مقالات عامة

مدارس الفن الروسي للأيقونة وفنانها روبليف 

مدارس الفن الروسي للأيقونة وفنانها روبليف 

بقلم / وردا إسحاق قلّو

طابع اندريه

صورة الفنان أندريه روبليف على طابع روسي

   إبتدأ الفن الصوفي في روسيا برسم الأيقونات التي تحمل جمالاً مؤقراً ورصيناً سماوياً . وكان للفن البيزنطي تأثيراً كبيراً في ولادة هذا الفن في مدن روسيا .

  رسم الأيقونة هو ناتج ذهني يُعَبّر عنهُ الفنان الموهوب لرسم صورة لشخصية تنوب عن صورته الشخصية الحقيقية المتوارية عن الأنظار لتندمج معها ، والصورة هي وسيلة  تتكون من مجموعة خطوط وألوان تقربنا من المقصود لأهداف إيمانية . وبعد إنتهاء الفنان من الرسم تُكَرّس وتقدس من قبل آباء الكنيسة وذلك برفع صلوات خاصة ومن ثم تعرض في المكان المناسب في الكنيسة أو الدير .

 إبتدأ رساموا مدرسة موسكو برسم الأيقونات الروسية أكثر من غيرها من مدن البلاد وتميّزَت بطابعها البيزنطي . فكيف بدأ هذا الفن في روسيا ؟

دعا أحد أساقفة موسكو معلمين يونانيين لتزيين كنيسته باللوحات الجدارية ، ففي سنة 1395 م وصل إلى موسكو الرسام الشهير ثيوفانوس اليوناني ، فظل يرسم ويتلمذ حتى وفاته . لكن رغم هذا التأثير ، إنفرد الفن الروسي عن سلفه البيزنطي إذ لطف شىء من تقشفه ، فإنفجرت ألوانهِ ، وسطعت ببريق خاص وألوان زاهية ، وأتخذ في ما بعد طابعاً وطنياً ، فبدأ الفنان الروسي برسم وجوه القديسين المحليين ويعطيهم المكانة الكبرى في مواضيعه ِ .

   برزوا فنانين عباقرة في مدرسة موسكو ، منهم الرسام أندريه روبليف ، ومعلّمَي ديونيزي ، وهما من أشهر معلمي الرسم في القرن الخامس عشر ، أبدع روبليف برسم لوحة الصعود وكأنه عاش الحدث كتابياً وطقسياً وروحياً حيث تعمق في معنى الموضوع فشق الألوان وتلاعب بدرجاتها ، وقاس المساحات والكُتَل ، أما الوجوه فرسمها برقة ملحوظة تشير إلى ذوق رفيع وإحساس مرهف . وتلك اللوحة هي من مقتنيات متحف ( تريتياكوف ) في موسكو رسمها الفنان عام 1408 أشتركت لوحة الصعود في معرض أيقونة ( الصعود ) في أثينا ، وشارك الزعيمان فلاديمير بوتين ورئيس وزراء أثينا في إفتتاح المعرض ، فقال رئيس الورزاء اليوناني ، أن بلاده تفتخر بإستضافة هذه الأيقونة وتعتبر ذلك شرفاً كبيراً .

لوحة الثالوث 

الملائكة الثلاثة

ولد أندريه روبليف بين عام 1360 – 1370 في إمارة موسكو  وتوفي بين عام 1427- 1430. يعتبر واحداً من أعظم الرسامين الروس في العصور الوسطى ، ذلك الراهب الموهوب الذي دمج أسلوب نوفغورود والأسلوب الكلاسيكي لتعميق التعبير عن المشاعر الدينية ، وهوالذي أبدع في رسم أيقونة إبراهيم وهو يستقبل الملائكة الثلاثة ( الثالوث ) الشهير . جَرّدَ الموضوع من الحادثة التاريخية وأعاده إلى أصلهِ الأولي ، فعرى اللوحة من كل التفاصيل المألوفة وسَما عالياً بالمنظر العام إلى أجواء أثيرية سماوية رفيعة ، وجعلَ من الشخصيات الزائرة ثالوثاً يُعَبرعن ثالوث الله القدوس قبل إنشاء العالم ، أي في اللازمن . ولم يرسم إبينا إبراهيم معهم ، ليرسم الملائكة الثلاثة حول المائدة التي أعدها لهم إبراهيم . فحول الطعام كانوا الثلاثة يتنعمون بالسكنة والهدوء . وشعور بالراحةِ والسلام التي تنبعث من كيانهم . ورحتهم العجيبة حول المائدة تُعَبر عن ذهول ودهشة . وكان الكأس الحامل صورة الحمل موضوع إهتمامهم لأنه الحمل المذبوح والمهيأ قبل إنشاء العالم المادي . إنه قلب الثالوث الأزلي . فالله محبة في ذاتهِ ، في جوهره الثالوثي ، إذاً هو تضحية وذبيحة ، ومحبتهِ للعالم ليست إلا إنعكاس محبتهِ الثالوثية . يقول أفدوكيموف ( بين الوجود والعدم لا يوجد أساس كينونة إلا الأساس الثالوثي . إنه الأساس الذي لا يتزعزع ، الذي يجمع بين الإفرادي والجماعي ، ويعطي المعنى الأخير لكل شىْ ) . صورة الله الغير المنظور والمثلث الشموس لحقيقةٍ واحدة مطلقة هو ينتصب أمامنا كمبدأ وحيد لكل وجود . ساهمت عبقرية هذا الفنان في إبداع هذه الآية الفنية التي كثيراً ما تكلم عليها الزي الفني العالمي . جمالها كامن في إكتمالها الفني والعقائدي . فالملائكة الثلاثة يشكلون المجلس الأبدي . رسم تلك اللوحة عام 1411 وضاعت تلك اللوحة الشهيرة مئات السنين ثم تم العثور عليها من قبل النُقاد الذين ضربهم مهارة ذلك الفنان القديم .

   في سنة 1515 عندما دشنت كاتدرائية الرقاد في موسكو ، وكانت قد زُيّنَت بلوحات أنجزها تلاميذ روبليف ، وبينها أيقونة الأيقونات التي كان قد رسمها العملاق روبليف . أندهش الحاضرون أمام تلك الأيقونة الرائعة ، وهتفَ المتروبوليت والأساقفة والمؤمنين الحاضرين :

( في الحقيقةِ السماوات إنفتحت وإنكشف بهاء الله ) . 

   في النصف الثاني من القرن الرابع عشر تطورت روسيا ثقافياً وروحياً بسبب تأثير القديس سرج رادونجسكي ، شفيع روسيا والأكثر القديسين شعبية في القرون الوسطى . إنعزل منذ صباه في غابة كثيفة في وسط روسيا فإلتف حوله تلاميذ عدة ، وبادر إلى بناء الأديرة في شمال شرق موسكو ، فبنى دير الثالوث ( زاغورسك حالياً ) فأصبح مركز إشعاع روسيا . وروبليف الفنان أصبح راهباً في دير الثالوث ، وتدرب على الرسم في مشاعل الدير الذي صار من أهم مراز الفن الكنسي في تلك الأيام . ثم ترك روبليف ديره وذهب إلى موسكو ليعمل رساماً ، ثم عاد إلى الدير بعد وفاة رئيسه الذي حزن عليهِ جداً .

الألوان 

   للألوان لغتها الخاصة عند الفنان روبليف ، فيها تموجات وغِنى لا مثيل له ، كل قطعة من اللوحة تفيض بنورها البَهيّ الذي يتفجر من جذورها السرية . الصورة المركزية فيها كثافة في الألوانِ ( الأحمر الغامق يشير إلى المحبة الإلهية . الأزرق الكثيف ، ويدعى بأزرق روبليف ، يشير إلى الحقيقة السماوية ، ولذلك يتراءى تحت جُبّة ملاك اليسار الطبيعة الإنسانية للمسيح تجلل كبيعته الإلهية ) . سلسلة الألوان تتلاعب مع اللون الذهبي اللماع وتتناسق معه فتبرز الأيقونة كنتاج فني رائع يُعَبّر عن خلاصة سِحر روبليف الذي يوحى بشعور عميق ، ولكنه غير عاطفي . فيه رِقَة من دون ميوعة ، فيهِ أناقة ممتزجة بالرصانة ، وفي خطوطهِ خِفّة تحمل صلابة ومتانة .

برز فنانين كثيرين بعد الفنان روبليف منهم 1- اليكساييتروف 2- اليسبي بيجرسكي 3- فيدور زوبرف 4- سيمون أوثاكوف 5- ديونيسيوس 6- دانيال الأسوَد . وغيرهم .

   في الختام نقول : برزت في روسيا مدرستان لرسم الأيقونة ، وهي مدرسة موسكو ونونغورود الشهيرتان . كل مدارس روسيا تعود إلى ما قبل القرن السادبع عشر لأن بعد هذا التاريخ ، إبتدأ الفن الروسي يميل إلى الإنحطاط . المعلوم أن الفن الروسي ورث الفن البيزنطي ، تعلَّمَه الرسامون من المعلمين البيزنطيين ولكن الخِبرة المكتسبة والعبقرية المحلية والبيئة المختلفة والروحانية العميقة كلها عوامل مهمة ساهمت في إبداع فن جديد متميّز له علاماته الفارقة . ومع الوقت أصبحت الأيقونة الروسية تراثاً دينياً ووطنياً ورمزاً للدولة ، ترافق الرؤساء في المعارك وتحمي المؤمنين ، فالشعب الروسي إذاً لم ينقل فن الرسم بطريقة عمياء ، بل ساهم بذوق فنانيه وإبداعهم فطوروه ورسموا قديسين جدداً ومنهم الأبطال والأمراء البارزين . والجديد ، أنهم صوروا لوحات تمثل حروباً ، مما أوجد فناً له فرادته ومميزاته . ففي الرسم البيزينطي مثلاً نجد الألوان غامقة مكثفةً والوجوه على شىء من القساوة . لا يمكن الكتابة عن كل الأيقونات الروسية لكثرتها ، ومنها أيقونة الصليب التي تنتمي إلى مدرسة ( نوفغورود ) الرائعة من الناحية الفنية ، ومصدرها متحف لوفر . هذه الأيقونة مأساوية في موضوعها ، جميلة في إدائها ، ولكنها لا تخلو من شىء من الفرح . أما ألوانها فنقية ثابتة ، وأسلوبها متفوق ورفيع . كثير من الأناقة في حركة يوحنا الحبيب . جسد السيد ( نائم كالمائت ) وكأنه ملقى برشاقة على عود الصليب . وفي وقفة مريم وِقار يتحكم بالألم وكأن أمل القيامة مسيطر . كما سطرت أيقونات أخرى قصص من وحي الكتاب المقدس ، وكتابات الآباء والمخيلة الشعبية الروسية .

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!