مقالات عن مانكيش

منگيش، بغداد، وجزيرة الفصح؛ ذكريات لا يطويها النسيان

 

Francis

الكاتب: Francis Kalo Khosho

منگيش، بغداد، وجزيرة الفصح؛ ذكريات لا يطويها النسيان

كتابة: فرنسيس كلو خوشو/ سان دياكَو

ترجمة بتصرف: حنا شمعون / شيكاغو

ثمة ذكريات هي منطبعة وان صح التعبير جامدة لا تتزعزع من مخيلتي. وهي بمثابة شريط فديو استرجع اي مقطع منه متى ما شئت. 

ثمة ذكريات هي منطبعة وان صح التعبير جامدة لا تتزعزع من مخيلتي. وهي بمثابة شريط فديو استرجع اي مقطع منه متى ما شئت.

هذا التالي هو اقدم المقاطع وأجملها ويعود بيّ الى أواخر الخمسينات من القرن الماضي وفي قريتي منگيش التابعة حينذاك لقضاء دهوك. هذه الأرض الطيبة كان لها جمال خاص وكنت اظنها هي العالم كله مع بعض القرى الكردية المحيطة ومنها بروژك وكوريمي وكوڤلي التي كنت اسمع عنها في حديث الكبار وكلما زادت سنين العمر كنت اسمع عن قرى اخرى مسيحية/ سورايي مثل داويدية وأرادن ودهي و حتى طَرق سمعي مدن بعيدة مثل إتوك / دهوك ، موصل ، وبغداد. فأصبح ذلك عالمي الصغير الكبير.

في هذه القرية الواقعة بين طورا / الجبل و زوري / التلال المتموجة كان ثمة إيقاع لطيف للحياة بعيد عن الأختراعات الحديثة ومنها السيارة او اللوري الذي كان يسوقه مجيد المصلاوي حيث كان حدها مدخل القرية عند القشلة / مركز الشرطة اما ابعد من ذلك فقد كان “قف ممنوع المرور” وليس ذلك بأوامر نظام السير، إنما الأزقة الضيقة التي كانت تخترق القرية مفروشة مثل الخطوط التي تظهر في راحة اليد لم تكن لتسع هذه الصناديق الحديدية المتحركة. 

كنيسة القرية المبنية من الحجر والآجر كانت وسط القرية التي معظم بيوتاتها كانت طينية وكل ما يقارب ثلاثة او اربع منها وحتى خمسة وستة كانت تشترك بحائط ليجمعها سطح / گاري واحد وان كان احياناً يرتفع واحد منها قدم او قدمين عن الآخر بحيث يمكن لطفل بعمري حينذاك لن يقفز من سطح الى آخر بكل سهولة. من على هذه السطوح كان ينبثق أنبوب الدخان المغطى بقلنسوة حتى لا ينفث المطر من خلاله الى المدفئة الأسطوانية التي عادة تكون في غرفة الجلوس/ صوپا وكان وقودها الخشب. كما كان فوق كل سطح مندروني/ دلاكة لدلك السطح الترابي كي لا يتسرب ماء المطر عبر الشقوق الى فتتناقط في المنزل دلوبي / قطرات الماء.

عبر دروب الأزقة كانت تساق الدواب الى مراعيها اما الرجوع فقد كان مخيراً بين استقبالها قبل ان تصل أطراف القرية بعد صلاة الرمش/ العصر والعودة بها مُساقة او انها ترجع من ذواتها الى بيوتات أصحابها وخاصة المواشي ، اما الأتنات فقد كانت احياناً تضيع طريقها بقصد أوغير قصد — لأن ثمة حمل ثقيل معد لها في اليوم التالي — ولذا كان يلزم للفتيان جلبها عنوة الى البيت. اما الدجاج الذي لايستغنى اي بيت عن تربيته فقد كان يسرح في الدروب او في مزبلة المحلة يأكل ويشرب نهاراً ولا تسمع صوتها الا اذا باضت في قِنها فتسمع نققتها اشارة ان لها هدية صغيرة لذويها، وقبل المغيب كان يركن الدجاج طوعاً الى القنة/ مسكن الدجاج .

حين بلغت السابعة كانت مرحلة جديدة من عمري وهي مرحلة الدراسة الأبتدائية حيث كان معظم المدرسين من أهل القرية وكانوا حريصين لتنشئة جيل شغوف بالدراسة وفعلاً كانوا موفقين حيث عُرفتْ قرية منگيش بنسبة عالية من اصحاب الشهادات والخريجين بفضل معلميها . وفي هذه الفترة كان حدث ثورة ١٤ تموز وأتذكر ان الأحتفال بالذكرى السنوية لهذه الثورة كانت تقام أقواس النصر في مداخل القرية من الجنوب والشمال وكنا نحن الأطفال من يجلب الأغصان لعمل الأقواس.

اعتمد دستور جديد للعراق وحصلت المساواة بغض النظر عن القومية او اللغة او الدين ، ولأول مرة شعر الناس في منگيش بإنتمائهم الوطني العراقي ودخلت السياسة في عقول الناس.

وشهدت هذه الفترة حرية الصحافة وانتشار الكتب وظهرت لأول مرة اجهزة الراديو في القرية وكانت تمتلكها بعض البيوتات المتمكنة وهكذا أدركنا نحن الطلبة الصغار ان العالم اكبر بكثير من محيط قريتنا زاد الوعي واهتم البعض الطلبة الكبار بالسياسة ولكن الغالبية فضلوا الاهتمام بالدراسة والمعيشة على الانتماء الحزبي الذي صار فيما بعد نكبة بعد استيلاء القوميين العرب على مقاليد الحكم في العراق،

المقطع الثاني من ذكريات هذا لفديو هو مرحلة انتقالي من القرية الصغيرة الى مدينة كبيرة هي بغداد العاصمة وكان الصيف في بغداد حاراً مع سماء صافية وكانت الحرارة تبلغ ذروتها في فترة الظهيرة ليدخل الجميع الى البيوتات الا من كان مضطراً للتنقل. كان السكون يغلف كل مكان والنَّاس داخل البيت ليناموا القيلولة حتى العصر ويخرج الناس لرش امام البيوتات والحدائق الصغيرة لتلطيف الجو قليلاً. مرة اخرة كانت تدب الحياة في شوارع بغداد ليخرج الناس الى الشوارع والمنتزهات وقسم من ميسوري الحال اوالذين ذخروا بعض الفلوس يذهبون الى الكازينوهات على شارع ابو نواس المحاذي لنهر دجلة، والبعض الآخر يذهب الى السينمات وحينها المشهورة منها كانت غازي ريكس روكسي، السندباد، الخيام ، والنصر.

عندما انتقلت الى بغداد نشأت عندي رغبة التعرف عليها لانها كانت شاسعة وذلك عن طريق المشي وركوب الحافلات / الباصات من محطة البداية الى آخر محطة ثم العودة على نفس الباص مفضلاً الباصات الحمراء الحكومية ذات الطابقين وفي الطابق العلوي وعند النافذة الأمامية لأرى آلاف الناس جيئاً وذهاباً . كنت أسأل نفسي من أين كل هؤلاء الناس والى أين هم ذاهبون . طبعاً كان هذا مقارنة بأهل قريتي الذين كنت اعرفهم غالبيتهم . كان الباص رقم ٤ يمر قرب دارنا ويرحل الى ساحة الميدان عبر شارع الرشيد المشهور وغالباً ما كنت اترجل من الباص للتجوال في شارع الرشيد سيراً على الأقدام لتفحص أعمدته المليئة بالإعلانات واقف امام المقاهي لأرى كبار السن يدخنون الأرجيلة او يلعبون الطاولي او الشباب منهم يقرأون الجرائد والمجلات مع صوت ام كلثوم الصداح منبعث من جهاز الراديو . وأحيانا كان يقودني سمعي قبل قدماي الى سوق الصفافير لأرى كيف تصنع الصواني والأباريق او يأخذني الفضول الى سوق الهرج لأرى فيه جميع انواع الألبسة والأدوات المستعملة من الأدوات الكهربائية والأدوات المنزلية.

احدى ذكرياتي المميزة في هذه الفترة من عمري كانت الذهاب الى شارع المتنبي وهو شارع منعرج بحدود ربع ميل وسمي الشارع لذكرى الشاعر المشهور ابو الطيب المتنبي وكان مليئاً بالمكتبات والأكشاك والعربات للكتب كما أرصفته كانت تفرش بأنواع الكتب التي غالبيتها مستعملة . كنت شغوفاً بالقراءة لذا كان هذا الشارع ملاذي وخاصة يوم الجمعة يوم العطلة المدرسية لأنهل كل ما أستطيع من المجلات والكتب المفروشة وحين كان لي بعض النقود كنت أغادر المكان بكتاب او كتابين.

في احد الأيام كنت واقفاً قبالة كشك في شارع المتنبي ولمح بصري كتاب التقطته باستغراب لان على غلافه كانت صور لتماثيل غريبة ذوات انوف كبيرة وغريبة وأذان مثلثة الشكل وشقوق العين عميقة . عنوان الكتاب ذكر فيه جزيرة الفصح.

في صيف عام ٢٠١٥ وصلتني رسالة الكترونية عن رحلة سياحية الى جزيرة الفصح وعنوان الرسالة كان ” كشف اسرار والغاز آثار من الحديقة الوطنية روبا نوي في جزيرة الفصح” ، ولاحظت نفس الصور التي كنت قد رأيتها في شارع المتنبي اي بعدما يقارب

النصف قرن وغلبني فضول لمعرفة المزيد عن هذه الجزيرة واتفقنا انا وزوجتي برناديت لزيارة هذه الجزيرة الغريبة في شهر كانون الثاني من عام ٢٠١٦.

تقع هذه الجزيرة النائية نحو ٢٠٠٠ ميل الى الغرب من تشيلي في الجهة الجنوبية من المحيط الهادئ. اكتشفها الهولندي جاكوب روج فين في عيد الفصح ( القيامة) من عام ١٧٢٢، ولذا سميت بهذا الأسم. المواطنون الأصليون يعرفون جزيرتهم حسب لغتهم بإسم ” تبي بيتو اوتي هينا” اي نهاية الأرض او سُرَّة العالم.

في هذه الجزيرة وجدنا تماثيل ضخمة لأشخاص تسمى ” موي” تم نحتها قبل مئات السنين. نُحتت هذه التماثيل من الصخور البركانية او البازلت. وعندما وقعت عيني على هذه التماثيل الضخمة تذكرت في الحال تماثيل رأيتها في ارض الرافدين / بيث نهرين، في بابل حيث وقفت ايام دراستي في المتوسطة مرعوباً امام أسد بابل، وفي نمرود حيث وقفت بإعجاب احاول تفسير المعنى امام تماثيل الثور المجنح التي كانت تحرس أبواب القصور الآشورية قبل أكثر من الفيتين ونَيف سنة.

تماثيل جزيرة الفصح رأيتها تحمل الغازاً اكثر من تماثيل العراق ولا زال العلماء محتارين متى وكيف بنيت هذه التماثيل الغريبة العملاقة المدفونة في الأرض لحد العنق. هل تمثل اله معين ام هي تجسد أشخاص معينين ام هي اضرحة للموتى؟؟

دليلنا السياحي ابلغنا ان المستوطنين الأوائل وصلوا الى هذه الجزيرة حوالي القرن الخامس الميلادي من جزر بولينيزية .

ويقول التقليد ان سكان الجزيرة كانوا أولاً يعبدون هذه التماثيل ثم صار تقليداً ان يعبدوا بيردمان الذي يتم اختياره تقليدياً من سباق سنوي يمر فيه المتسابقون بمجازفات منها السباحة في مياه تكثر فيهأ سماك القرش القاتلة الى جزيرة صغيرة وجلب بيضة طير من عش فوق صخرة ضخمة . الفائز الأول كان يُنصب حاكماً والهاً معبوداً لمدة عام كامل ينتهي بمسابقة اخرى لأختيار حاكم ومعبود جديد. وبطل هذا التقليد عام ١٨٦٠ إذ اصبحت المسيحية الدين الرسمي للجزيرة .الكنيسة الوحيدة في هذه الجزيرة مزينة بتماثيل يسوع المسيح ومريم العذراء والملاك ميخائيل على غرار الفن البولينيزي . كما يرى التأثير زخارف رابا نوي القديمة على المنحوتات في المقبرة المسيحية الموجودة في الجزيرة.

على حافة سانجو روا البلدة الوحيدة في جزيرة الفصح كنا نستمتع مع كثير من الناس الذين يتجمعون على جانب من التل لمشاهدة غروب الشمس الساحر من وراء تماثيل موي وهذا المنظر ذكرني بغروب الشمس في منگيش وراء مقبرة نشموني التي تقع على تلة صغيرة لتختفي بشكل حزين ومؤثر حيث نهاية جبل منگيش الأشم وحيث يقل ارتفاعه ليوازي الأرض المستوية مثل استواء البحر خلف جزيرة الفصح.

ذكرى الغروب من منكَيش هي لوحة فنية مطبوعة في مخليتي وان كان لي ان اعطي اللوحة عنواناً معبراَ فأني بلا شك سوف اختار عنوان : الوداع الأخير. ومع هذه الذكرى الحزينة من الشريط الأول انهي تقريري هذا على أمل اللقاء في موضوع آخر عن قريتي العزيزة.

فرنسيس كلو خوشو / سان دياكَو

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!