مقالات دينية

لاهوت الصليب المقدس

لاهوت الصليب المقدس

بقلم / وردا إسحاق قلّو

قال يسوع ( من لا يحمل صليبه ويتبعني ، فلا يستحقني ) ” مت 38:10 “

   فكرة الصلب بدأت على خشبةٍ عمودية أو حتى على الشجرة ، كان يعلق عليها الإنسان ثم يُسمَّر . وتدريجياً نال الصليب الشكل الذي نعرفه ، وذلك بغرس جزء من الجزء العمودي في الأرض ، وحين يصل المحكوم عليه إلى موقع الإعدام ، يربطون معه الجزء الأفقي الذي غالباً ما كان يحمله المذنب من مكان الإدانة وكما كان الحال مع يسوع الذي حمله في طريق الجلجلة الطويل إلى القمة التي صلب عليها . فالخشبتان عندما تجمع معاً بشكل متقاطع تشكلا الصليب الذي له أربع أطراف ، وكل طرف يشيرالى جهة من جهات العالم الأربعة ، والتي ترمز إلى خلاص كل الأمم . كما يرمز الصليب إلى العدل الإلهي الذي عليه حصل العدل بعد دفع الفدية بدم المسيح ، وعليه عادت الرحمة الإلهية ليتصالح مع الإنسان الخاطىء .

   الصليب هو الميزان الذي يقيس عليه المؤمن حبه لله بالذراع العمودي الأعلى . وحبه للإرضيات بالذراع العمودي المتجه نحو الأرض  . فكم هو طول محبته للذراع العمودي في حياته البشرية والمتجه نحو السماء حيث عرش الله ،  قياساً بمحبته لما يعود للذراع المغروس في الأرض والخاص بالمصالح الدنيوية . فعلى الإنسان أن يحاول الموازنة بين الذارعين في محبته . أو الأقتراب من الذراع الأعلى بقدر الإمكان لأنه الأهم وبحسب الوصية ( تحب الرب إلهك من كل قلبك ، ومن كل نفسك ، ومن كل قدرتك ، ومن كل فكرك .. ) ” لو 27:10 ” . وهكذا بالنسبة إلى ذراعي اليمين واليسار الخاصة بالعمود الأفقي ، لإن احدهم يشير إلى مصلحة القريب ، والآخرإلى حب الذات ، فيجب أن تتساوى لكي نطبق وصية الرب ( أحبب قريبك كنفسك ) .

 إذا كان الصليب أدات إعدام وإنتقام عند الأمم ، ففي المسيحية صار علامة الخلاص ، فيه سر عظيم ، بل هو محور الإيمان المسيحي الأساسي . هو المذبح الذي أختاره الله لكي يقدم عليه الذبيح العظيم ، إبنه الحبيب الذي دفع ثمن خطيئة العالم . لهذا يعتبر الصليب موضوع تفكير لاهوتي عميق نلتمسه من الروايات المدونة في أسفار العهد الجديد . . فلاهوت الصليب يفهم مراراً على أنه موضوع خلاص ، غايته تشجيع المسيحيين حمله في حياتهم كما حمله سيدهم . أي حمل ألام هذا الدهر بفرح وصبر وإيمان . فالصليب مفروض على كل مؤمن وبحسب قول المسيح ( ومن لم يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحني ) ” مت 38:10 ”  . إذاً الصليب هو واقع قبل أن يكون لاهوتاً لكي يكون له قيمة في حياة كل مسيحي مؤمن بالمسيح المصلوب الذي أستخف بعار الصليب ( طالع عب 2:12 ) لهذا كان الصليب عثرة لليهود ، وحماقة للوثنيين ( 1 قور 23:1 ) فالكرازة به تصطدم بواقع هذا العالم الذي يؤمن بأن من يموت على الصليب فموته مخزي ، فكيف يفهم موت إبن الله على الصليب ! وهذا السر لا يستطيع أن يدركه غير المؤمن الذي يفسرالصليب بأداة موت ، لكنه لا يدرك أنه أيضاً يُعّبر الإنسان من الموت إلى القيامة ، وإلى الحياة ! وفي ذلك العبور تظهر رسالة للغةٍ جديدة ذات منطق عظيم ، هو منطق قدرة الله الذي يختلف عن حكمة البشر . ففي سر الصليب يظهر الله محبته لبني البشر إذ يصالح الخطاة بأبنه المصلوب . فكل مؤمن بعمل الصليب الذي يحمله في حياته يقتدي بالمسيح المصلوب ليشاركه في آلامه ، ولكي يشاركه المسيح في قيامته ، ويعطيه جسداً جديداً وممجداً . وهكذا انتقل مفهوم الصليب من أداة الغزي والعار والحماقة إلى أداة خلاص .

   درب الصليب هو درب الإيمان الطويل ، فالذي يحمل الصليب في حياته ، فبه يستطيع الصعود إلى السماء . أي من يحمل الصليب ، سيحمله الصليب أيضاً إلى الأعالي ، لأنه السلّم الذي به يستطيع الإنسان أن يصعد إلى السماء .، أنه السلّم الذي رآه يعقوب . لقد قضى المؤمنين بالمصلوب الإلهي وقتاً ليفهموا سر الصليب وبعدها أختاروه رمزاً لخلاصهم وراية لمعابدهم ، يحملونه على صدورهم ، وينقشوه على رايات بلدانهم ، وعلى تيجان الملوك . يقول الرسول بولس ( فإن لغة الصليب حماقة عند الذين في سبيل الهلاك ، وأما عند الذين في سبيل الخلاص ، أي عندنا ، فهي قدرة الله ) ” 1 قور 18:1 ” وببضع كلمات يحل بولس صورة الصليب محل صورة المعمودية ، فيضعها أولاً في التوازي ، عندما يقول ( أبولس صلب من أجلكم ؟ أم بإسم بولس إعتمدتم ؟ ) ” 1قور 13:1 ” . حكمة الله مخفية في سر الصليب ، فللصليب لغة تتحول إلى مفتاحاً يسمع بإعادة قراءة الكتب ، إنه طريق الكشف عن مخطط الله النهائي . ففي صورة الصليب تتخطى الكتب ذاتها ، والصليب يجعلنا أن نرى الجديد الذي يكشفه روح الله الساكن في قلوب الذين يحبون الله ، لأن ( الروح يفحص عن كل شىء حتى عن أعماق الله ) . فروح المسيح الساكن في المؤمن منذ سرَّي المعمودية والميرون ، فهو أيضاً مصلوب مع المسيح ويحيا المسيح فيه ، كتب الرسول ( وقد صلبت مع المسيح ، فما أنا أحيا بعد ذلك ، بل المسيح يحيا فيّ ) ” غل 20:2 ” . إذاً يجب أن يموت المؤمن عن الخطيئة ليعيش لله في المسيح يسوع ، وإلا يخضع بعد إلى سلطان الخطيئة في جسده ، فيذعن شهواته ، لأن المسيح مات عنه ، والمؤمن يرتبط بالمسيح المصلوب . لا شك أن المسألة هنا ليست صلب المؤمن كالمسيح واقعياً أو جسدياً ، بل صلباً مجازياً لكل شهواته لعمل الخطيئة . فكل مؤمن معمد عليه السير في حياة جديدة ، وينبذ كل ما ينتمي إلى الإنسان القديم .

أخيراً نقول : المسيح مات على الصليب ، وعلى الصليب أظهر الله الآب محبته للبشر ، وكشف الطريق للذين يقبلون أن يكونوا أحراراً من خطاياهم ، ويقبلون المصالحة المجانية التي تحققت بين السماء والأرض . والقبول هنا يعني رفض كل الأمور الأرضية القديمة التي كانت عند الإنسان العتيق ، فعلينا أن نصلبها على الصليب الذي هو الجسر الذي يربطنا مع مجد الله الذي يحوّل أجسادنا المهانة لتشبه جسد أبنه الممجد .

التوقع ( لأني لا أستحي بالبشارة . فهي قدرة الله لخلاص كل مؤمن ) ” رو 16:1 “

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!