مقالات

دستورٌ تحت التجربة (دستور العراق انموذجاً)

دستورٌ تحت التجربة
(دستور العراق انموذجاً)
الدستور هو الوثيقة الاسمى في هرم التشريع لاي بلد وهذا ما اجمع عليه الفقه الدستوري، وفي الدستور العراقي النافذ نص على ذلك صراحةً في المادة (13/أولا) التي جاء فيها (يُعدُ هذا الدستور القانون الاسمى والاعلى في العراق، ويكون ملزماً في انحائه كافة وبدون استثناء)، وهذا السمو على سائر التشريعات يضفي عليه القداسة التشريعية، وعدم سهولة المساس به، لأنه يمثل إرادة الامة التي صوتت عليه بالاستفتاء الشعبي، وتلك القداسة ادت الى جعل بعض الدساتير جامدة غير قابلة للتعديل او التغيير الا بوسائل واليات معقدة،
مما يوحي ان ذلك الدستور يكاد يلامس الكمال التشريعي، لكن هناك جانب كبير من الفقه الدستوري يؤكد على عدم جواز تقييد الامة بمراجعة تلك النصوص، لان ذلك يعني تقييد للأجيال القادمة وحرمانها من تعديل تلك النصوص لمواكبة الجديد في العلاقات الإنسانية ومن ثم وضعها في سياقها الدستوري، وهذا التقييد لا يقره العقل ولا المنطق ولا يجيزه مبدأ سيادة الأمة، لان حق الأمة يبقى قائماً في تعديل دستورها وحرمانها من هذا الحق هو حرمانها من المظهر الأول والأساس لسيادتها،
وهذا ما دعا الى وضع اليات في نص الدستور حول كيفية تعديله، والسبب في ذلك لان الدستور لا يمكن تعديله بموجب اليات تعديل القوانيين والتشريعات الأخرى، حيث انها تعدل بواسطة المؤسسات التشريعية التي أصدرتها اول مرة ودون الحاجة الى العودة الى الشعب، لوالدستور قد فوضها ذلك، فضلا عن كونها قد ولدت من رحم الدستور،
بينما الدستور كتبته هيئة خاصة واقترن بمصادقة الامة عليه عبر الاستفتاء، مما لا يجوز تعديله من أي جهة الا من الامة التي صادقت عليه، وهذا ما جعل هيئة كتابة الدستور، ان ترسم الاليات التي يتم بموجبها تعديل الدستور، وتكاد اغلب دساتير العالم تشترك في هذه الخاصية،
كما وجد ان اغلب دساتير العالم ترسم طريق واحد ومحدد لكيفية تعديل النص الدستوري، ومنها على سبيل المثال الدستور المصري وردت الية التعديل في مادة واحدة وأسلوب واحد وعلى وفق احكام المادة (226) من دستور عام 2012 المعدل، ودستور تونس لسنة 2022 ودستور لبنان لسنة 1925 المعدل وغيرها من الدساتير العربية، ومثل تلك الدساتير ما ورد في الدستور الفرنسي لعام 1958 المعدل، حيث اختط مساراً واحداً لتعديل الدستور،
اما في الدستور العراقي لعام 2005، فانه اتى بأسلوبين لتعديل الدستور تختلف كل واحدة عن الأخرى وهما ما ورد في المادة (126) من الدستور التي تعد السبيل الأصلي والدائم لتعديل الدستور، ثم اردفه بنص اخر في المادة (142) التي أضاف بموجبها أسلوب اخر لتعديل الدستور يختلف كلياً عن الأسلوب المعتمد في المادة (126) من الدستور،
مما أربك المشهد الدستوري لدى كل المشتغلين فيه، بل أربك الاجتهاد القضائي، عندما طلب من المحكمة الاتحادية العليا بيان النص المعتمد تجاه طلب التعديل الدستوري، فهل يكون على وفق احكام المادة (126) ام المادة (142) من الدستور، وأصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها التفسيري العدد 54/اتحادية/2017 في 21/5/2017 الذي اعتبرت فيه نص المادة (126) معطلة لحين إتمام العمل بموجب المادة (142) من الدستور،
وكان لنا موقف من هذا الاتجاه في التعامل مع اليات تعديل الدستوري عبر دراسة موسعة نشرتها عدة صحف ومجلات ومواقع الكترونية في حينه والموسومة (اليات تعديل الدستور في ضوء احكامه النافذة) وخلصت فيها الى ان (عدم انجاز اللجنة المشار اليها في المادة (142) من الدستور لأعمالها لا يمنع مجلس النواب أو رئيس الجمهورية مع مجلس الوزراء مجتمعا على تقديم المقترحات للتعديلات التي يرونها مناسبة ولازمة لمعالجة الأوضاع التي تأثرت بغموض أو النقص في النصوص الدستورية، وتكون هذه المقترحات على وفق أحكام المادة (126) من الدستور)،
لكن قد يسأل سائل ما الحكمة من وضع هذه الاليات المتقاطعة في احكامها ضمن طيات النص الدستوري؟، والجواب يكاد يكون معروف، حيث ان الفترة التي كتب فيها الدستور كان فيه طيف كبير من العرب السنة مقاطعين للعملية السياسية برمتها، وكتب النص الدستوري دون الاستئناس برأي ممثليهم، مع ان لجنة كتابة الدستور كانت تظم شخصيات علمية واكاديمية وسياسة من العرب السنة، الا ان المزاج الشعبي في حينه كان رافضاً لهم، ونعتهم بشتى النعوت والاوصاف، لذلك وفي اللحظات الأخيرة تم الاتفاق على المشاركة في الاستفتاء بعد ان أضيفت المواد (140, 141, 142, 143, 144) ، وكانت الغاية منها منح العرب السنة الحق في مراجعة النصوص الدستورية خلال المدة التي حددتها المادة (142) من الدستور، ومن ثم التوافق عليها والسير فيها للتعديل، الا ان الاكراد وحرصاً منهم على عدم التفريط بالمكاسب التي تحققت لهم بموجب الدستور وضعوا فيتو يتمثل بإسقاط التعديلات في حال رفض ثلاث محافظات عند الاستفتاء وعلى وفق ما ورد في النص النافذ، وهذه الظروف هي التي انتجت لنا السبيل الاستثنائي والغريب على اليات كتابة الدساتير،
لكن التعديلات التي اشارت لها المادة (142) من الدستور هي تعديلات تتعلق بعموم الدستور ولا يوجد لديها أي محظور زمني او موضوعي، بمعنى لتلك التعديلات ان تغير أي نص بل حتى جميع نصوص الدستور وتستبدلها جميعا بنصوص جديدة، وتعرض التعديلات المقترحة من قبل اللجنة دفعةً واحدة على مجلس النواب للتصويت عليها، ومن ثم يتنهي مفعول المادة (142) من الدستور، لكن نتيجة الأوضاع السياسية التي يمر بها العراق ما زال العمل متوقف في المادة (142) من الدستور، وانعكس هذا التوقف على اليات تعديل الدستور، وعًدَّ مانعاً من أي تعديل،
لذلك ما هي طبيعة المادة (142) من الدستور اذا لا تعتبر من اليات تعديل الدستور لكونها مؤقتة وتنتهي وتزال باتمام العمل على تقديم التعديلات المقترحة ، لان الثابت انها وسيلة استثنائية لتعديل الدستور محددة المدة وتكون بصفقة واحدة لكل التعديلات؟، وارى ان الجواب يتمثل بكونها تضمنت وجود لجنة تتولى المراجعة لنصوص الدستور وتقييمها والوقوف على نقاط الضعف والقوة فيه من خلال التطبيق العملي له، وليس وسيلة والية دائمة لتعديل الدستور، وانها وضعت الدستور تحت التجربة، لمعرفة مدى قدرته في تسيير أمور البلاد والكفاءة التي يتمتع بها، فاذا وجدت لجنة المادة (142) من الدستور، ان الدستور قد نجح في الاختبار واثبت كفايته، فإنها سوف توصي بعدم التعديل او اجراء تعديل جزئي، او ترى انه قد فشل في معالجة وتنظيم شؤون البلاد، بل انه خلق أزمات دستورية، توالدت منها أزمات سياسية واجتماعية وغيرها، فإنها سوف تعلن فشله خلال فترة التجربة وتعيد كتابة نصوص دستورية جديدة تتجاوز فيها كل سلبيات التطبيق للنصوص النافذة حاليا،
وبذلك فان دستورنا النافذ الوحيد الذي ما زال تحت التجربة، التي امتدت من عام 2005 ولغاية الان وهي أطول فترة تجريب، حيث ان السائد في العمل الوظيفي ان الموظف يكون تحت الجربة لمدة سنة واحدة ومن ثم ينظر في كفايته فأما يُثبَت واما يعزل، الا دستورنا فانه ما زال غير مثبت وما زال يعاني من التجريب، وبين الحين والأخر يدخل في دهاليز المختبر القضائي واحيانا السياسي، لإجراء المعالجات الترقيعية، من اجل تسيير أمور البلاد حتى وان اعتراها العوار الدستوري،
وفي الختام أتمنى ان تنتهي فترة التجربة التي قد قاربت ان تجعل منه كهلاً على مشارف الموت وهو ما زال تحت التجربة، وان نتدارك كل الأخطاء الصياغية او الاجتهادية وحتى التطبيقية التي حدثت من جراء بقائه تحت التجربة، ومن ثم الانطلاق نحو تأسيس للحكم الرشيد الذي أساسه سيادة القانون وليس سيادة الأشخاص، وان يكون المسطرة التي تقاس عليها مشروعية الاعمال، وليس الوسيلة التي تبرر سوء العمل، وان يكون فوق الجميع لا ان يكون فوق المواطن العادي وتحت المتنفذ ذو الشهوانية للسلطة والتسيد والاستحواذ على مقدرات الامة.
قاضٍ متقاعد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!