور البطريرك ماربولس شيخو في منعه لتدريس القرآن للطلبة المسيحيين، ودور البطريرك مار روفائيل بيداويذ في الحصول على المساعدات الانسانية للعراق دولياً، ورجع دور البطاركة الى سابق عهده مع قيام حكومة دينية مذهبية تفضل التع-اط*ي مع المسؤولين الروحانيين منذ 2003، وعليه كان دور البطريرك مار عمانوئيل دلي في المسائل القومية وتقديم التوصيات واضحاً بالرغم من تقدمه في السن. وجاء دور البطريرك مار لويس المعروف للجميع دولياً واقليمياً ومحلياً، وهكذا نرى في ايامنا هذه اللقاءات والزيارات والتوصيات التي يقدمها غبطة البطريرك مار كوركيس صليوا بطريرك الكنيسة المشرقية الاشورية، ولقاءات وتدخلات غبطة البطريرك مار أغناطيوس افرام الثاني بطريرك الكنيسة الانطاكية السريانية الارثودكسية ومثله غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث للسريان الكاثوليك ولاتزال نشاطاتهم السياسية تتصدر الاخبار في الصحافة، وعليه ليس من المعقول والدقة القول: انغمست الكنيسة الكلدانية في السياسة في عهد مار ساكو فهنا نفقد الموضوعية في التحليل .
خامسا:ً أنطلاقاً من مفاهيم علم الاجتماع الديني الذي يدرس العلاقة بين المؤسسة الدينية والمجتمع بما فيه المؤسسة الحكومية، هناك فرق بين عمليتين أو سلوكين للروحانيين أو رجال الدين هما، التدخل في السياسة ومسالة التع-اط*ي مع الحكومة.
التدخل بالسياسة بوضوح هي عملية مشاركة رجل الدين في الاحزاب السياسية ويتبنى ايديولوجية الحزب الذي ينتمي اليه، ويطمح في السلطة السياسية ليترأس حزباً سياسياً أو تحقيق منصباً حكومياً في الدولة، وعليه يتصرف كما يتصرف السياسي من سلوكيات المبررة لطبيعة عمله السياسي مثل الكذب، والخداع، والمراوغة، والصراع على السلطة، وتاييد الحرب، والنفاق، وتع-اط*ي الرشوة وغيرها من الصفات التي يتميز السياسي عن غيره.
أما التع-اط*ي مع الحكومة، فهي عملية بناء علاقة ايجابية فنية تستند على أبداء النصائح والمقترحات وأبداء الاراء وتقديم الاستشارات في الاحداث والاعمال الحكومية المختلفة بدون ان تكتسب صفة الالزام، بل تعتمد على الحكومة في الاستجابة لها، فحاله مثل المواطن العادي مع الفرق في المكانة القيادية التي يتمتع بها رجل الدين لمجموعة ما في المجتمع.
أين نضع تصرفات وانشطة البطريرك مار ساكو وغيره من هاتين العمليتين؟ طالما لم ينتم مار ساكو الى حزب سياسي ولا ينادي لتأسيس حزب لكي يترأسه ، وأنه يتعامل مع كل الاحزاب السياسية من مسافة واحدة ومفاهيم واحدة، وأن ما يقدمه ليس ملزماً للأخذ به، انما يقتصر على تقديم التوصيات والنصائح واسناد الدولة في الشؤون الانسانية وأيصال رسالة الى الرأي العام الشعبي والرسمي أقليمياً ودولياً وترسيخ روح المواطنة والانتماء الوطني بدلا من الطائفية والمذهبية، كل هذه الانشطة تجعلنا لوضع غبطته والاخرين من المسؤولين الروحانيين للكنائس الاخرى ضمن أطار التع-اط*ي مع الحكومات وليس ضمن أطار التدخل السياسي. وعليه أداء مثل هذا الدور لا يفسد رسالة الكنيسة او رجل الدين، بل بالعكس فهي جزءأً أساسياً من دور الكنيسة في المجتمع طالما تحقق المصلحة العامة. فالاقتراح الذي يقدمه عن التسمية مثلا ليس ملزماً على الاحزاب السياسية الاخذ به أنما مجرد رأي يقدمه أحساساً منه في توحيد التسمية ليعالج العديد من الامور ويحقق وحدة القرار لهم والتعاون والتضامن بينهم، فهو يجمع ولا يفرق ولم يؤكد يوماً ما على الغاء الاخر وأنما يؤكد على أننا شعب واحد ونحن بحاجة الى التماسك والتعاون وأحترام هوية بعضنا البعض ونعمل من أجل الكل. فمن حق الكنيسة أن تسعى لخلق حياة أجتماعية وأقتصادية الى جانب الحياة الروحية للمؤمنين.
سادساً: ما الذي يدفع بغبطة البطريرك مار ساكو والبطاركة الاخرين لهذا التع-اط*ي باستمرار؟
ذكرت آنفاً أن تع-اط*ي رجال الدين مع الحكومات يعتمد على طبيعة النظام السياسي والحكومي، ففي الماضي قبل ظهور الاحزاب السياسية وفي ظل الامبراطوريات والنظام الملكي لم نجد خياراً امام الحكومات الا التع-اط*ي مع المسؤولين الروحانيين ورؤساء العشائر، وفي ظل الانظمة العلمانية الديمقراطية تنفي الحاجة وبل يُستبعد تع-اط*ي رجال الدين مع الحكومات، كما هو في العالم الغربي اليوم، وهكذا في ظل النظام العلماني الدكتاتوري لا مكانة لرجال الدين تحت تأثير نظرية الحزب الواحد في السلطة، وأما اذا كان نظام
الحكم ثيوقراطياً اي دينيا يستمد شرعيته من الدين في الحكم سيكون دور للمسؤولين الروحانيين للاديان الاخرى غير الرسمية للتع-اط*ي معهم وأخذ المشورة بخصوص أتباع دياناتهم.
وما الذي يجري في العراق اليوم؟ منذ عام 2003 تغير نظام الحكم ودخلت السياسة في العراق طوراً غريباً وشاذا جداً لا مثيل له في دول العالم قاطبة، فتكونت شبكة من الاحزاب السياسية المتناقضة في ايديولوجياتها، دينية ومذهبية وقومية وعلمانية وباعداد كبيرة، والنفوذ من اليوم الاول من التغيير السياسي هو بيد الاحزاب الدينية الكبيرة، فاستحوذت على السلطة في ضوء الدستور الشاذ الذي وضعته الاحزاب نفسها لكي تحقق أهدافها التسلطية. فهي تحاول فرض أيديولوجيتها المستبدة من التعاليم الدينية والشريعة على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فاذن وفقاً لسياقات العلاقة بين نظام الحكم ورجال الدين، ستتعامل هذه الاحزاب الدينية التي لكل منها مرجعيتها الدينية مع الاديان الاخرى من خلال مسؤوليها الروحانيين، وهذا الذي يحدث تماماً في العراق.
ومن العوامل الاخرى لهذا التع-اط*ي فيما يخص كنائسنا ، الحالة التي تتميز بها احزاب شعبنا من الاثنيات الثلاث، فهي منذ البدء في حالة النفور عن بعضها البعض، ولم تتمكن بالرغم من بعض المحاولات الفاشلة من وضع نفسها تحت مظلة واحدة أو تجمع سياسي موحد لكي توحد كلمتها وقرارها وموقفها مع الاحداث الجارية سواء في المركز أو في أقليم كوردستان. وذلك لعدة أسباب ومن أبرزها: الصراع على التسمية والاصالة، تلك المشكلة التي أعتبرها عويصة ومتفاقمة جداً بحيث شلت عطاء الاحزاب السياسية لشعبنا، وثانهيمها الصراع على السلطة والكراسي وتحقيق المكاسب الشخصية والنظرة الضيقة في أطار الحزب السياسي بدلا من المصلحة العامة، بدليل تكرار الوجوه القيادية نفسها منذ التغيير السياسي في العراق وصراعهم على المقاعد البرلمانية. ومن العوامل الاخرى الاساسية فقدان الوعي للعمل الجماعي وعدم التمتع بعقلية تنطلق من المفاهيم الديمقراطية بل تتأثر بالعقلية الشرقية الابوية في السلطة، بدليل الكل يرغبون في العمل الجماعي ويجتمعون ويطرحون ما لديهم من الاساليب لتحقيق وحدة القرار والعمل المشترك ويصوتون ديمقراطياً، ولكن النتيجة عدم أحترام رأي الاكثرية، فالطرف الذي لا تنسجم النتائج مع ما طرحه من أفكار تراه ينسحب تدريجياً من العمل المشترك، فهذه هي مشكلة الازدواجية في النعرة التسلطية الابوية المتاصلة في العقلية السياسية الشرقية عن طريق التنشئة الاجتماعية والمفاهيم الديمقراطية الوافدة. لهذه الاسباب مجتمعة، وادراكاً منه البطريرك مار ساكو يقدم مقترحاته وتوصياته لأحزابنا السياسية للتنسيق بينهم والعمل المشترك وتوحيد الخطاب لتسهل عملية تع-اط*يهم مع الحكومة. ولعدم الاتفاق السياسي بين الاحزاب خلقت مشكلة تع-اط*ي الحكومتين المركزية والاقليم معهم مما تضطر الى التوجه للمسؤولين الروحانيين.
سابعاً: أذن النقد الموجه من بعض الكتاب والمهتمين بالشؤون السياسية لشعبنا من الاثنيات الثلاث تجاه غبطة البطريرك مار ساكو لتع-اط*يه مع الحكومة ناجم من عدم الوضوح لدى البعض في طبيعة العلاقة بين المؤسسة الدينية والحكومية وعدم الوضوح في المفاهيم لتداخلها وكذلك عدم التمكن من التمييز في السلوك السياسي والاستشاري في العلاقة. وعدم الانطلاق من التفسير الزمكاني للظواهر الاجتماعية والسياسية والعلائقية.
فبدلا أن نوجه ونركز في أنتقادنا لرجال الدين، علينا توجيه الاهتمام الى نقد طبيعة النظام السياسي الديني في العراق الذي يستوجب بحسب أيديولجيته التع-اط*ي مع الرؤساء الروحانيين، فطالما تبقى الاحزاب الدينية مستحوذة على الحكم فهذه العلاقة تظل قائمة. كما علينا معالجة الاحوال السياسية لاحزابنا السياسية ومراجعة الذات وتقييمها لكل حزب وليسال نفسه عن اسباب أخفاقه. كما ارجو نبذ النعرة المتأثرة بالتاريخ وأستغلاله لاثارة النعرات الطائفية بين المذاهب الدينية لشعبنا والنعرات القومية لاثنياته الثلاث، والتوجه والتركيز على الحاضر ودراسة الواقع كما هو لا كما نريده بأحكامنا المسبقة، والتخطيط للمستقبل، والتخطيط هو مؤشر النظرة الى الامام أما التأثر بالتاريخ هو مؤشر التخلف، كما تعمل الاحزاب الدينية.
فلا نحمل غبطة البطريرك مار ساكو أو غيره من البطاركة ذنباً، بل علينا أن نحمل أنفسنا كتبة وسياسيين هذا الذنب، فهو يعمل من أجل مصلحة المؤمنين من الاثنيات الثلاث، وليس بحاجة الى المال والجاه والمكانة، فالمكانة مُنحت له من الروح القدس بالمفهوم الديني، أو من أنتخابه من قبل السيهنودس بالمفهوم الديمقراطي العلماني ،أستناداً لقوانين الكنيسة.
كندا في 15 / 11 / 2016 ..

يمكنك مشاهدة المقال على منتدى مانكيش من هنا

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!